الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فلسطين في مواجهة عالم الفصل العنصري البيئي

(فيجاي كولينجيفادي وأسماء أشرف) – ترجمة: ثائر ديب 

الإبادة الجماعية والإبادة البيئية وجهين لعملة واحدة. إذ يُعرَّفان معاً على أنهما محاولة لإبادة شعب بأكمله والبيئات الحيّة التي يشكل جزءاً منها. وما تغيُّر المناخ سوى نتيجة قرون من الاحتلال الاستعماري واستغلال شعوب الأعراق الأخرى وأراضيها باعتبارها «موارداً». وما يميز الإبادة الجماعية عن الإبادة البيئية هو وتيرة القتل، السريعة في بعض الأماكن، والأبطأ في أخرى.

في حين لم يتلق الأميركيون من الطبقة العاملة في أجزاء من كارولينا الشمالية سوى 750 دولاراً من أموال الإغاثة بعد الدمار الذي خلّفه إعصار هيلين الذي فاقمه تغير المناخ إلى حدٍّ بعيد، منحت الحكومة الأميركية أكثر من 22.7 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل لقصف غزة ولبنان (أي ما يعادل أكثر من 2300 دولار لكل مواطن إسرائيلي) منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

تشهد غزة الآن أكبر مذبحة للرجال والنساء والأطفال منذ عقود، كما تشهد معدَل تدمير نجم عنه أكثر من 40 مليون طن من الأنقاض التي ستستغرق عقداً لإزالتها. والقنابل التي ألقيت على قطاع غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تقارب 100 ألف طن وتتجاوز ما قُصفت به لندن ودريسدن وهامبورغ مجتمعة في الحرب العالمية الثانية. وغزة هي موضع واحدة من أكبر المجاعات الجماعية المرسومة في هذا القرن. وعلى مدى أكثر من عام، لم يمر يوم لم يقطع فيه الجيش الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة أوصال طفل. ولقد شهدت غزة تفجير مستشفياتها وجامعاتها وأسواقها وخدماتها الأساسية، وتلوث مجاري مياهها وهوائها وتربتها وبلوغها مستويات من السُمّية الشديدة نتيجة المخلفات الكيميائية للقصف الجوي المكثَّف. وتعادل القوة التدميرية التي تعرَّض لها قطاع غزة أضعاف قوة القنبلة النووية التي أسقطتها الولايات المتحدة على هيروشيما. لكنَّ عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين يموتون بسبب التشويه والحرق، وبسبب الخَمَج الناجم عن البتر، لا يمثّلون أي شيء على الإطلاق في نظر الغرب، في تعارض صارخ مع ردّة فعل هذا الغرب عندما يُحتجز إسرائيلي رهينةً، أو يُحاصَر أميركي فاحش الثراء في غواصة تحت الماء في رحلة ترفيهية لمشاهدة سفينة التايتانيك. وبات في غاية الوضوح أنَّ حياة الفلسطينيين لا تهم أولئك الذين يسعون وراء المصالح الغربية.

ليس النّبذ التَّام لشعوب بأكملها باعتبارها دون البشر، أو باعتبار أجسادها أقلّ قيمة من الأجساد الأوروبية أو الأميركية، سوى تذكير صارخ بأنَّ أهوال تجارة الرقيق عبر الأطلسي والإبادة الجماعية الاستعمارية للسكان الأصليين على يد الإمبراطوريات الغربية لم تَغْدُ خلفنا قط. وهو أيضاً ترجمةٌ مخيفة لأولويات حكّام العالم بينما نشاهد الأنظمة الداعمة للحياة على الكوكب وهي تتآكل بسبب الانهيار البيئي. ورغبة الطبقة الحاكمة في الحفاظ على مجتمع ديمقراطي ليبرالي خالٍ من الانهيار البيئي هي رغبة لا تتعدّى مستقبلاً محجوزاً لهم وحدهم؛ أي لأقليةٍ لا تني تتناقص من أصحاب الملايين والمليارات. وفي هذه الأثناء، فإن ما نشهده في غزة هو علامة على ما سيأتي في حقبة انهيار بيئي متزايد ناجم عن نظام رأسمالي عالمي لم يعد يلبّي الغرضَ منه؛ هذا إن كان قد لبّاه على الإطلاق. وكما أعلن الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو في مؤتمر المناخ COP28 في دبي العام الماضي: «غزة هي مرآة مستقبلنا القريب».

لا تكفي عبارة إبادة جماعية على الإطلاق لوصف الإبادة المتعمَّدة للبشر والعلاقات البيئية التي تسند حياتهم. ما نشهده في فلسطين هو النيّة الوحشية للقضاء على شعب بأكمله وبيئة بأكملها بغية تعزيز المصالح الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة في مواجهة مقاومَة مناهِضة للاستعمار، والاستثمار في مشاريعِ نفطٍ وغاز و«أملاك بحرية»1 على شاطئ غزة. ومع تعبئةٍ متزايدة لفصائل يمينية متطرفة شيطانية وتحولٍ عام نحو رأسمالية سلطوية في جميع أنحاء العالم، من المرجّح أن يشهد المستقبل مزيداً من حالات كهذه تجري فيها إبادة النسيج الاجتماعي والبيئي للأماكن، في محاولة أخيرة لمواصلة استخراج الأرباح وإزالة «الفائض السكاني»؛ إنّما مع قدر أقل من المزاعم الليبرالية والتقدمية في ما يتعلق بالأخلاق وحقوق الإنسان والحلول «المربحة للجميع». وسوف تُوضع أعمال الإبادة هذه، بدلاً من ذلك، في إطار فتوحات ينتصر فيها «متحضرون» على «أشرار» برابرة (على حد تعبير المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس الأميريكي تيم والز)، ما يؤدي إلى تجريد شعوب بريئة من إنسانيتها واعتبار التضحية بها ضرورة من ضرورات الحفاظ على نظام عالمي محتضر وكارثي تماماً.

نوضح في هذا المقال لماذا يُعَدُّ تضافر الإبادة البيئية والإبادة الجماعية في غزة تعبيراً عن فصل عنصري بيئي؛ وهو ظاهرة عرقية عنيفة تعمل على تعزيز الحدود الاستعمارية لاحتلال الأرض ونهب الموارد بقصد توجيه الثروة إلى قِلّة من المتميزين على حساب الغالبية العظمى من الشعب. وفي نظام الفصل العنصري البيئي الإمبريالي العرقي، يُنظر إلى تدمير «معذَبيّ الأرض»، من السكان ذوي البشرة السمراء والسوداء والأصليين، ومحو بيئاتهم وثقافاتهم ومعارفهم، على أنّه أمرٌ عادي تماماً، ونظامٌ يعمل كما يُفترض به أن يعمل. وهذا ما يوجب اعتبار الإبادة الجماعية والإبادة البيئية وجهين لعملة واحدة. إذ يُعرَّفان معاً على أنهما محاولة لإبادة شعب بأكمله والبيئات الحيّة التي يشكل جزءاً منها. وما تغيُّر المناخ سوى نتيجة قرون من الاحتلال الاستعماري واستغلال شعوب الأعراق الأخرى وأراضيها باعتبارها «موارداً». وما يميز الإبادة الجماعية عن الإبادة البيئية هو وتيرة القتل، السريعة في بعض الأماكن، والأبطأ في أخرى.

يشتمل توجيه الثروة إلى حفنة من البشر فحسب على خلق مناطق جيوسياسية وجيوفيزيائية للتضحية متفاوتة الشدّة. ويمكن لمناطق التضحية هذه أن تقع في كلّ من الجنوب العالمي وفي قلب الإمبراطورية. على سبيل المثال، في حين لم يتلق الأميركيون من الطبقة العاملة في أجزاء من كارولينا الشمالية سوى 750 دولاراً من أموال الإغاثة بعد الدمار الذي خلّفه إعصار هيلين الذي فاقمه تغير المناخ إلى حدٍّ بعيد، منحت الحكومة الأميركية أكثر من 22.7 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل لقصف غزة ولبنان (أي ما يعادل أكثر من 2300 دولار لكل مواطن إسرائيلي) منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

في حين أنّ لتواشج الإبادة البيئية والإبادة الجماعية عواقب مُهلكة للإنسانية، فإننا نؤكد في هذا المقال أن الفصل العنصري البيئي ضروري للحفاظ على النظام الرأسمالي الإمبريالي لعقود قادمة، ولتأمين مستقبل المستوطنين المؤمنين بتفوّق العرق الأبيض. وفي هذا المستقبل، سوف يُطاح بنُعميات نظام ليبرالي قائم على القواعد: لن تعود أساطير التعددية، والتعددية الثقافية، والقانون الدولي، وحقوق الإنسان ملائمة للطبقة الحاكمة في مواجهة تناقضات اقتصادية وبيئية طاغية. وكما تكتب نسرين مالك، فإنّ الهجوم المبهم على غزة من دون أن تهتزّ شعرة في رؤوس القادة السياسيين الغربيين هو مؤشر على أن عالمنا لا يزال عالَماً القوة فيه هي الحق. وموقف «غض الطرف» الذي تنتهجه القوى الغربية التي تدعم إبادة الغزيين الجماعية وتشجعها بقوة، والإسكات المنسَّق للأصوات المعارضة، إنما ينذران بما سيحدثه عنفٌ لا يمكن تصوره من ضبط قادم وزعزعة نفسية جماعية بينما تواصل الكارثة المناخية تَكشُّفها.

نسلِّط الضوء، في المقاطع التالية، على بعض جوانب نظام الفصل العنصري البيئي الذي يُجرّد أعداداً متزايدة من البشر من إنسانيتهم ​​ويلقي بهم خارجاً عن عمد كي يواجهوا غضبة التغير المناخي ونقمة الهشاشة الاجتماعية، بما في ذلك ما يجرّه الاحتلال العسكري العنيف. وفي هذه الأثناء، تَعمد قلّة من النخبة الآخذة بالتضاؤل إلى حماية نفسها من مجتمعات مسوَّرة تتسم بقوة شرائية ضيقة لا تتيح لها استهلاك ما يُدعى بالعيش الموسوم بـ«الاستدامة». ولدى إعداد هذا المقال، تحدّثنا مع مدافعين عن الأرض مناهضين للإمبريالية ومع منظّمي مجتمعات قدموا المشورة بشأن بناء القوة اللازمة للتنظيم والقتال في لحظة تاريخية يظهر فيها التعويل على المؤسسات القائمة أمراً عقيماً بصورة صارخة.

