أمجد أحمد جبريل *
على الرغم من تصاعد النفوذ الصيني في إقليم الشرق الأوسط، في السنوات القليلة الماضية، وتزايد طلب دول المنطقة على أدوار بكين ووساطاتها في الأزمات الإقليمية، لم تشهد السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط “نقلة حقيقية”، استجابةً لتداعيات عملية طوفان الأقصى (7/10/2023)؛ إذ بقيت بكّين تمارس في المنطقة سياسة ذات ثلاث ركائز؛ أولاها انتهاج “دبلوماسية المقاعد الخلفية”، بمعنى عدم السعي إلى صدارة المشهد الدولي، عبر استباق المواقف الأميركية، خصوصا تجاه قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي. والثانية الاكتفاء بـ”التعويل على دور مجلس الأمن “، ثم ممارسة “المناكفات الدبلوماسية” مع واشنطن لاحقا، بعد كل مرة تعطل فيها هذه الأخيرة دور المجلس، مع إظهار الصين “دولة عظمى ومسؤولة، وتعمل على حل الأزمات الدولية”. والثالثة تركيز مقاربة بكين على مفاهيم: “التنمية السلمية”، و”الشراكات الاقتصادية المتوازنة”، و”الحفاظ على بيئة دولية مستقرة”، و”تقديم القدوة الحسنة والقيم الجذابة”، و”عدم فرض نموذجها الفكري السياسي أو الأيديولوجي”، مقارنةً بالنموذج الليبرالي الغربي/ الأميركي الساعي لفرض نفسه بالقوة على دول العالم.
أولوية إبعاد واشنطن عن “المجال الآسيوي للصين”:
وفي إطار تحليل السياسة الصينية تجاه عملية “طوفان الأقصى”، وتجاه إقليم الشرق الأوسط إجمالاً، ثمّة أربع ملاحظات؛ أولاها غلبة سمة “التريّث” على الدبلوماسية الصينية، وعدم “الانخراط النشط” في القضية الفلسطينية وإغفال تصاعد أهميتها بعد “7 أكتوبر”، مقارنةً بالموقف الأميركي، بالتوازي مع تركيز بكين على أولوياتها “الآسيوية”؛ إذ تركّز الصين على قضايا تايوان وبحر الصين الجنوبي وجوارها الآسيوي عموما، وما يتصل بهذه المنطقة من مشكلات ذات تأثير مباشر في الأمن الصيني، خصوصا ما يتعلق منها بالسياسات الأميركية، ومحاولاتها المتكررة تطويق تمدّد الفاعل الصيني، عبر تحالفات واشنطن الآسيوية، كما ظهر من عدة مؤشرات؛ أولها اعتزام الرئيس الأميركي، جو بايدن، عقد قمة في البيت الأبيض، مع الرئيس الفيليبيني فرديناند ماركوس، ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، (في11/4/2024). والثاني، زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الفيليبين، وانزعاج بكين من إعلانه التزام بلاده الدفاع عن الفيليبين، في مواجهة أي هجوم مسلح في بحر الصين الجنوبي، الذي شهد مؤخرا تصادمات بين السفن العسكرية الفيليبينية والصينية. والثالث اشتداد التنافس الصيني الأميركي، وبروز “سياسة المناورات العسكرية، والمناورات المضادة”، كما تجلّى في إعلان الجيش الصيني تنفيذ “دوريات قتالية” في بحر الصين الجنوبي (7/4/2024)، بالتزامن مع تنفيذ الولايات المتحدة والفليبين واليابان وأستراليا مناورات عسكرية مشتركة في المنطقة الاقتصادية الخالصة للفيليبين، تجسيدا “للالتزام الجماعي للحلفاء، بتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، بهدف بقاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ منطقة حرّة ومفتوحة”.
