الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ترامب رئيساً… شدّوا الأحزمة

أسامة أبو ارشيد *

صحيحٌ أن الأميركيين وحدهم من ينتخبون رئيسهم كل أربع سنوات، إلا أن العالم كله يتحمّل تبعات كيفية تصويتهم. أسباب ذلك معروفة، ولا تحتاج تفصيلاً كثيراً. الولايات المتحدة هي القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية الأولى عالمياً، ولا توجد قوة أخرى قادرة على منافستها.

وإذا أضفنا أن السياسة الخارجية الأميركية عدوانية شرسة في جوهرها ومنطقها، فهذا يضاعف من أهمية صانع القرار في البيت الأبيض وخطورته. وفي حالة دونالد ترامب، فإن صفات العنصرية واللؤم والسلطوية والفساد الجامح والفوضى المعروف بها ستكون وبالاً محتملاً على العالم بأسره، وليس على الأميركيين فقط. وما زلنا نتذكّر كيف أن سنوات جائحة كورونا المتجدّد (كوفيد 19) خلال رئاسته كانت نقمة على البشرية، لأن الولايات المتحدة تحت قيادته كانت في حالة فوضى عارمة جعلتها بؤرة الوباء في مجموع وفيات تجاوز المليون ومائتي ألف شخص من أصل سبعة ملايين عالمياً. لم تكن أميركا قادرة على التعامل بكفاءة مع الجائحة خلال سنوات حكمه، فتحمّل الجميع معها جزءاً كبيراً من الفاتورة الباهظة، صحياً واقتصادياً.

إنها معضلة العالم مع أميركا، التي هي، إلى حد كبير، مركز القرار الدولي، وتمثل قيادته، ويراهن عليها في الإبداع الطبي والتكنولوجي والاستقرار السياسي والاقتصادي. ولكن، أميركا غالباً ما تهمل دورها المفترض والمزعوم بما هي مرساة استقرار عالمي، وتكون عاصفة عاتية من الفوضى والدمار لا تستثني أحداً، فكيف إن كان على رأس قمة الهرم فيها شعبويٌّ مريض نفسياً وشاذٌ أخلاقياً ومفلس قيميّاً؟

يستعد ترامب إلى العودة إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات من مغادرته له في انتخابات خسرها وصفها بالمزوّرة. لم يغادر ترامب الحكم مطلع عام 2021 بسلام وهدوء، بل حاول أن يتشبث بالحكم حتى آخر لحظة، واقتحم أنصاره مبنى الكونغرس واحتلوه بضع ساعات. منذ ذلك الحين يواجه ترامب الذي جرى عزله مرتين في مجلس النواب، لكن مجلس الشيوخ رفض إقالته، قضايا جنائية ومدنية لا حصر لها، بل إنه دين في ربيع هذا العام بـ34 تهمة جنائية في قضية دفع أموال بما يخالف القانون لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية. غير أنه لا القضايا ولا الاتهامات التي تلاحقه، ولا رائحة الفساد التي تفوح منه، ولا التصريحات البغيضة التي يطلقها بحق شرائح كثيرة من المجتمع الأميركي، ولا سلوكه غير السوي، يؤثر في شعبيته بين قواعده الواسعة. على العكس، كلما واجه ترامب مشكلاتٍ قانونية أكبر وتغطية إعلامية سلبية أكثر تضاعفت قوته وزاد تمسّك أنصاره به.

لقد نجح ترامب في أن يتقمّص آلام المسحوقين الأميركيين اقتصادياً، رغم أنه ملياردير يَمُصُّ هو نفسه دماءهم، يكفي أنه لا يدفع نسبة الضرائب التي يدفعونها، بل ويتحايل في سجلاته الضريبية. أيضاً، نجح في تقديم نفسه عنواناً لغضبهم على الهجرة غير المشروعة عبر الحدود الجنوبية للبلاد مع المكسيك، مع أن شركاته نفسها ثبت أنها كانت، وربما لا تزال، توظف مهاجرين غير شرعيين. الأكثر إثارة أن قاعدته الشعبية مقتنعة أنه ضحية لاستهداف “الدولة العميقة” عبر وزارة العدل، مع أن تجربته في النظام القضائي الأميركي أثبتت أن هناك فعلاً مستويين من العدالة في أميركا، عدالة الأثرياء وأصحاب النفوذ، وعدالة المواطنين العاديين. تجربة ترامب مع المشكلات القانونية والقضائية أثبتت أنه من النوع الأول، فأمواله ونفوذه منعا سجنه أو المسِّ به.

واليوم تسابق وزارة العدل الأميركية الزمن باحثة في ترسانتها القانونية عن تخريجاتٍ لكيفية إسقاط كل التهم ضده. لكن، ترامب ليس الفاسد الوحيد في هذا الصدد، فحتى الرئيس جو بايدن، الذي خلف ترامب متعهداً بـ”استعادة سلطة أميركا الأخلاقية” يستعدّ لإصدار عفو عن ابنه هانتر الذي دين بثلاث تهم تتعلق بحيازة سلاح ناري من غير ترخيص في أثناء تعاطي المخدّرات. هما نظاما العدالة غير المتساوية في أميركا، غير أن الضحايا راضون، أو أنهم لا يفعلون شيئاً حيال ذلك.

“استعادة سلطة أميركا الأخلاقية” كشعار ترامب “جعل أميركا عظيمة ثانية”، شعاران زائفان ومضللان، لا ينهضان إلا على العظام المسحوقة لضحاياهما في العالم وأرواحهم المزهقة ودمائهم المسفوكة. بغطاء من “سلطة أميركا الأخلاقية” تشنّ إسرائيل حرب إبادة وحشية في قطاع غزّة لم تحرّك في ضمير بايدن وأخلاقه شعرة أو ذرّة إنسانية. وها هو ترامب يأتي متعهداً بتأييد حرب الإبادة نفسها، بل دعمها أكثر، فمنظومته الأخلاقية لا تقل وضاعة عن منظومة بايدن ومنافسته الديمقراطية الخاسرة كامالا هاريس.

أما خلاف الديمقراطيين وبعض الجمهوريين مع شعار ترامب “جعل أميركا عظيمة ثانية” فلا يمتّ للأخلاق بصلة، بقدر ما أنهم يعارضون ما يصفونه بانعزاليّته عالمياً لناحية تردّده في دعم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أداة الولايات المتحدة في الإخضاع العالمي. يتفق معارضو ترامب معه في دعم إسرائيل المطلق، ولكنهم يخالفونه في عدم رغبته في استمرار دعم أوكرانيا بعشرات المليارات من الدولارات في حربها مع روسيا. بالنسبة لهؤلاء، لا ترتقي إنسانية الفلسطينيين إلى إنسانية الأوكرانيين ولا الإسرائيليين.

يفاضل الأميركيون في كل دورة انتخابية بين سيئين يختارون أحدهما. أما الكارثة الكبرى، فأن العالم كله يرث سوء الخيارات وسوء البدائل الأميركية، حتى يشاء الله أمراً كان مفعولاً. ختاماً، شدّوا أحزمة الأمان، فنحن على موعدٍ مع سائقٍ أميركي آخر طائش ومتهوّر، أما من حيث السوء فهم سواء.

* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.