فلسطين في البيئة العالمية:

ليس المشروع الصهيوني سوى تكرار حديث لتاريخ الغرب الاستعماري الاستيطاني الوحشي. فبدءاً من وعد بلفور البريطاني والقمع العنيف للثورة الكبرى 1936-1939، إلى إمداد فرنسا بالأسلحة الثقيلة في أواسط القرن العشرين، والمساعدات العسكرية المتواصلة من الولايات المتحدة حالياً، لطالما نُظر إلى إسرائيل على أنّها المعقل الأساس للسيطرة الإمبريالية في المنطقة. إذ تُعَدُّ موقعاً أمامياً لرسالة أوروبا الحضارية بين العرب «المتخلفين» وأراضيهم القاحلة، وما يقف في وجه كل تعبير عن تقرير العرب مصيرهم وكلّ حركة تقدمية عربية.

ليست الإمبراطورية الأميركية مهتمة بالديمقراطية أو حقوق الإنسان أو مكافحة معاداة السامية، شأنها في ذلك شأن الإمبراطورية البريطانية التي سبقتها وشرَّعت المشروع الصهيوني ويسّرته. فهذه الأمور، مثل «الاستدامة» القابلة للتسويق، ليست سوى سرديات مواتية تفيد في استغلال الشواغل الاجتماعية كيافطات لإعادة تسويق المشاريع العسكرية والاقتصادية للإمبراطورية الأميركية. والغرض من هذه المشاريع هو إخضاع المناطق والشعوب ودفعها داخل دورات التراكم القائمة على العمل والأرض وأشكال الدَّين الجديدة. ونتيجة لهذا، يحافظ الأثرياء على أنماط حياتهم كثيفة الاستهلاك للمياه والطاقة ويعززونها من خلال الأتمتة البيئية الحداثية التي تتسم بالمرونة المناخية. لكنَّ أنماط الحياة البيئية الحداثية لا تطال، في جوهرها، سوى الـ 10٪ الذين يجنون من استثماراتهم ثروات طائلة. وكذلك فإنَّ السعي الاستعماري وراء الموارد يمنح المستعمِر المؤمن بتفوّق العرق الأبيض مكانة مرموقة، لا سيما عندما يكون العرب والمسلمون وأصحاب الدخول المنخفضة من ذوي البشرة السمراء أو السوداء هم الذين يعانون، بحسب أهواء المصالح الغربية سواء في هايتي أو لبنان أو جمهورية الكونغو الديمقراطية أو كوبا أو السودان أو محلياً داخل الولايات المتحدة أو غيرها من البلدان الغربية.

ما يجعل إسرائيل أهم قاعدة أمامية للإمبراطورية الأميركية ليس الصراعات بين الأديان أو نفوذ «اللوبي المؤيد للصهيونية» في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، بل الموقع المركزي للشرق الأوسط في النظام الرأسمالي العالمي. فبعد حرب 1967 مع مصر بقيادة عبد الناصر، تلك الحرب التي أثبتت فيها إسرائيل أنّها شريك للإمبريالية الأميركية يعوّل عليه، شغلت الولايات المتحدة موقع الراعي الرئيس للنظام الصهيوني، وراحت تزوّد الدولة الاستيطانية بالسلاح والدعم المالي. وتتركز مصالح الولايات المتحدة في المنطقة في اقتصاد الوقود الأحفوري وضمان إمدادات مستقرة من النفط، في إطار النظام العالمي الذي تهيمن فيه الولايات المتحدة. وهذا ينطوي على حلقة مفرغة من الأسباب والنتائج، تولّد فيها البترودولارات مزيداً من البترودولارات، من خلال الحملات العسكرية، واستغلال الموارد، والحروب والإبادة البيئية. وحدها إسرائيل – بمستوطنيها المتمركزين في مواقع استراتيجية، وحدودها الهشّة، ومجتمعها العسكري وقوات قمعها – من يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد عليه كلّ الاعتماد في المساعدة على ترسيخ النظام القائم على الولايات المتحدة في المنطقة.

يقوم استخدام اللوبي الصهيوني لمعاداة السامية كسلاح أخلاقي جيوسياسي بدور في دعم إسرائيل وترسيخ مكانتها الرفيعة في خدمة المصالح الأميركية. وبالمقابل، فإنّ الكيان الصهيوني اليميني المتطرف يعتمد اعتماداً تامّاً على الولايات المتحدة من أجل البقاء: مالياً وعسكرياً وسياسياً. والحال، أنَّ بقاء إسرائيل مفتاح لبقاء النظام الرأسمالي العالمي القائم على الإمبريالية الأميركية والهيمنة الأوروبية الغربية. وهذا ما يجعل تهديد إسرائيل تهديداً للهيمنة الإمبريالية الأميركية. ومن غير هذه العلاقة الجدلية، لا مجال لأن نفهم كلّاً من الدعم غير المشروط الذي يُقدَّم للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة والتطبيع المطلق للإبادة الجماعية في المجتمع الغربي. كما تفسِّر هذه العلاقة الجدلية حجمَ الطغيان والمحرقة اللذين ارتكبتهما إسرائيل رداً على أعمال المقاومة الفلسطينية؛ المحرقة التي تُبرَّر وتسوَّق على أنّها نوع من «الروتين» أو سلسلة من «العمليات البرية المحدودة».

أمّا المقاومة الفلسطينية فهي الحجر في حلق الإمبريالية الأميركية. كانت استراتيجية الرئيس الأميركي جو بايدن في الشرق الأوسط واضحة للغاية قبل فترة طويلة من أكتوبر/ تشرين الأول 2023: تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وفتح أسواق استثمارية رسمية جديدة في المنطقة، وتعزيز استقرار العلاقات الإمبريالية. ومع اقتراب موعد الإعلان عن صفقة تطبيع سعودي إسرائيلي على مشارف شتاء 2023، أعادت المقاومة الشعبية إبراز مسألة السيادة الوطنية الفلسطينية بشكل واضح. ولذلك، يجب أن نتذكّر أن محو إسرائيل لغزة بدعم من الولايات المتحدة ليس مجرد وسيلة لفتح أسواق عقارية جديدة أو استيلاء على الأرض لمصلحة رأس المال. تُعاقَب فلسطين ولبنان واليمن على دورها في إحباط تراكم رأس المال غير المتكافئ واستنزاف القيمة من الشرق الأوسط. والمقاومة الفلسطينية الآن هي أوضح وأفصح تعبير عن مناهضة الاستعمار، وعن حركة تحرر وطني ترفض إلغاء إنسانيتها، ومحو سكانها والتضحية بهم من أجل المركز الإمبريالي.

هذا المستوى من الإبادة الإسرائيلية لغزة، حيث تمزقت الأنسجة الاجتماعية والبيئية والسياسية إرباً بفعل أطنان هائلة من الترسانة العسكرية التي قطّعت الأوصال وبعثرتها، سوف يصبح شائعاً باضطراد مع اشتداد أزمات تراكم رأس المال العالمي، وفي ظلِّ ضغوط التغيُّر المناخي، والتوترات الجيوسياسية الشديدة، والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي. ولا تختلف الجرّافات التي تدمّر بيئة غزة عن الجرّافات التي تقضي على الغابات المطيرة العذراء من أجل التوسع في الزراعة التجارية، ما يهيّئ للانقراض الجماعي السادس. وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعمل على تحسين الأسلحة المستخدمة لقتل المدنيين في مستشفيات غزة ومدارسها هي تقنيات الذكاء الاصطناعي ذاتها التي تتطلب مصادر طاقة جديدة مثل الفحم والنفط والغاز والطاقة المتجددة وحتى الطاقة النووية. وهذه الشهية للطاقة لدى عمالقة التكنولوجيا مثل OpenAI وMicrosoftوAlphabet وMeta، من بين آخرين، لا تلغي المكاسب البيئية من استخدام الطاقة المتجددة فحسب، بل تعزز أيضاً مكبّات النفايات السامة والممارسات الاستخراجية المدمرة بيئياً التي تُمارَس على مجتمعات تُعتبر غير جديرة وأدنى من البشر في غير مكان. ما نشهده هو حلقة مفرغة من عنف الإبادة الجماعية والعنف البيئي.

يقول الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو في كلمته في قمة المناخ COP28 في دبي: «الإبادة الجماعية والأعمال الوحشية التي تُشن ضد الشعب الفلسطيني هي ما ينتظر أولئك الذين يفرّون من الجنوب بسبب أزمة المناخ».

أولئك الذين يتمردون في الشمال سوف تُزعزع أنفسهم ويُقمعون. وأولئك الذين يتنظّمون ليقاوموا في الجنوب سيُقابلون بالعنف والبربرية. كان تاريخ الحضارة الغربية الحديثة تاريخ استعمار وحشي وسلب واستعباد وإبادة جماعية، لكنَّ هذه الحقيقة طمسها الالتجاء إلى الأخلاق الرفيعة. ولقد وسمت هذه الوحشية الاستعمار الأوروبي-الأميركي لـ«العالم الجديد» منذ الفترة التي قتل فيها المستوطنون الأوروبيون أكثر من 55 مليوناً من السكان الأصليين في أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية على مدى مائة عام، إلى «الفترة الحضارية» في القرنين التاسع عشر والعشرين التي قام خلالها الغرب بأشدّ حملات التشويه والإبادة وحشية في أرجاء العالم تحت راية الحداثة والتنمية، بما في ذلك داخل حدوده. ووسمت الوحشية أيضاً القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، حقبة الحروب التي شنتها الإمبريالية الأميركية، بما فيها من وحشية ضد السكان في فيتنام وأنغولا والعراق وأفغانستان ومن دعم الولايات المتحدة لقادة بالوكالة مارسوا طغيانهم في أماكن مثل تشيلي والأرجنتين وإندونيسيا، على سبيل المثال لا الحصر. هذه المذابح على مدى القرون العديدة الأخيرة ليست مجرد حواشي أو حالات: لقد أُبيدت عوالم حياتيّة كاملة من أجل بقاء النظام الاستعماري. هذه المذابح، باختصار، أساسية لفهم الأزمات البيئية التي نعيشها اليوم. وهي تُظهر لنا أنّه إذا ما كانت لجميع الحضارات على مرّ التاريخ حروبها وصراعاتها، إلّا أنّ الإمبراطورية الأوروبية الأميركية المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، بتقنياتها العرقية، هي وحدها من أقامت على النحو الأتمّبنيةً تحتية اجتماعية وبيئية على أساس الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. وفي حين هزَّت المذابح في غزة ولبنان ضمير الجماهير النائم، فإنّها صورة غير مفاجئة ومتسقة للغاية مع الطابع الأخلاقي للغرب كما تكشّف على مدى الخمسمئة عام الماضية.