دور محدود أم “تريّث مقصود”؟
امتنعت الصين بعد عملية طوفان الأقصى، عن إدانة حركة حماس، وكرّرت دعواتها إلى وقف التصعيد، و”الإفراج عن المدنيين المحتجزين”، ومطالبة الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بالسعي إلى تحقيق حل الدولتين. في هذا السياق، كرّر المندوب الصيني في مجلس الأمن، تشانغ جون، في خطاباته خطّة سلام ذات أربع نقاط؛ وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة (من دون قيود وبكميات كافية)، وإطلاق سراح الرهائن، والعمل بجدية على “حلّ الدولتين”. كما استخدمت بكين (إضافة إلى موسكو) “الفيتو” ضد مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن (22/3/2024)، وبرّرت الصين موقفها بأن “المشروع غامض، ولا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وهو أقل بكثير من توقعات المجتمع الدولي”.
بيد أن تحليل جوهر الموقف الصيني بشأن القضية الفلسطينية يظهر “ضعفه”، مقارنةً بنظيره الروسي؛ إذ تقيم موسكو علاقات مع حركة حماس، وتستضيف، من آن إلى آخر، شخصيات من “فتح” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، في سياق التقريب بين مواقف الفصائل الفلسطينية، ناهيك عن تكرار التوترات في العلاقات الروسية الإسرائيلية، سيما بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا (24/2/2022)، وذلك في مقابل حرص الصين على عدم توتير علاقاتها المتشعّبة مع إسرائيل، والاكتفاء بـ”دبلوماسية البيانات والخطابات”، من دون اجتراح سياساتٍ لحلّ الأزمات الإقليمية، (على نحو لا يتلاءم مع مكانة دولة عظمى تسعى إلى الصدارة)؛ إذ تراقب بكين تداعيات التورّط الأميركي في دعم إسرائيل في حرب الإبادة الشاملة على غزّة، مع تعويل صيني على دور مجلس الأمن، على نحو يعكس “تهرّبا من مسؤولياتها بوصفها “دولة عظمى”؛ إذ تتجنّب الصين اتخاذ قرارات مؤثرة ضد إسرائيل (مثل إلغاء بعض العقود العسكرية والتعاون في المجالات الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل، خصوصاً مع ضخامة حجم الاستثمارات الصينية في إسرائيل، وحتى في المستوطنات التي تبقى غير شرعية، حسب القانون الدولي).
في تفسير “الإحجام/ التردّد الصيني”:
تتعلق الملاحظة الثانية بالمقارنة بين سياسات واشنطن وبكّين تجاه إقليم الشرق الأوسط، بعد “طوفان الأقصى”؛ إذ ظهر جليا توظيف إدارة بايدن الحدث لإعادة ترسيم سياساتها في الإقليم برمته، انطلاقا من الساحة الفلسطينية، على نحو ما عكسه الدعم غير المحدود لإسرائيل، سواء في زيارة الرئيس بايدن إسرائيل (18/10/2023)، أم جولات وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، أم نقل وزارة الدفاع الأميركية كمّيات كبيرة من الأسلحة إلى إسرائيل، أم قرار نشر حاملتي الطائرات أيزنهاور وجيرالد فورد في الشرق الأوسط، أم تعطيل واشنطن أي قرار في مجلس الأمن يمكن أن يضغط على إسرائيل لوقف إطلاق نار فوري في غزّة، أم تشكيل “تحالف الازدهار” لحماية الملاحة في البحر الأحمر، أم مشروع بايدن لإنشاء رصيف عائم قبالة سواحل غزة، أم عودة الماكينة الدبلوماسية الأميركية للعمل بأقصى طاقاتها، لاستكمال مسارات التطبيع السعودي الإسرائيلي، وربطها بوعود “الدولة الفلسطينية” بعد “تجديد” السلطة الفلسطينية و”إصلاحها”.
في المقابل، ظهر إحجام الصين عن تحدي سياسات واشنطن تجاه حرب غزّة، ما يمكن تفسيره بأربعة عوامل؛ أولها تصاعد الاستقطاب والتنافس في العلاقات الأميركية الصينية، وثانيها الحرص الأميركي على “احتكار” ملفّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتهميش الدورين الروسي والصيني، وثالثها حرص بكين على علاقاتها الوطيدة مع إسرائيل، سيما مع استمرار التطبيع العربي والإقليمي مع إسرائيل وعدم اتخاذ المطبّعين أية خطوات جدّية لمعاقبة إسرائيل وعزلها، وبروز حجّة أن الصين لن “تكون عربية أكثر من العرب”، ورابعها غموض (وربما غياب) الاستراتيجية الصينية تجاه إقليم الشرق الأوسط.
