أحمد يوسف أحمد *
بعد طول ترقب وطوفان استطلاعات الرأي التي لم تستطع التنبؤ الحاسم بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠٢٤، حقق الرئيس السابق دونالد ترامب فوزًا مريحًا فيها، وأصبح مواجهًا باستحقاقات صعبة وفقًا لوعوده لعل أهمها استعادة الازدهار الاقتصادي في الداخل ووقف الحروب في الخارج، ومن الطبيعي أن يهتم كل طرف في الساحة الدولية بما يخصه، ومن ثم فإنّ أول ما يتبادر للذهن التساؤل عن نوايا ترامب فيما يتعلق بقضايانا وبالذات القضية الفلسطينية.
كان سجل ترامب بالغ السوء في ولايته الأولى في هذه القضية، فقد كان الرئيس الذي نفذ قرار الكونجرس الأمريكي في تسعينات القرن الماضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بعد أن امتنع عن تنفيذه ثلاثة رؤساء قبله حَكَمَ كل منهم لولايتين، ونقلْ السفارة الأمريكية إلى القدس، وشرعن الاستيطان وضمْ إسرائيل للمرتفعات السورية.
ومع ذلك فقد لوحظ أنّ التوجه العام للنُخب والجماهير العربية واعٍ بحقيقة أنّ الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل مسألة عابرة للأحزاب، وأنّ مُنحنى هذا الانحياز صاعد دومًا بغض النظر عن شخصية الرئيس، وأنّ الاستثناء الوحيد تَمثلَ في إصرار الرئيس أيزنهاور على انسحاب إسرائيل من غزّة وسيناء بعد انتهاء العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، ولم يكن هذا الاستثناء حبًا في مصر وفلسطين، ولكنه كان سلوكًا عِقابيًا للاعبين الصغار بالنسبة له (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) الذين تجرؤوا على المبادرة بعمل من وراء ظهر الولايات المتحدة التي كانت قد تسلمت مهام دورها الجديد كقائد للتحالف الغربي بعد الحرب العالمية الثانية والتراجع الواضح في قوة بريطانيا وفرنسا، بدليل أنّ أيزنهاور كان هو المسؤول عن تفجر أزمة السويس أصلًا بسحبه عرض تمويل السد العالي في مصر، وما أعقب ذلك من تأميم عبدالناصر لشركة قناة السويس الذي مثل ضربة قاصمة للمصالح البريطانية والفرنسية.
وفيما عدا هذا الاستثناء آلت كل السوابق الأمريكية لمحاولة الاستقلال ولو قيد أنملة عن السياسة الإسرائيلية إلى العدم، فتراجع الرئيس ريغان عن مبادرته لانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية، وتراجع الرئيس جورج بوش الأب عن تعليق القروض الأمريكية لإسرائيل على أساس أنها موجهة لتمويل الاستيطان، ولم يكن لامتناع إدارتَي كارتر وأوباما عن التصويت على مشروعَي قرارين في مجلس الأمن ضد الاستيطان الإسرائيلي (بما سمح بصدور القرارين) أي تأثير على تغوّله في الضفة، ولم تجد خارطة طريق الرئيس جورج بوش الإبن التي نصت على تأسيس دولة فلسطينية وتبناها مجلس الأمن في ٢٠٠٣ طريقها إلى أرض الواقع، وأخيرًا لم تلقَ آراء الرئيس بايدن التي كانت تدعي الرغبة في وقف إطلاق النار وتقليل أعداد الضحايا المدنيين وضمان وصول المساعدات للغزاويين أي اعتبار من مجرمي الحرب الإسرائيليين، مما جعل الكثيرين يحكمون على إدارته بأنها إما كاذبة تخدع العرب والمسلمين بأقوال تهدف لتخديرهم حتى يتسنى لإسرائيل تحقيق أهدافها، أو فاشلة لأنها غير قادرة على إلزام إسرائيل بأدنى تغيير في سلوكها.
لذلك، كان من الإيجابي أنّ معظم التعليقات العربية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لم ترَ فارقًا نوعيًا بين تداعيات فوز أي من المرشحين بالرئاسة، بل لقد تحالف قطاع من الناخبين الأمريكيين العرب والمسلمين مع ترامب في المرحلة الأخيرة من السباق الانتخابي، وذلك بعد وعده لهم بأنه سيوقف الحرب الإسرائيلية حال فوزه، ويُقال إنّ هذه الأصوات العربية والإسلامية كانت واحدة من الأسباب التي صنعت فوزه الكبير، ولا أعتقد أنّ ثمة مبالغة في هذا القول بالنظر إلى التقارب الشديد بين نسب تأييد كل من المرشحين، وبالتالي ربما تكون هذه الأصوات هي القشة التي قصمت ظهر البعير الديمقراطي.
لكن الأهم من هذا أولًا أنّ القضية الفلسطينية قد أصبحت قضية انتخابية للمرة الأولى في السباق الرئاسي الأمريكي بغض النظر عن أهميتها النسبية، بعد أن كانت على الدوام ساحة للمزايدة على تأييد إسرائيل بين مرشحَي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وثانيًا أنّ العرب والمسلمين الأمريكيين عرفوا طريقهم لتشكيل مجموعة ضاغطة، وقد تكون هذه بداية لطريق جديد ينتهي بهم إلى أن يصبحوا مجموعة ذات تأثير في السياسة الأمريكية، خاصة وأنّ وعود ترامب أو غيره لهم لا يضمنها إلا أن يكون لهم صوت مؤثر في السياسيات الداخلية هم مؤهلون لبلورته، كما أنهم يحتاجون إلى إثبات استمرار حضورهم المؤثر حتى يكون لهم شأن ما في تشكيل أي تحوّل محتمل في السياسة الأمريكية تجاه قضاياهم، وإذا كان ترامب قد وعدهم حقًا بإنهاء الحرب فإنّ هذا وحده غير كافٍ، إذ لا يقل أهمية عن وقفها، الطريقة التي تنتهي بها، وفي كل الأحوال فإنّ استمرار صمود المقاومة وقدرتها على إيلام العدو يبقى الضمانة الأساسية لأي تحوّل إيجابي محتمل في السياسة الأمريكية تجاه قضايانا.
* كاتب أكاديمي ومفكر مصري
المصدر: “عروبة 22“