التغيّر المناخي، بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة، لا يعني سوى التضحية بمزيد من الأجساد:

ما الجديد إذاً في وضعنا الحالي؟ ما الذي يميّز هذه الحقبة الإمبريالية الأميركية المتجددة التي دخلناها؟ الجواب هو الابتعاد حتى عن المزاعم الأشدّ تواضعاً بين مزاعم النظام الدولي القائم على القواعد: وهو وضع تُطبَّق فيه القواعد على الجميع باستثناء القوى الاستعمارية التي كبَّدت الكوكب وشعوبه 500 عام من العنف، والتي يقوم أسلوب عملها في تشظية البشرية لاستخراج العمل والموارد، على فكرة تفوق العرق الأبيض. ويرى المؤرِّخ إنزو ترافيرسو أنّ هذا الاستثناء للقوى الاستعمارية هو اعتراف ضمني بانحطاط أخلاقي. وهو ينطوي على انتهاك انتقائي للقوانين، يمكن فيه تفكيك جميع الحقوق المدنية والحريات، فضلاً عن القواعد الأساسية للقانون والنظام، باسم حماية مستقبل الإمبراطورية التي تواجه انحدارها.

تبدو عواقب هذه الممارسة الانتقائية للانحطاط الأخلاقي مرعبة للغاية في حقبة تواجه فيها الأنظمة الداعمة للحياة على الأرض خطر التداعي بسبب الانهيار البيئي. وهنا يكمن المفتاح لفهم الفصل العنصري البيئي، ونحن نشهد الأهوال التي تتكشف في غزة. لقد ولّت منذ زمن بعيد حقبة المزاعم الغربية بالإنسانية والاستدامة والحقوق المدنية (إذا ما كانت قد سرت قطّ). وما نراه بدلاً من ذلك اعتراف بأنَّ تلك الحقوق لا تخصّ سوى قِلّة فحسب، وبأنَّ «الآخر» تجب التضحية به لإنقاذ هذا النظام المحتضر.

ليست المقارنة التي يعقدها غوستافو بيترو وآخرون، ممن وجدوا تشابهات بين الإبادة الجماعية الجارية في غزة ونظام «الفصل العنصري البيئي» العالمي الآخذ بالتَّكشُّف، بالمقارنة التبسيطية. لقد شهد صيف عام 2024 أرقاماً غير مسبوقة في درجات الحرارة العالمية، إذ تجاوزت الـ 50 درجة مئوية في أجزاء كبيرة من الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر والمكسيك. كما دمّرت فيضانات وحرائق أجزاءً شاسعة من العالم، حتى في قلب الإمبراطورية في جنوب الولايات المتحدة، ما ألحق أضراراً غير متناسبة بالأعراق غير البيضاء، وكذلك بالطبقة العاملة البيضاء، أولئك الذين استُغلَّت أعمارهم في العمل مع القليل من التعويض أو شبكات الأمان. إنَّ عالماً بأكثر من مليار مهاجر ولاجئ، نزحت غالبيتهم بسبب تغير المناخ، ليس بالافتراض البعيد بل هو «مستقبلنا القريب» (على حد تعبير غوستافو بيترو) إذا ما استمر إنتاج الوقود الأحفوري بلا كلل، وفقاً لرغبات وزير الطاقة السعودي، الذي وعد بأن «يُستخرَج كل جزيء من الهيدروكربون». ولقد دفع حجم الهجرة الجماعية نتيجة الحرارة الشديدة والجفاف والمجاعة بعض العلماء إلى إطلاق نداء صارخ يحذّر من انهيار اجتماعي وبيئي (Xu et al., 2020). ويُقابَل هؤلاء النازحون بسبب المناخ بقوانين مناهضة للهجرة من ضمن أجندة يمينية جريئة في أرجاء العالم، من تركيا إلى الهند، ومن الفلبين إلى الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وتُطبَّق هذه القوانين من خلال حدود عسكرية مصممة للقتل، والإغراق، والتجويع، وجعل المهاجرين واللاجئين قرابيناً لجميع علل الرأسمالية.

الحال، أنَّ عنف هذا المستقبل القريب جارٍ بالفعل، وتُشَرْعِنُه بصورة متزايدة تلك الخطابات التي تعتبر تغير المناخ مسألة أمن قومي. ومع مواصلة الأمم الغربية تحصين حدودها في وجه المهاجرين ولاجئي المناخ، تواصل في الوقت ذاته تجاوز حصتها العادلة من ميزانية الكربون. ولو قُسِّمت ميزانية الكربون العالمية بالتساوي بين سكان العالم، لتجاوزت الولايات المتحدة، بالنظر إلى انبعاثاتها المرتفعة تاريخياً للفرد الواحد، حصتَها العادلة بعامل يتراوح بين 4 و10 (Fanning and Hickel, 2023). ومن غير المحتمل البتّة، في الوقت ذاته، أن تصل الأمم الفقيرة في الجنوب العالمي حتى إلى 100٪ من ميزانياتها الكربونية الوطنية. ومع ذلك، فإنّ أجسادها هي التي ستستشعر أشد الآثار الهمجية لتغيّر المناخ والسياسات البيئية التي تفرضها الندرة.

ما من شعب، غني أو فقير، يفضّل اللجوء على السيادة والاستقلال على أرضه، وثقافته، وطريقته في معرفة العالم. وما الضغط كي يترك المرء منزله بسبب الحرب، أو الطرد القسري في سياق الاستيلاء على الأرض الزراعية أو مشاريع التعدين، أو غير ذلك من أزمات ناجمة عن المناخ، سوى شرط مفروض على أولئك الذين تنظر إليهم القوى الاستعمارية على أنّهم «سكان فائضون» في هذا العالم. وهم محاصَرون داخل مناطق التضحية ويُستغلّون بشكل مفرط كجيش احتياطي للعمل (إذا كانوا محظوظين). فإذا ما شكّلت الأمم المستعمَرة جبهة مقاومة مناهضة للاستعمار، وحاولت فكّ ارتباط اقتصاداتها بالنظام العالمي الإمبريالي، وعبّرت عن حقها في مقاومة استغلال عملها ومواردها الطبيعية، كان الغرب «جاهزاً للرد بالموت» كما قال غوستافو بيترو. ونحن نرى هذا في فلسطين، وفي أرجاء أبيا يالا2 ، وفي لبنان، وإيران، وجميع أنحاء القارة الأفريقية، حيث تُشيطَن نضالات التحرر الوطني وتقوَّض. وفي حالة فلسطين، قوبلت المقاومة بأكثر من عام من القصف المكثف.

مسمار في نعش «الأخلاق» الغربية:

في كانون الثاني/ يناير 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً أولياً يأمر إسرائيل باتخاذ تدابير «لمنع أعمال الإبادة الجماعية» بعد أن تقدّمت جنوب أفريقيا بدعوى متينة. وبعد مرور ما يقرب من عام، أصبح الحكم رمزاً لخضوع جميع مؤسسات الحوكمة المتعددة الأطراف لمصالح الولايات المتحدة وإرادتها. وأظهر فشلَها الذريع كأدوات لديمقراطية عالمية. وكان موقف الأمم المتحدة وجهودها في خضم الإبادة الجماعية قاصرَين بصورة يُرثى لها في أفضل الأحوال. فبعد 58 يوماً من بدء المذبحة العشوائية بحق الفلسطينيين في غزة، فعّل أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة -وهي أداة لم تُستخدم منذ عام 1989- للدعوة إلى اجتماع لمجلس الأمن «لتجنب كارثة إنسانية في غزة». ومن الجدير بالذكر أنّ غوتيريش واصل تصوير الوضع على أنَّه كارثة إنسانية، وليس إبادة جماعية متعمدة من قِبل قوة احتلال مدعومة من الغرب ضد سكان أصليين. ومنذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد أربعة قرارات تنصُّ على وقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولم يدعُ القراران الأولان إلى وقف كامل لإطلاق النار بل دعيا فحسب إلى وقف القتال لتقديم مساعدات إنسانية. وقدرة دولة واحدة، متأتّية من هيمنتها العسكرية والاقتصادية، على استخدام حق النقض ضد قرارات لوقف إطلاق النار تهدف إلى إدانة إبادة جماعية جارية -رمزياً على الأقل- تُظهر جليّاً العجز التام للأمم المتحدة، وتُظهر تالياً الفشل الصريح لتعددية الأطراف في نظام عالمي يُتعرّف بإمبريالية تقودها الولايات المتحدة.

الأنكى من ذلك هو الطريقة التي جرى بها تجاهل وإنكار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3103 لعام 1973، بشأن حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال والقمع. فبعد 76 عاماً من الاحتلال والتطهير العرقي وظروف الفصل العنصري العنيفة والمهينة التي لا تعرف توقفاً، يُتوقَّع من الفلسطينيين أن يكونوا طيّعين وخانعين في مواجهة مضطهديهم. وعلى غرار التوقّع لأولئك الذين عاشوا في معازل محرومة وخضعوا لمذابح دينية أو عرقية، أو لأولئك الذين أُجبروا على ركوب سفن العبيد أو العيش في محميات أو مزارع أو معسكرات الاعتقال، ألّا يطمحوا قطّ إلى التخلّص من أغلال اضطهادهم، جرى التوقّع للفلسطينيين أن يستسلموا لـ «الرسالة الحضارية» ويتقبلوا مصيرهم باعتبارهم همجاً و«حيوانات بشرية». وفي أيار/ مايو 2024، تقدَّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلبات لإصدار أوامر اعتقال بحقّ كل من قادة حماس ومجرمَيّ الحرب الإسرائيليين بنيامين نتنياهو ويواف غالانت. وهذا التكافؤ الذي تنطوي عليه مقارنة العنف الاستعماري الإسرائيلي بالمقاومة الفلسطينية لعقود من التطهير العرقي والفصل العنصري والقصف المتكرر والاستيلاء على الأرض وفرض القيود على المياه والقتل دون عقاب، يثير شعوراً زائفاً بحياد القانون. ويخفي تماماً حجم الموت والإرهاب المتواصلين اللذين فرضتهما الدولة الصهيونية على الفلسطينيين منذ عام 1948، بل قبل ذلك. ومع هذا، فقد فشلت حتى محاولة الحياد الزائف هذه، بكل عيوبها التي لا توصف، في أن تُفضي إلى توقيف مجرمَي الحرب الإسرائيليين (حتى وقت كتابة هذه السطور، لم تصدر المحكمة أوامر اعتقال بحقهما).