وحتى على الصعيد الخطابي، ربما كان موقف الصين أقوى في انتقاد السياسات الأميركية و”مناكفتها دبلوماسيا”، إبّان شن المقاومة الفلسطينية عملية سيف القدس مايو/ أيار 2021؛ إذ استثمرت الصين رئاستها الدورية، مجلس الأمن، آنذاك، للظهور “دولة عظمى ومسؤولة، وتعمل على حل الأزمات الدولية”، بخلاف إدارة بايدن التي تصرّ على تجاهل حقوق الإنسان الفلسطيني في غزّة، على الرغم من التركيز الأميركي/ الغربي على مسلمي الإيغور.
جدلية الاستمرار والتغيير في النظام الإقليمي:
تتعلق الملاحظة الثالثة بانعكاسات “طوفان الأقصى” على ترتيب أولويات القضايا الإقليمية في الشرق الأوسط، وكذا على ترتيب أدوار/ أوزان الفاعلين الدوليين والإقليميين في المنطقة؛ إذ يبدو من تحليل تطورات الشهور الستة الماضية من حرب غزّة، عودة قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكي تحتلّ “موقعا مهمّا”، في قلب التفاعلات الإقليمية.
وإذا كانت واشنطن وحلفاؤها (خصوصا بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا والهند ودول “الاعتدال العربية”) قد تداعت جميعا إلى “تدخلات كثيفة” في حرب غزّة، فقد أحجمت الصين وروسيا وإيران وتركيا، عن تحدّي سياسات واشنطن وتلّ أبيب، ما يؤكّد ثلاثة أمور؛ أولا، ضبابية مفهوم “الحلف الشرقي” (بقيادة الصين وروسيا) وعدم مسارعته إلى التكتّل، (كما فعلت واشنطن وحلفاؤها). ثانيا، معظم دعم قضية فلسطين والضغوط على صانع القرار الغربي، سيما الأميركي، يأتي من المظاهرات العالمية والمواقف الشعبية والحزبية والنقابية؛ أي من خارج الأطر والمؤسّسات الرسمية، ربما باستثناء مواقف بعض الدول (مثل جنوب أفريقيا والبرازيل والجزائر وقطر وإسبانيا)، مع صعود أدوار الفاعلين من غير الدول (State Actors Non)، وزيادة حضورهم في الترتيبات/ السياسات الإقليمية.
ثالثاً، خطأ التوقّعات بحصول “تغيير جوهري” في النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بعد توقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين (10/3/2023)، خصوصاً بالنسبة لتغير أدوار/ سياسات القوى الدولية والإقليمية في المنطقة (الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، والهند، والسعودية، وإيران، وإسرائيل)؛ إذ يبدو أن النظام الإقليمي القديم (ما قبل “طوفان الأقصى”) لم ينتهِ بعد، وأن الجديد لا يزال في طور التشكل، في سياق “مرحلة انتقالية” يمرّ بها النظامان الدولي والإقليمي، سيما بعد الأزمة الأوكرانية (2022-2024)، وهذا يفسّر المواقف الصينية “الحذرة”، التي تحاول التوفيق بين مصالحها الاستراتيجية وعدم القطيعة مع واشنطن؛ إذ تتبنّى الصين استراتيجيات آمنة في القضايا الدولية الحساسة، فهي لا تسعى إلى صدارة المشهد الدولي، وتكتفي بـ”دبلوماسية المقاعد الخلفية”، بالتوازي مع حرص الصين على الاحتفاظ بأصدقائها الشرق أوسطيين جميعا، مع تعزيز سياسة تقارب وتوازن مع الولايات المتحدة ودول أوروبا، في القضايا الأمنية الرئيسة في الشرق الأوسط.