يُنظر إلى المذبحة الوحشية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من البشر على مدار عام، في الإبادة الجماعية الأشدّ تلفزةً وتسجيلاً في تاريخ البشرية، على أنّها الثمن لقاء القيام بأعمال تتعلّق بالحفاظ على نظام الفصل العنصري والدمار البيئي والإبادة الجماعية الإرهابي الذي ترعاه الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ممثلاً بدولة إسرائيل. أمّا تضافر تطبيع الإبادة الجماعية وتجريم المحتجّين في الجامعات والمؤسسات في أرجاء العالم لمطالبتهم بسحب الاستثمارات من آلة حرب الإبادة الجماعية فيُلغي ويُبطل أي تأثير إنقاذي لعمل المجتمعات الغربية على قضايا أخلاقية واجتماعية أخرى، سواء كانت تتعلق بحقوق الإنسان أو العدالة أو النسوية أو الاستدامة أو المساواة. بعبارة أخرى، من المستحيل إطلاق المزاعم بشأن دعم التنوّع أو المساواة أو الاستيعاب وأنت تطوّر تقنية ذكاء اصطناعي تمكن القنّاصة من استهداف أجساد الأطفال بمزيد من الدقة وتشحن الأسلحة لقتل 100 فلسطيني كلّ يوم. وهذا الخلط الزائف بين انتقاد سياسة دولة وانتقاد شعب أو دين، هذا الخلط الذي ضخّمه استغلال ما عاناه الشعب اليهودي نتيجة الهولوكوست في أوروبا الغربية من ألم وصدمة تاريخيين لإفساح المجال أمام الإبادة الجماعية في فلسطين، ليس سوى ضرب من ضروب التلاعب الشائع الذي يبرر الزعم الشيطاني التام بأنّ قتل الشعب الفلسطيني بأعداد كبيرة هو دفاع عن النفس. وفي هذا الوقت، تغمر البهجة قلوب الفاشيين اليمينيين المتطرفين والمؤمنين بتفوق العنصر الـبيض في أوروبا وأميركا الشمالية ممن يرتكبون أعمال معاداة السامية، بعد أن وجدوا في المشروع الصهيوني سفيرهم الأمثل الذي يدرأ عنهم الاتهامات، بينما ينحون باللائمة على الفلسطينيين وأنصارهم.

يُظْهِرُ قبول الإبادة الجماعية الحالية في غزة -وتشجيعها ودعمها- بصورة حاسمة ومؤلمة كيف يُنظَر إلى الألم والمعاناة اللذين لا يوصفان من جرّاء قصف المدارس والمستشفيات، وقتل الأطفال بالجملة، من بين أشكال للانحطاط أخرى، على أنها أوسمة شرف لـ فريق أميركا. ولهذا آثاره المهمة. فإذا ما قُبِلَ الانحطاط الذي نشهده في غزة -بل ومُجِّد- يغدو من الصعب أشدّ الصعوبة أن يثير العنف الأطول والأبطأ الذي تعاني منه أغلبية العالم نتيجة الانهيار البيئي والتغيّر المناخي أي نوع من التعاطف من الطبقة الحاكمة. ومن المتوقع أن تحقق شركات النفط والغاز وعمالقة التكنولوجيا ومصنّعو الأسلحة والمضاربون العقاريون أرباحاً غير متوقعة من طلباتٍ ومبيعاتٍ جديدة في قطاع غزة وحوله. وهذه المصالح على وجه التحديد هي التي تشكل جزءاً من صلب الاقتصاد العالمي الذي يدمّر الكوكب بهدف بيع الغنائم لأعلى مُزايد. وفي هذا السياق، يُثبت رفض البلدان الغربية قبول حكم محكمة العدل الدولية بشأن خطر الإبادة الجماعية في غزة أنَّ لا شيء سوف يقف في طريق الربح والسيطرة، لا حقوق الإنسان، ولا الانهيار البيئي، ولا الكوارث المناخية بالتأكيد.

هكذا، تؤكّد غزة الحقيقة الأبدية التي مفادها أنه لا يمكن التعويل قطّ على القانون الدولي والأخلاق الغربية لتخفيف أزماتنا السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية أو البيئية. لقد صيغت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، ومؤتمر الأطراف الخاص بها (COPs)، والاتفاقات التي توصلت إليها الاقتصادات العالمية الكبرى، باعتبارها السبل المشروعة الوحيدة لمعالجة تغير المناخ على المستوى العالمي. لكن حقبة المزاعم الغربية في ما يخصّ الديمقراطية والتعددية والتعاون الدولي انتهت: أنهاها فشلهم التام في وقف مذبحة الشعب الفلسطيني، وفي إقامة صلات حاسمة بين الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. ويشهد العالم الآن أسطورة نظام دولي قائم على القواعد وهي تحترق، بعد أن قضى عليها تدمير إسرائيل لغزة في مواجهة إصرار الشعب الفلسطيني على إنسانيته.

المستقبل الاستيطاني للفصل العنصري البيئي:

ما نشهده في إبادة سكان قطاع غزة، بوصفها الخلفية العادية لخطط الإنتاج والعطلة المعتادة لدى الأميركيين الشماليين والأوروبيين الغربيين وبلدان الخليج وغيرهم ممن يتربّحون من النظام الإمبريالي الأوروبي الأميركي، هو لمحة عمّا سيأتي في حال الانهيار البيئي العالمي. ولقد سبق أن رأينا هذا الموقف المتّسم باللامبالاة الشديدة في حالات الإغلاق بسبب جائحة كوفيد-19، حين وُضِعت ملايين الأشخاص الفقراء ومن الأعراق الأخرى في مهبّ الأذى عمداً سواء داخلياً في البلدان الغربية أو في الجنوب العالمي لتوفير الخدمات الأساسية للطبقات المتوسطة والنخب البيضاء والقريبة من البيضاء للحفاظ على أنماط حياتها الرخيّة وتمكينها من قضاء عطلات أحلامها في فترة ما بعد الوباء. وفي حين يعاني الكوكب من آثار التنسيق العالمي المتسارع لاستخراج الموارد واستغلال العمل، مع نقرات الكمبيوتر السريعة سرعة البرق، والذكاء الاصطناعي وخوادم الويب التي تُملي سلاسل التوريد العالمية، تشعر الطبقات الحاكمة بالقلق إزاء «التهديدات الأمنية» الجديدة والمُضَاعَفة مثل تغير المناخ، وحركات المهاجرين وطالبي اللجوء غير المهرة، والغزوات الجيوسياسية التي يشنّها أعداء النظام الإمبريالي الغربي.

في السنوات الأخيرة، راح علماء المناخ يشيرون بصورة متزايدة إلى استحكام تعدد الأزمات؛ وهو وضع من التناقضات الاقتصادية والاجتماعية البيئية التي تتقارب ويصعب فصلها. تنظر الطبقة الحاكمة إلى تعدد الأزمات على أنّه خطر أمني، تعمل فيه التهديدات المختلفة التي تزعزع الوضع الراهن وتقوم عليها توقعات النمو المالي، على تضخيم بعضها بعضاً. فاجتماع هذه التهديدات التي غالباً ما تُفهَم على أنها «من خارج» النشاط الاقتصادي، أو عواقب سلبية غير مقصودة للنمو -مثل الإفراط في استغلال التربة والمياه الجوفية، والتفاوت الشديد في الدخل، والمخلّفات الحيوانية المسببة للأوبئة، وارتفاع مستويات سطح البحر، وتفاقم الجفاف والفيضانات والحرائق- ينذر بخطر تعطيل الوتيرة المتواصلة للتجارة والأعمال المعتادة. لكنّ هذه العواقب لا تُرى قطّ على أنّها أمارات خطر تمسّ النظام ذاته، بل على أنّها مجرد تهديدات يجب أن يتدبرها نظام سياسي واقتصادي ليس لديه أي نيّة لتعديل المسار أو الردّ ردّاً وافياً على تناقضاته الخاصة. ومن بين ذلك التغيّر المناخي الجامح المرتبط بوهم أنّ النمو يمكن أن ينفصل عن التأثير البيئي عالمي النطاق، وعن الارتفاع الدائم في تكاليف المعيشة، وعن يمينٍ متطرف يُشَدّ من عزيمته.

لكنَّ الانهيار البيئي العالمي -المتراوح من انقراض جماعي سادس إلى ذوبان التربة المتجمدة في القطب الشمالي، إلى استنفاد المواد العضوية في التربة ذات الأهمية البالغة لإنتاج الغذاء، إلى التغيرات الهائلة في حرارة المحيطات وحموضتها، وبالطبع إلى تغيّر مناخي حصل خلال نصف قرن فحسب بعد أن كان تغيّر بمثل حجمه قد استغرق أكثر من مليون عام- يعكس بأبعاده هذه جميعاً تتويجاً لخمسة قرون من توجيه الموارد واستغلال العمل لمصلحة قِلّة من النخبة. وهذه الإخفاق البيئي هو ما أطلقت عليه الباحثة فرحانة سلطانة اسم «الاستعمار المناخي» (Sultana, 2022). وإذا استطعنا أن نتخيّل 500 عام من الفتح الاستعماري الذي سلَب الحيوية من أجساد البشر المستغلّة في العمل ومن الأرض كموارد قابلة للاستخراج تذهب إلى قِلّة من المتميّزين، ولم يُبْقِ سوى الأرض القاحلة، والعظام، والأطراف المتناثرة في أرجاء الأرض اليباب الناجمة عن كلّ ذلك، لأمكننا أن نتخيّل تغيّر المناخ باعتباره أمطاراً فائقة التركيز من هذه العواقب تهطل (أو ربما تُتَقَيّأ) في زمن جيولوجي، فتحرق وتُغرِق وتَخنق تلك الأرض ذاتها وأولئك البشر الذين امتصت هذه السيرورة حيويتهم في البداية.

في حين قد يبدو أنَّ ما يُدعى النخبة «التقدمية» داخل الطبقة الحاكمة على خلاف مع اليمين المتطرف المتحمّس حول كيفية إدارة هذا المطر القيء من الأزمات المتعددة، فإنَّ الاثنين أقرب في المواقف والمقاربة مما قد يظهرا بكثير. فمن منظور الحفاظ على بنية النظام الإمبريالي الأميركي، عمل معتدلو الوسط الليبراليون واليمين المتطرف كلاهما بصورة منهجية على تفكيك صنع القرار والتخطيط الديمقراطيين من خلال الأَمْوَلَة، وتغذية العسكرة العالمية والتحريض على الحرب، وتمكين المليارديرات المعادين للمجتمع من إدارة هذا الأخير. وهما لا يختلفان سوى في اللصاقة السياسية أو التغليف السياسي لما يبيعانه للجمهور في سيرك السياسات الانتخابية. وما خسارة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الأميركية سوى نتيجة لنظام ليبرالي متعجرف ومنحط يتفاخر بامتلاكه قوة عسكرية «قاتلة»، واعتقال الأطفال السود والمهاجرين، وإقناع البشر بالاكتفاء بما يشبه جلسات التأمل بينما هم يُحرمون من الغذاء والسكن اليسيرين في عالم من الانهيار البيئي: كل ذلك في الوقت يزعمون أنهم قتلة أخلاقيون لأطفال فلسطين. لقد تجاوز النفاق في النهاية ما يمكن تحمله.

بل نجد معتدلي الوسط الليبرالي واليمين المتطرف، حتى هنا، يعدان الشعوب بأن يتمكنا من تلافي أسوأ التأثيرات التي خلقاها، باعتبارهم مقترفي  المشروع الحضاري الذي خلق من العنف ما لا يوصف وذرّيتهم. لكنّ الأهم من ذلك هو أنّ هذه الوعود لا يوفى بها في الحقيقة إلّا للنخبة، بغض النظر عن الحزب المعني. ولضمان أن يبتلع الجمهور فكرة أنَّ الفوائد سوف تعود على جميع المواطنين، يُقال لهم إنهم بحاجة إلى القبول بتضحيات معينة: من بينها وَقْف الحريات المدنية، وترحيل المهاجرين إلى بلدان أخرى، والتنقيب عن مزيد من النفط، والتحكّم بأجساد النساء، والتلاعب بأسعار الغذاء، وتضخم تكاليف العقارات، وتراكم الديون لدعم السلع الآجلة وأشكال أخرى من المضاربة (التي تولد جولات أخرى من الديون). وعلى النقيض من ذلك، لا يقدّم فاحشو الثراء أياً من هذه التضحيات.

ترى الطبقة الحاكمة في الطاقة المتجددة فرصةً لدعم عملياتها التجارية الأساسية. وهي لا تني تقنع الجمهور بأن حلول الطاقة الجديدة موضع ترحيب، لأنها تضع حدّاً أقصى لاستخراج النفط والغاز المتزايد باطّراد وتخلق سلعاً وخدمات جديدة قابلة للتسويق (أي أنها حلول مناخية زائفة) مثل سندات التكيّف المناخي، وتعويضات الكربون، وتقنيات الهندسة الجيولوجية. ويُعطى التعلّم الآلي كثيف استهلاك المياه والطاقة إلى أبعد حدّ شيكاً على بياض باسم الكفاءة الاقتصادية، على الرغم من مخاطره الوجودية على آخر شرايين الديمقراطية وحقوق الإنسان والأنظمة الداعمة للحياة. كما يتعيَّن على الجمهور أن يقبل، بالمثل، أنّه يلزم مليارات الدولارات من الاستثمار في العسكرة لـ«مكافحة الإرهاب»، في حين يلزم الأمن الخاص والمزيد من الأموال للشرطة «للتخلص من عناصر الإجرام»؛ وهي فئة يمكن توسيعها لتشمل أي شخص يعارض قتل السكان الفائضين ويقف في طريق منتجعات السياحة البيئية والمطارات الدولية والأملاك على الواجهة البحرية.

يتمثّل واحد من الردود الأشد رداءة على الأزمات المتعددة التي تواجه الكوكب في التقاطع بين الخطاب «الأخضر» و«الاستدامة»، من جهة، وتوسّع الاستعمار الاستيطاني وإمبريالية الموارد في أرجاء العالم، من جهة أخرى. فبتجميل ما تقترفه الإبادة الجماعية من محو السكان وتزيين واجهته بألواح الطاقة الشمسية الجديدة، والمنتجعات السياحية البيئية التي تسمح للزوار بالاقتراب من الحياة البرية، وعنفات الرياح، والمباني «الذكية مناخياً» (التي هي في الأساس تجارب للرصد والمراقبة)، على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ أولئك الملطخة أيديهم بدماء الإمبراطورية يقدّمون أنفسهم كعشاق للعالم الطبيعي وحماة له. والواقع، أنّ «بيئاتهم» المعقَّمة هي مطامح فعلية، لا يُراد أن تطأها أقدام البشر العاديين. بل سوف يُبعَد البشر العاديون بالقوة، ويُتركون للأعاصير التي يتزايد عنفها، والجفاف المروع وتلف المحاصيل، والاحتراق في حرائق الغابات (على نحو ما تحرق إسرائيل أطفال غزة حتى الموت)، أو العمل القسري خارجاً في درجات حرارة نادراً ما شهدها هذا الكوكب (من بين أشكال أخرى من التعذيب). باختصار، هم قيد التخلص منهم، وحرقهم، وإغراقهم، وقصفهم -سواء نتيجة لتغير المناخ أو بذخائر الفوسفور الأبيض- كجزء من عملية محو السكان لإفساح المجال أمام العقارات «الخضراء» و«الذكية مناخياً» أو من أجل مزيد من الاستيلاء على الأرض بالمضاربات.

ليست «البيئات» المعقَّمة التي تنبذ غير المرغوب فيهم والطبيعة بالشيء الجديد. فقد بنيت فضاءات بيضاء شديدة التحصين في المدن في أرجاء الولايات المتحدة على ظهور العمال السود والسمر والأصليين الحضريين، مع الحرمان المنهجي لهؤلاء العمال من أجر يسد الرمق، ومن إبداء رأيهم في الشؤون العامة، والتحكّم بالأرض. وكما كتب الباحثان الأسودان المناهضان للعبودية أشانتي ريس وسايمون جونسون، فإن الموارد التي كان يمكن أن توفر خدمات عامة ومدارس لائقة وغذاءً ونقلاً وإسكاناً لهؤلاء البشر أُعيد توجيهها إلى ميزانيات الشرطة الضخمة والسجون المصممة كمؤسسات لمراقبة السود وقمعهم (Reese and Johnson, 2022). وفي غير مكان، بحسب الوطن الأحمر (The Red Nation)، وهو تحالفُناشطين ومعلمين وطلاب ومنظّمي مجتمع أصليين وغير أصليين، فإنَّ بلداناً بأكملها، مثل ما سُمِّي كندا، نشأت من خلال غزو أراضي الأمم الأصلية واحتلالها، تلك الأمم التي أُجبرت من ثمَّ على التخلي عن لغاتها ومعارفها من خلال مدارس داخلية وحشية، إلى أن مُحي ما فيها من العرق «الهندي» وصارت مقبولة لدى المستعمر الأوروبي الأميركي، مع كلّ ما ترتّب على ذلك من آثار كارثية (The Red Nation, 2021). لقد خلق نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وإسرائيل وأماكن أخرى نظاماً مؤسسياً قانونياً للعزل يميّز بعض البشر، على أسس عرقية أو إثنية أو دينية نقيّة متصوَّرة، على حساب آخرين ممن أُخضعوا عن عمد للقمع والانتهاك والاستغلال الجسدي والنفسي.

يستغل الفصل العنصري البيئي مُتَخَيَّلات مثل «الاستدامة» و«صداقة البيئة» لتعزيز مستقبل أقلية، في حين يُمَأْسِس بنية قانونية وسياسية واقتصادية تتمحور حول فكرة «الأمن القومي». وهو يفعل ذلك في مواجهة انهيار الأنظمة الداعمة للحياة على الأرض، بهدف النبذ المتعمَّد للبشر غير المرغوب فيهم والطبيعة، أو تعريضهم للخطر مباشرةً. وكما كتب عالم البيئة السياسي كاي هيرون، فإنّ الفصل العنصري البيئي يبيح موت بعض البشر «كي يمكن للرأسمالية أن تحيا» (Heron, 2024). وهذا الفصل العنصري يتظاهر بالبراءة من خلال القيام بأعمال يُظهرها خطابه على أنّها «قرارات صعبة» لا بدَّ من اتخاذها بهدف تأمين المجتمع من تهديدات هي من صنع يديه.

يحاكي الفصل العنصري البيئي حصر غير المرغوب فيهم في معازل أو بلدات أو مزارع أو محميات تعكس إرث الاستعمار والرأسمالية العرقية وإبادة الشعوب الأصلية. لكنَّ ما يميز الفصل العنصري البيئي هو أنه يستغل مُتَخَيَّلات «الطبيعة» – مثل الحفاظ على البيئة، وغرس الأشجار، والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والكهربة – كرموز للمكانة لتوجيه الغذاء والمياه والنقل والموارد الأخرى المتبقية إلى قِلّة، في حين يعتمد على المناخ والكوارث البيئية والحرب لإدارة فائض السكان. وهذا الشكل من الفصل العنصري الذي يفصل الطبقة الحاكمة التي تعيش في جيوب للنخبة عن الغالبية العظمى من السكان، في مواجهة اضطرابات مناخية متزايدة، يُقام على أساس مصالح الأمن القومي ويوضع في إطاره، فيقال إنه في «مصلحة الجميع». وغزة، باعتبارها موقعاً للنضال ضد الاستعمار صَدَعَ عنف الرأسمالية العرقية المتواصل وكشفه، تُسلّط الضوء ساطعاً على المدى الذي بلغه من يُسمّون بالتقدميين في الغرب، ممن يتبنّون مفاهيم مثل المساواة وحقوق الإنسان والاستدامة والتنوع، في تطبيع المذابح الجماعية ما إن تكون الأنظمة التي تدعم امتيازاتهم في خطر. ما من حدّ لضروب العنف الممكنة حين تخفق الإيحاءات اللغوية والثقافية بالبراءة في تأمين المصالح الجيوسياسية الاستراتيجية.