ويبدو أن الانعكاس الأبرز لهذه السياسات الصينية يتمثل في أربعة جوانب؛ أولها “مراوحة” قضايا المنطقة في مكانها، مع دخولها مستويات أعلى من التعقيد، ثانيها استمرار النفوذ الإيراني في الإقليم، وزيادة احتمالات الصراع الإيراني الإسرائيلي، سيما بعد اغتيال القائد في الحرس الثوري الإيراني، العميد محمد رضا زاهدي، ومسؤولين إيرانيين آخرين، في العاصمة السورية (1/4/2024). ثالثها تراجع النفوذ الإقليمي السعودي نسبيا، وهيمنة هدف توفير شروط الأمن والاستقرار الإقليمي (اللازمة لمشاريع السعودية الاقتصادية ضمن رؤية 2030)، على توجّهات السياسة الخارجية السعودية.
وإلى ذلك، ثمّة تحسن في المكانة الإقليمية لجماعة أنصار الله (الحوثي) بعد تصاعد التوتر في البحرين الأحمر والعربي، ومهاجمة السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل، ودخول الجماعة طرفا ضاغطا على المواقف الأميركية والبريطانية والإسرائيلية، عبر الربط بين وقف هجماتها ووقف حرب غزة وحصارها، إضافة إلى توصّل الصين وروسيا إلى تفاهم مع الحوثيين، حول إبحار سفنهما عبر البحر الأحمر وخليج عدن، من دون التعرّض لهجمات الحوثي، (وفقاً لما كشفته شبكة بلومبيرغ 21/3/2024).
مستقبل المنطقة:
تتعلّق الملاحظة الرابعة بالسيناريوهات التي تنتظر الشرق الأوسط، بين من يرصدون ملامح تمديد “الحقبة الأميركية”، وتأخّر “الحقبة الصينية”، و”التسلّل الروسي إلى سورية وليبيا والسودان”، واحتمال “حقبة الفوضى الإقليمية”، ما يتوقّف بدوره على محصلة سياسات مختلف الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، بدون إسقاط احتمال اندلاع ثورات عربية جديدة، تستفيد من دروس/ عِبر موجتي الثورات العربية 2011 و2019، مثلما تستلهم روح الانتفاضات الفلسطينية والتضحيات الهائلة، في ظل الانفلات الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وسورية، مع إحجام موسكو وبكّين عن تحدي النفوذ الأميركي في المنطقة، أبعد من حدود “المناكفات الدبلوماسية المحسوبة”.
واستطراداً في التحليل، تآكل النفوذ الأميركي في إقليم الشرق الأوسط، إن حدث، سيكون محصلة بلوغ التعقيدات في المنطقة مستويات غير مسبوقة، مع احتمال خروج الأمور عن السيطرة، لسببين، أحدهما احتمال بروز تيارات راديكالية (جهادية، أو حتى فوضوية عنفية)، نتيجة العنف الهائل الذي مارسته إسرائيل (بدعم أميركي غربي، وصمت عالمي شبه مطبق)، في حرب الإبادة على قطاع غزّة. والآخر مقاومة الفاعلين من غير الدول وزيادة حضورهم في الترتيبات الإقليمية، سواء في ما خصّ قضية فلسطين، أم أمن البحر الأحمر، أم إمكانية تصاعد الصراعات الإقليمية نتيجة السياسات والضغوط الأميركية/ الإسرائيلية.
يبقى القول إن تزايد التحديات الخارجية والداخلية أمام الدول العربية، وتفاقم “ازدواجية المعايير” في السياسات الأميركية/ الغربية، (كما تظهره المقارنة بين سياساتها في الأزمة الأوكرانية وفي قضية فلسطين، بعد 7 أكتوبر 2023)، يفرضان على “الوعي الجماعي العربي”، التبصر في فكرتين؛ إحداهما عدم التعويل على دعم الخارج الدولي والإقليمي في إنجاز مهام عربية داخلية، والأخرى أن اندلاع الثورات العربية عام 2011، ثم شنّ المقاومة الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى”، يعكسان واحداً من مسارات “التغيير/ الإصلاح الإقليمي”، و”التوظيف الإيجابي للطاقات الشبابية”، لمن أراد استعادة “النهضة العربية” أو العودة إلى “الحضور الفاعل” في “عالم متوحّش” يسعى إلى تحقيق مصالحه، ولو على حساب الأبرياء والشعوب المكلومة.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: العربي الجديد