التمويه الأخضر والتلاعب النفسي والقمع:

مع ظهور أشكال جديدة من التّشظي الطبقي تفصل الجديرين عن غير الجديرين، سيحتاج أفراد الطبقة المتوسطة إلى نفاذٍ كافٍ إلى رأس المال (المالي والاجتماعي على حدّ سواء) لتجنب السقوط في فئة من يمكن الاستغناء عنهم: على سبيل المثال، عمال الطبقة العاملة البيض، لا سيما العمال المهاجرين من ذوي البشرة البنية والسوداء، الذين تتمثل «قيمتهم» الرئيسة بالنسبة إلى رأس المال في رخص عملهم. وفي عالم من التفاوت المتزايد والتداعيات البيئية، سوف يتطلب الحفاظ على الوضع الراهن مزيداً من الأوهام الخيالية بشأن «الاستدامة»، لتبرير التضافر بين الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. وسوف تواصل هذه الأوهام الحفاظ على «راحة بال» أولئك الذين يعيشون في شقق سكنية «مقاومة للمناخ» في مناطق فاخرة، تتميز بالخضرة الوفيرة، ومنشآت التجارة والبيع بالتجزئة، والأمن الخاص على مدار الساعة. وهذه الفجوة بين هذه الديستوبيات الخيالية لأنماط الحياة «المستدامة» وبين التجربة البائسة التي تعيشها الغالبية العظمى من البشرية سوف تتطلب مستويات سخيفة من صناعة الأساطير حول الكوكب الذي نعيش عليه جميعاً.

أحد الأمثلة على هذه الأساطير السخيفة حول الاستدامة هي رؤية نتنياهو لغزة التي وُضعت في خطة من ثلاث خطوات لتحقيقها بحلول عام 2035. تهدف الخطة إلى «تخضير» الموت والدمار من خلال ما يسمّيه أوجنيان كسابوف «ديستوبيا حضرية مبنية على مقابر جماعية»: منطقة تجارة حرة مستقبلية مع علاقات عامة تركّز على الاستدامة والحضارة الحديثة. وفي حين يواجه أكثر من مليار شخص كارثة مناخية ومجاعة وعواصف متصاعدة وموجات حرّ قاتلة، ما يجعل مناطق شاسعة من الكوكب غير صالحة للعيش، فإن مثل هذه المشاريع المتّسمة بتجاهل فادح لبقية البشرية، وبتناقضات صارخة أيضاً، سوف تواصل طحن الأرض مع إفلات تام من العقاب. ومع انعدام أي فرصة للطموح وتوقف الحراك الاجتماعي، سوف يتواصل الدفاع بعنف عن هذه الديستوبيات المبنية على مقابر جماعية، مع جدران حدودية عسكرية تقف كسياج في وجه غير المرغوب فيهم وتحفظ مصالح فاحشي الثراء. لا تصدّق الطبقة الحاكمة أن تمثيليتها في الحفاظ على قوتها وتنميتها وسط انهيار بيئي سوف تتوقف قريباً. فهدفها هو تعظيم الأرباح ولو كان الكوكب يحترق. لكنّها، في سياق انخفاض معدلات الولادة، ودفق المهاجرين المتزايد، والتأثيرات المناخية الخطيرة التي تقيم حواجز في وجه سلاسل التوريد، تبقى في قلق دائم بشأن بعض الجواكر: زيادة نقص العمالة، وانخفاض إنتاجية العمل، وإغلاق السبل أمام استثمار رأسمالها السائل. وهي تعوّض عن ذلك بالاندفاع للاستيلاء على مساحات شاسعة من الأرض الصالحة للزراعة، والرواسب المعدنية، والوقود الأحفوري، وغيرها من الموارد التي توصف بأنّها حاسمة. ومع تآكل التربة، وخراب الأرض الزراعية الجيدة بالحرائق والفيضانات، ونزوح السكان بالحرب والكوارث المناخية، ثمة جولات جديدة من إمبريالية الموارد بالانتظار. وتحتاج الطبقات الحاكمة إلى «أعذار» لتبرير غزوات الموارد هذه. وغالباً ما نجد مثل هذه الأعذار في سرديات الأمن الجيوسياسية -الأمن ضد أولئك الذين يقاومون الغزوات المتواصلة- وفي التطبيع الاستراتيجي، حيث يُعرَّف «السلام» بأنه إطاعة رأس المال. وتوفّر دول الخليج العربي مثالاً على هذا، في علاقتها بإسرائيل. هكذا، سوف تُعَبَّأ مفاهيم «الأمن القومي» و«حالة الطوارئ المناخية»، في مستقبل يسوده الفصل العنصري البيئي، لتبرير سباق نحو القاع، في اندفاع مجنون لتجميع القوة الجيوسياسية من خلال استخراج المعادن «الخضراء» من أجل تكنولوجيات منخفضة الكربون.

سوف يكون ما تبقى من الفضاءات الديمقراطية في المجتمع واحداً من ضحايا هذه التعبئة لتهديد الأمن الوطني. فمع عزل غير المرغوب فيهم (طالبو اللجوء، الشعوب الأصلية، الجماعات الرعوية، صغار المزارعين، سكّان الغابات، وأفراد الطبقة العاملة بالمليارات) في أحياء فقيرة، أو ترحيلهم، أو قتلهم ببساطة، فإنَّ أولئك الذين ينتقدون هذا المشهد العنيف سوف يُعامَلون أيضاً باعتبارهم خطراً أمنياً. ومع استمرارهم في الاحتجاج، سوف تُطهَّر فضاءات المعارضة من خلال «الحوارات الجامعة» التي تتجاهل ديناميات القوة بين المضطهِدين والمضطهَدين. وسوف يواصل مرتكبو الجرائم ظهورهم كضحايا، أو في أفضل الأحوال «أصحاب مصلحة».

توضح النكبة الثانية التي نشهدها في غزة حجم التطرف الذي يمكن أن يبلغه التلاعب النفسي: فالصحافيون والمدافعون عن حقوق الإنسان الذين يوثّقون بشقّ الأنفس العنف الحاصل الذي لا يمكن تصوره إمّا أن تتجاهلهم الطبقات الحاكمة، أو يُلامون على أنهم جزء من المشكلة، أو يُقتلون. فالاستراتيجية هي «إطلاق النار على المراسل». ويعاد تصنيف مئات الآلاف من المواطنين العاديين الذين يقفون ضد تجاهل إسرائيل الصارخ للقانون والنظام الدوليين على أنّهم معادون للوطن أو إرهابيون، وعلى أنّهم يخلقون بيئات سغير آمنة» في الجامعات، بينما تواصل إداراتهم الاستثمار في قتل الأبرياء واستئجار حرس أمني خاص لضرب الطلاب بالهراوات واستهدافهم بالغاز المسيل للدموع. ففي عالم الفصل العنصري البيئي قيد التشكُّل، تقتصر «حرية التعبير» على أولئك الذين يدافعون عن الإمبراطورية، من دون أولئك الذين يعبّرون عن معارضتهم لها.

باختصار، إنّ عالم الفصل العنصري البيئي هو عالم لا مكان فيه للأخلاق. فهو ينطوي على تبريرات غريبة لنزع إنسانية أجزاء كبيرة من البشر كي يمكن للطبقات الحاكمة أن تزعم أنها تخدم المصلحة العامة بمواجهة التهديدات التي تتهدد الأمن الوطني، تلك التهديدات التي هي من ولّدتها بأكملها. فالأمن وخلق «فضاءات آمنةش عامة هي الأعذار المستخدمة لتبرير جرائمها الشنيعة بينما تضاعف جهودها في ضمان ألّا يصلح العالم للعيش سوى لأقلية متميزة.

استراتيجية بيئية في عالم فصل عنصري بيئي:

تهدف الإبادة الجماعية التي تبثها شاشات التلفاز في غزة إلى تقديم درس لا واعٍ من الطبقات الحاكمة إلى جميع  المضطهَدين في أنحاء العالم، وتحذيرهم من أنّ مقاومتهم للفصل العنصري البيئي سوف تُقابل بهجوم عسكري كان يعدّ له منذ سنوات. ولهذا الانصراف عن أي سياسة للتسوية آثار هائلة لم تدركها الحركات الاجتماعية بعد. لكنّ هنالك شيء واحد واضح: ليس على هذا سوى أن يعزز تصميمنا على بناء مقاومة استراتيجية وواسعة النطاق. وهذا يعني أنه بينما نعلي شأن الجبهات المناهضة للاستعمار التي تقاتل ضد الإمبريالية العسكرية والاقتصادية في الجنوب العالمي، والتضامن الجنوبي-الجنوبي الناشئ الآن في عالمنا بتعددية أقطابه الآخذة بالازدياد، علينا أيضاً أن نعزز قدرة البشر على الأرض على المقاومة. وأمامنا أيضاً معركة مهمة لخوضها في المركز الإمبريالي ضد الإمبريالية الرأسمالية، من خلال حركاتنا ومنظماتنا الاجتماعية. وهذا جارٍ بالفعل؛ نحن بحاجة إلى تعزيزها وإقامة روابط بينها. نناقش، في الفقرات أدناه، بعض العقبات الأيديولوجية التي تواجه حركاتنا، وكيف يمكن أن تبدو استراتيجية بيئية موحدة ضد الفصل العنصري البيئي.

في خضم هذه الإبادة الجماعية، ومع تكدّس جثث الشهداء الفلسطينيين، واصلت حركة المناخ الغربية التركيز على تأثير العدوان الإسرائيلي على العالم الطبيعي: فقدان أشجار الزيتون في فلسطين، وانبعاثات الكربون من القنابل، وتخريب الحياة غير البشرية. وحتى حين تمد حركة المناخ يد التضامن إلى النضالات المناهضة للاستعمار، فهي تميل إلى اعتبار العنف ضد العالم الطبيعي منفصلاً بطريقة ما عن العنف ضد الإنسانية. وهذه هي الاختزالية المناخية التي ترى الأزمة على أنّها خسارة للحياة الطبيعية في حد ذاتها، لا على أنها أزمة ناجمة عن فقدان النسيج الاجتماعي البيئي الذي يدعم الحياة البشرية وغير البشرية، في فلسطين وغير مكان، ويرقى إلى مستوى إبادة بيئية وإبادة جماعية.

ما الذي يُفترَض بالحركة المناخية أن تفعله على نحو مختلف؟ أولاً، يتعيّن عليها أن تتخلى تماماً عن المقاربات الاختزالية للأزمة البيئية التي تحصرها في قضايا الانبعاثات الكربونية وتأثيراتها في العالم الطبيعي. وغالباً ما تتجلى الاختزالية المناخية في وضع النضالات العاجلة في تراتبٍ يحتلّ فيه التغير المناخي موقع القمة. ولا تفصل هذه المقاربة الأزمة البيئية عن محركاتها السياسية التاريخية فحسب، بل تشير أيضاً إلى أنَّ الحوادث المناخية المتطرفة الناجمة عن تغيّر المناخ يُشعَر بها بمعنى بيئي بحت، من دون علاقة بالتناضد الجندري والعرقي والطبقي أو كيف ستستغل الجماعات اليمينية المتطرفة آثار التغير المناخي لتضع نفسها موضع الضحية وتفرض أشكالاً جديدة من العنف على الفئات المهمشة بالفعل (Seymour, 2024). وغالباً ما تحصر منظمات «العدالة المناخية» نفسها في نطاق ضيق من النضالات المتعلقة بمسائل تخصُّ العالم الطبيعي. وما التمييز الزائف بين «الطبيعة» و«البشر» سوى استمرار للبيئيّة الاستعمارية والاستيطانية التي يُخضع فيها البشر وضروب الطبيعة غير المرغوب فيها لأغراض التجميل، والترفيه، والنشاط الاقتصادي في النهاية. وكما كتب عالم البيئة المحافظ فيوري لونجو، فإنَّ «الطبيعة»، في هذه المقاربة، يُنظر إليها على أنها منفصلة عن المجتمعات البشرية الحيوية والمتنوعة التي أنتجتها، وواصلت حمايتها منذ زمن سحيق (Longo, 2023).

يتمثّل أحد أشكال الاختزالية المناخية التي تفصل بين حماية بيئة مجردة أو استعادتها وبين البشر، مع ما يترتب على ذلك من عواقب عنيفة، في الاهتمام المتزايد بمخططات زراعة الأشجار على نطاق واسع كردّ مزعوم على فقدان الموائل، أو لزيادة احتجاز الكربون، أو لحماية التربة. وفي بعض الحالات، لم يكن غرس الأشجار متعارضاً أدنى تعارض مع نتائج الفصل العنصري البيئي المبيدة للبيئة والمبيدة للبشر. ومن الأمثلة على ذلك استخدام «الأشجار كجنود» لتيسير التطهير العرقي، كما تقول رانيا المصري من شبكة العدالة البيئية في ولاية كارولينا الشمالية في مناقشتها زراعة إسرائيل للأشجار في الضفة الغربية. وهي ترى أنّ إسرائيل تزرع الأشجار لتمويه جرائمها وسلب الفلسطينيين أرض آبائهم وأجدادهم بالعنف، وتقديم نفسها كمنقذ «أخضر»، حتى في ظلِّ تحول مزارع الأشجار المتجانسة التي تقيمها إلى حطب لحرائق الغابات الناجمة عن تغير المناخ. وعلى سبيل المثال، فقد اشتملت مبادرات الصندوق القومي اليهودي، لعقود، على زراعة الأشجار فوق القرى الفلسطينية التي هُجِّر سكّانها واستخدام الأشجار كسلاح لضم مزيد من الأرض في الضفة الغربية والنقب وتطويقها. وتحرم حملة التشجير هذه السكان الفلسطينيين وبيئاتهم المتنوعة من الخروب والزيتون والفواكه، وتستبدل بها أشجار الصنوبر الأوروبية الغريبة التي تحتاج كميات كبيرة من المياه الجوفية، وتزيد من حموضة التربة (ما يجعل من المستحيل زراعة أي شيء آخر)، وتشلُّ المنطقة وتحرسها من عودة جماعاتها المهجرة. بل إنّ رئيس الصندوق القومي اليهودي من عام 2020 إلى عام 2022 أبراهام دوفدفاني سبق أن قال صراحة أنّ هدف الصندوق القومي اليهودي من زراعة الأشجار هو «الاستيلاء على فضاءات مفتوحة بالقرب من المستوطنات البدوية من خلال التشجير الذي يُقصَد منه الحيلولة دون حيازة الأرض». وكما تؤكد رانيا، فإنّ «النموذج البيئي للمشروع الصهيوني هو نموذج قائم على التجانس، سواء بالنسبة إلى الشجرة أو بالنسبة إلى نموذجه للدولة والسياسة: سياسة واحدة، أمة واحدة وسنمحو أي شيء آخر».

بالنسبة إلى ناديا طنوس، المدير المشارك لـ شرف الأرض والقيادية في حركة الشباب الفلسطيني، فإن الردّ «لا يكون بنبذ الحركات البيئية» التي كانت في كثير من الحالات قوة تقدمية قوية في الغرب ومدخلاً للشباب ذوي المشاعر المناهضة للمؤسسة. وترى ناديا أنه إذا فشلنا في دفع حركة المناخ إلى تبني مزيداً من التيارات المناهضة للإمبريالية والأممية، فإننا نخاطر بتسليمها للمؤسسات الليبرالية الأيديولوجية التي ستستخدمها لتعزيز تطبيعها الوضع القائم، بما في ذلك من خلال التأثيرات في نفسية الشباب ووعيه.

لا يؤدي اضطلاع البيئيّة السائدة بسياسات تقدمية إلا إلى توسيع تنوّع نظام الإبادة البيئية والإبادة الجماعية، وزيادة قبوله، بدلاً من القيام بشيء لتغييره. وعندما تُظْهَر للعلن المعايير الأخلاقية الرفيعة التي تزعم الاهتمام بالبشر والبيئة والتعاطف معهما، مع مضاعفة العنف الذي يمارسه المجمع الصناعي العسكري، ينشأ شكل ماكر ومخادع على نحوٍ خاص من أشكال الفاشية، لايختلف عن الفاشية الصريحة إلّا في حقيقة أنه لا يعلن صراحة وعلانيةً عن خطابه العنصري الكاره للنساء والعنيف. وهذا ما يجعل من الأهمية بمكان تقديم إطار تحرري قوي قادر على الخوض في أساطير البيئيّة الليبرالية والاختزالية المناخية.

في حين تواصل الروايات السائدة الدفع باتجاه عزل قضايا المناخ واستثناء الأزمة المناخية باعتبارها قضية رعب فريدة، لا بدّ من التأكيد على حقيقة أنّ البعد البيئي لطالما كان جزءاً مكوِّناً من حركات التحرر الوطني، وأنَّ معاداة الإمبريالية يجب أن تكون البوصلة التي توجه نضالنا. سوف تجلب نهاية النظام الرأسمالي الإمبريالي العدالة، وهذا يشمل عدالة الأرض وانتقالاً نحو أشكال للعيش داخل حدود الكوكب أكثر استدامة بيئياً. وفي هذه النقطة، تقدّم نادية طنوس مثال اليساريين البيئيين ممن يدينون الاستخراجيّة التي انتهجها موراليس في بوليفيا، من دون مراعاة الاحتياجات الداخلية للبلاد من أجل التنمية، وحماية مشروعهم الاشتراكي الوطني في مواجهة الإمبريالية العسكرية والاقتصادية الأميركية. وتؤكد طنوس أنّ «التحرر الوطني لدول الجنوب العالمي يجب أن يكون النجم الهادي» لحركاتنا الحالية. وهذا لا يعني الدفاع عن الدولة القومية، بل الدفاع عن التحرر من الاستخراج الاستعماري، والاضطهاد والعنف، بوصفها الخطوة الأولى نحو بناء عالم بعوالم كثيرة.

كذلك، من واجب الحركات الاجتماعية في مركز الإمبراطورية، ومن بينها حركة فلسطين، أن تفهم أن نضالها هو نوع من المقاومة البيئية، وخيط في نسيج صناعة الحرية والتحرر من الإبادة البيئية والإبادة الجماعية. وهذا لا يستلزم إعادة اختراع العجلة. ذلك أنَّ معاداة الإمبريالية البيئية تقليد غني ومنتج يجب أن نضعه في طليعة حركاتنا ونعوّل عليه في تسليط الضوء على حدود البيئية الليبرالية وتناقضاتها. على سبيل المثال، كان توماس سانكارا، الزعيم الثوري لبوركينا فاسو في ثمانينيات القرن العشرين واغتيل في انقلاب مدعوم من الخارج، من أنصار علم البيئة السياسي. وخلال السنوات الأربع التي قضاها في السلطة، طرح برنامج تنمية اشتراكي نسوي حرّر الملايين من الأمية والعادات الأبوية والتخلف الطبي. وفي خطاب حماسي ألقاه في مؤتمر سيلفا الدولي الأول للأشجار والغابات في باريس في عام 1986، حدد سانكارا جذور الأزمة البيئية في الإمبريالية، قائلاً: «إن النضال من أجل الدفاع عن الأشجار والغابات هو قبل كل شيء نضال ضد الإمبريالية. لأن الإمبريالية هي المُحرِق الذي يضرم النار في غاباتنا والسافانا». وعلى النقيض من زراعة الأشجار لسلب الآخرين أراضيهم، أو للتعويض عن إطلاق الكربون في أماكن أخرى، سعت مخططات زراعة الأشجار التي وضعها سانكارا إلى حماية الأرض من إمبريالية الموارد ورأس المال العرقي، من خلال تطبيق المعرفة الثقافية المجسدة للمنطقة المعنية.

ثمة أمثلة أخرى على بيئات التحرر. أحدها ممارسات الأُبُوق أو الفرار التي كان يمارسها العبيد الأسرى في المزارع الاستعمارية، إذ كانوا يزرعون الطعام ويحافظون على جماعاتهم بالاعتماد على العلاقات الحميمة التي كانت تربطهم بالأرض (Stennett, 2020). وهناك مثال آخر هو حرب العصابات التي كانت عماد العديد من حروب التحرر المناهضة للاستعمار. ففي حرب العصابات، يقاتل السكان الأصليون على أرض بيئية، مستخدمين معرفتهم بالأرض للتفوق على المستوطنين الذين لا يستطيعون التعامل مع الأرض إلا باعتبارها مادة من المواد أو شيئاً من الأشياء التي يديرونها أو يتلاعبون بها أو يفتحونها. وفي فلسطين، ينطوي الصمود الجمعي على الحفاظ على الصلة بالأرض، لا لأسباب عاطفية فحسب، بل لتأكيد حضور المرء أو وجوده على الأرض، كشكل من أشكال المقاومة في حدّ ذاته (Taher, 2024). حتى في أحشاء الإمبراطورية، يوفّر إنشاء اقتصادات اجتماعية وتضامنية خارج سيطرة كل من السوق والدولة إمكانات جديدة لصناعة البيئة. وفي هذه الحالات كلّها، فإن ممارسة صنع الحرية على نحو جمعي وخارج أنظمة القمع الاستعماري والإمبريالي تولد علاقات بيئية جديدة تعمل على تجديد ظروف الحياة واستعادتها.

في حين يمكن لأعمال المقاومة الجمعية أن توجِد بيئات بديلة يمكنها تحرير البشرية وعلاقاتنا غير البشرية من العنف الذي تتسم به حلول «الاستدامة» التي تُباع لنا، على السياسة المناهضة للإمبريالية أن تطالب أيضاً بانبعاث حركة موحدة مناهضة للحرب. ليست الإمبريالية شيئاً من دون النزعة العسكرية، كما نظّر الماركسي العربي الراحل سمير أمين (2017)، إذ قال إنَّ الإمبريالية تمشي على قدمين: اقتصادية (من خلال سياسة نيو ليبرالية عالمية تُفرض على بلدان العالم) وسياسية (بما في ذلك التدخلات العسكرية ضد أولئك الذين يقاومون). وبالمثل، فإن المجمع الصناعي العسكري هو أحد أكبر الجهات المسببة للانبعاثات والملوِّثة والدافعة إلى تغيّر المناخ: صناعة متلافة لا تنتج أي قيمة في ما يتعلق بالحياة البشرية. والبنتاغون هو المؤسسة الأعلى كثافة في الكربون في العالم، والمسؤول عن أعلى انبعاثات سنوية بالمقارنة مع معظم البلدان (Crawford, 2022). ويؤكد علي القادري أنّ الحرب ليست ناتجاً جانبياً غير مقصود للرأسمالية؛ الأحرى أنَّ الإتلاف والدمار اللذين تنتجهما الحرب يحفزان الاقتصاد الرأسمالي، وبالمثل، فإن التدهور البيئي هو «الإتلاف البنيوي» في الإمبريالية الرأسمالية ((Kadri, 2023. وتحتاج الإمبراطورية الأميركية حالة حرب متواصلة لإعادة إنتاج نفسها وفرض مصالحها على سكان الجنوب العالمي. ولذلك، لا مكان للمجمع الصناعي العسكري في مستقبل خالٍ من الفصل العنصري البيئي. ولفهم هذا أهميتُه الحاسمة في ظل الانهيار المناخي والبيئي لأن الانتقال الأخضر الرأسمالي هو أيضاً حرب استخراج. يصحّ هذا ليس في الجنوب العالمي فحسب، بل في الشمال أيضاً، حيث تُنشأ مناطق تضحية لاستخراج الليثيوم في المناطق التي يعيش فيها السكان الأصليون من أعراق أخرى.

نودُّ أن نضيف، بالتوازي مع ذلك، أنَّ أحد أعظم المخاطر البيئية يحدث عندما يصطفُّ البشر من أعراق أخرى والأصليون إلى جانب الظالم ليصبحوا سفراء للمخيّلة الاستعمارية الأوروبية الأميركية، ويخضعون للأيديولوجيات الثقافية السائدة، الفردانية وحكم الجدارة والموقف العدمي تجاه التغيير الاجتماعي. ويتمثَّل تفوق العرق الأبيض، الضروري لصوغ نظام الفصل العنصري البيئي الكوكبي، بأوجه متعددة الثقافات متنوعة ومتزايدة. ويلقي من يشاركون في هذه العملية بأبناء جماعاتهم تحت الحافلة «ليجعلوها» محط إعجاب التحديقة البيضاء وقبولها. كما تشجّع أفعالهم يمين الوسط واليمين المتطرف على حد سواء، بجلب مزيد من الوجوه المتنوعة إلى صفوفهم، ما يؤدي إلى انزلاق أسرع إلى الهاوية التي هي الوضع الراهن. ويتطلب إيقاف ذلك حركة مناهضة للإمبريالية ومناهضة للحرب تستفيد من التنوع الثقافي لتمكين إنسانية مشتركة ضد ويلات الإبادة البيئية والإبادة الجماعية للرأسمالية العرقية. وفي هذه المرحلة، وفي مواجهة الكارثة الوشيكة، لا يمكن لـ «التفكير البيئي» أن ينزل إلى ما هو أدنى من ذلك.

حتى لو شُيِّدت الألواح الشمسية وعنفات الهواء بكميات غير مسبوقة، من المرجح أن يكون الأوان قد فات على وقف الكوارث التي ستطلقها تغيرات المناخ الجامحة. وكما أظهرت جائحة كوفيد، فإن الأزمات سوف تُعاش على الدوام من خلال السيرورات الاجتماعية ذاتها التي تركز الضرر على الفقراء والشعوب الأصلية، ممن هم في أمس الحاجة إلى عدالة تعويضية، بدلاً من التضحية بهم كأكباش فداء من جديد بوصفهم أضرار جانبية. وكما يزعم الباحث البوتاواتومي كايل باويس وايت، فإنَّ تغير المناخ لا يؤدي إلا إلى تكثيف آثار الاستعمار، وتوسيع نطاق عنفه إلى سكان جدد في جميع أنحاء الكوكب (Whyte, 2020). ما لم تُواجَه القوة الاستعمارية، فلن تمكن معالجة تغير المناخ أبداً. هذا يستحق التكرار، وله صلة مباشرة بمحو غزة الذي تدعمه الحكومات ذاتها التي تأخذ على عاتقها معالجة تغير المناخ، ولا تكفّ عن اقتراح حلول «خضراء» تملأ جيوب شركات النفط وشركات التكنولوجيا الكبرى التي تمول شحنات الأسلحة إلى الكيان الصهيوني. إذا كانت عمليات القصف المتواصل، وهجمات الفسفور الأبيض، والمحو الثقافي، وتدمير غزة الموجَّه بالذكاء الاصطناعي هي «مرايا» مستقبل قريب متجذر في الفصل العنصري البيئي، فإن تحرير فلسطين هو النجم الهادي في تصور أنماط الحياة الإصلاحية والبيئية.

كيف ذلك؟ أولاً وقبل كل شيء، تستدعي الدعوة إلى «تحرير فلسطين» إنسانية مليارات البشر المنخرطين في المقاومة، ليس في فلسطين ولبنان واليمن فحسب، بل في أماكن أخرى عبر الجنوب العالمي، ممن تُعَد حياتهم ذات قيمة، كبشر حقيقيين لديهم قيم وأحلام وخيالات ومخاوف وأفراح وعيوب، على قدم المساواة مع أي شخص في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وإسرائيل وأستراليا وبقية العالم الغربي. واستدعاء إنسانية هذه النسبة الضخمة من سكان العالم ليس سوى مطلب الحد الأدنى من أجل عالم عادل وقابل للعيش. إن كلمات، ولا سيّما أفعال، أولئك الذين لا يزالون بحاجة إلى الاقتناع بهذه الحقيقة الأساسية لإنسانيتنا المشتركة، ويواصلون تفضيل حياة بعض البشر على حياة غيرهم، سوف تظل إلى الأبد معادية للبيئة، بغض النظر عن طبيعة تحليلهم للمناخ. ولا تمكن استعادة العلاقات البيئية القائمة على المعاملة بالمثل والاحترام ورعايتها وجعلها تزدهر، إلّا بالكفّ عن تجريد البشر من إنسانيتهم ووقف إخضاعهم لعقود من القمع والعنف الصريح.

مع أنَّ صعود التضامن بين الحركات التي تضع تحرير فلسطين في القلب والروح من جهودها لم يبدأ إلّا للتوّ، فإن هذه خطوة أولى حاسمة ضرورية بالمطلق للحيلولة دون مستقبل موسوم بالفصل العنصري البيئي. وعلى الرغم من محاولات تجاهل توصيات دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، فقد أرسلت موجات صدمة في جميع أنحاء العالم، وأثارت ضروباً من التضامن العالمي عبر جهود الطبقة العاملة والجهود الشعبية في أماكن غير متوقعة أحياناً، وعبر الانقسام شمال/جنوب. وتشمل حالات التضامن هذه عمال الموانئ في بلجيكا وإيطاليا واليونان والهند الذين رفضوا شحن الأسلحة إلى إسرائيل؛ والمستهلكين في ماليزيا وإندونيسيا الذين شاركوا في المقاطعة التي تسببت في خسائر مالية كبيرة للشركات الغربية المرتبطة بإسرائيل؛ وطلاب الجامعات في جميع أنحاء العالم الذين يرفضون التراجع عن محاولاتهم كشف نفاق مؤسساتهم قبل أن تلبَّى مطالبهم. وبعيداً عن هذه الجبهات، فإنَّ التحدي الذي نواجهه هو ربط نضالات العمال الذين تعرضوا للوحشية في جميع أنحاء العالم بمقاومة الشعب الفلسطيني ضد الأنظمة المشتركة التي تحطّ من قيمة الحياة في كل مكان. التحدي الذي يواجهنا هو تنظيم العمال في كافة الميادين للإضراب من أجل فلسطين، لمنع المزيد من شحنات الأسلحة وأموال الضرائب التي جُمعت بشق الأنفس من الذهاب إلى قتل الأبرياء. وحدها بيئة المقاومة هذه هي من ستحرر الكادحين في كل مكان.

سوف يواصل الشعب الفلسطيني وجميع الشعوب المستعمَرة، شأنهم شأن جميع السكان الأصليين الذين يعانون على أيدي الظالمين، مقاومة هدم منازلهم، واحتلال أرضهم، وإعادة توجيه أنهارهم، وتسميم تربتهم، وقتل حيواناتهم، ومحو ثقافتهم، وإبادة جماعاتهم. هذه حقيقة وجودية: ثمّة شيء متأصل بعمق في الروح البشرية يرفض أن يُسيطَر عليه إلى الأبد. وشروطنا المروّعة لا تعني أننا خسرنا: بل تمنحنا الرؤية التي نحتاجها للرد. لا تخطئوا: مقاومة الإمبريالية ووكيلها الصهيوني هي أقوى قوة بيئية في عصرنا. وبناء حركة جماهيرية مناهضة للحرب والإمبريالية وبيئية هو واجبنا، لتوسيع نطاق مقاومة الفلسطينيين إلى جميع أنحاء العالم. يعتقد المستعمرون أنّه بقدر كافٍ من الوحشية يمكنهم حبسنا في حالة لا نهاية لها من القمع، لكن التاريخ لطالما نحى صوب العدالة: لا بالمصادفة، بل نتيجة لمقاومة الشعوب الحتمية والمتواصلة قوى الإبادة الجماعية، من أجل كرامة كل شخص على وجه الأرض. يمثِّل تحرير فلسطين المحور الأساس لبقائنا الجمعي في وجه الانهيار البيئي، وهو يستمدُّ ضوءً ساطعاً من الثقب الأسود لمستقبلٍ من الفصل العنصري البيئي الوشيك.

…………….

تُرجِم هذا المقال وأعيد نشره في موقع «صفر» بموجب شراكة مع «المعهد العابر للقوميات» (TNI)

المادة الأصلية

ـــــــــــــــــــ

المصدر: موقع صفر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.