وسام سعادة *
ليس حدثاً عابراً أبداً أن تصدر المحكمة الجنائية الدوليّة مذكرتي اعتقال بحق كل من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، وتسوّغ ذلك بالأسباب المنطقية للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وأنهما وبالإضافة إلى تدمير ممتلكات مئات الآلاف من السكان والبطش بهم فقد حرما أهل غزة من القوت والماء والأدوية والإمدادات الطبية والوقود والكهرباء.
تأتي المذكرتان في وقت يقاسي فيه «الشعبان الكنعانيان» الفلسطيني واللبناني، ظلماً كونياً شنيعاً له أكثر من وجه ولا يبدو له من آخر.
فلا يمكن بأية حال اعتبار المذكرتين أنباءً في اتجاه رادع أو معاكس له كظلم كوني.
في الوقت نفسه، من الخطأ الاستهانة بهذا التطور القضائي الدولي، واعتباره عزائيّاً من باب الرمزية ـ الأخلاقية ليس إلا.
ثمة حاجة، للمحاذرة من الاسترسال في أحاديث التعويل على «التراكم المحقق على صعيد الوعي». الأحاديث التي ترى الى المذكرتين كانعكاس لتراكم بالوعي الإنسانوي يؤسَّس عليه ويُعوَّل. «الوعي المُراكِم» فاتحة وهم كبير. يغطي خمولاً أكبر منه. المذكرتان مهمتان للغاية، إنما ليس أبداً من حيث أنهما تعكسان وعياً ضاق ذرعاً بجرائم إسرائيل، بل لأنهما تأتيان في لحظة حرجة بالنسبة لمآل القانون الدولي بحد ذاته، كما بالنسبة للمنظمات الدولية «التجسيدية له». هي لحظة عولمة الاستهتار.
لقد تطور القانون الدولي من مرحلة الأعراف والمعاهدات بين الدول والتأسيسات الفكرية له (بدءاً من هوغو غروتيوس في القرن السابع عشر ثم صموئيل فون بوفندورف، وإن كان مصطلح القانون الدولي نفسه، بدلالة الشبكة القانونية بين الدول، لم يظهر إلا مع فيلسوف النفعية جيريمي بنثام) إلى مرحلة الانتظام في مؤسسات دولية بدءاً من تأسيس عصبة الأمم 1920 (أو ربما منذ قيام الإتحاد البريدي العالمي 1874 ومن ثم تأسيس محكمة التحكيم الدائمة في إثر اتفاقية لاهاي 1899). ومن بعدها الأمم المتحدة، بشروط المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وبتصدّر الولايات المتحدة الأمريكية لهؤلاء المنتصرين، ليس فقط من يوم انتهاء الحرب الباردة، بل حتى قبل أن تنشب الأخيرة.
لقد تطوّر القانون الدولي بشكل متفاعل مع هذه التحولات التي طرأت على موازين القوى على الصعيد العالمي، إذ تمثلت نجاعته بأن لا يأتي انعكاساً لهذه الموازين كما هي، بل «تلطيفاً» لأثر تقلبّاتها وإملاءات المهيمن عليها، بسنّ المعايير وبلورة الأطر المؤسسية لبث هذه المعايير والاحتكام إليها. فكان التحكيم والقضاء الدوليان دعامتي هذا «التلطيف».
أكثر من ذلك، حين انتهت الحرب الباردة، من بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظهر لفترة أن استتباب الهيمنة للولايات المتحدة يسهّل أمور هذا «التلطيف».
لقد تطوّر التفصيل هذا في القانون الدوليّ، بشكل واسع منذ نهاية الحرب الباردة. بمثل ما تنامت مأسسته بشتى تفرعاتها.
المحكمة الجنائية الدولية نفسها لم يكن من الممكن تأسيسها في ظل الحرب الباردة، وبالتالي، الشكل الإرهاصي لهذا النوع من المحاكم، الذي ولد مع محاكمات نورنبرغ وطوكيو لمجرمي الحرب النازيين وللجنرالات اليابانيين، كان عليه أن ينتظر الإبادة في رواندا وجرائم التطهير الإثني في يوغوسلافيا السابقة لتشكيل محكمتين جنائيتين خاصتين بكل منهما بالتسعينيات من القرن الماضي، ولم يحضر تدويل هذا الإطار إلا لاحقاً، مع نظام روما الأساسي 1998 ثم قيام المحكمة الجنائية الدولية 2002. بالتوازي، لم يعد مفهوم «حقوق الإنسان» مقتصراً على تعريفات العام 1948 وإنما صار مرتبطاً بإعلان وبرنامج عمل فيينا 1993. فقد جسّر الأخير الهوة – المفترض نظرياً فقط أنها باتت سابقة عليه – بين مفهومي حقوق الإنسان وسيادة القانون، وربط الحقوق بالمسؤولية الجماعية للمجتمع الدولي، وكرّس فهماً أكثر إحاطة واستشرافاً للحقوق.
في الوقت نفسه أخذ القانون الدولي، العام والخاص، يتأثر، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 بالمناخات الأمنية المتصلة بتأصيل وتدويل «حال الاستثناء» في إطار مكافحة الإرهاب. يمكن وضع ذلك في إطار مضاد للنزعة «التلطيفية» بل في نزعة تعلي من قيمة «المجتمع الأمني الدولي» على حساب «المجتمع المدني الدولي».
كذلك، لم يطل العهد بالثورة المضادة للبيئة حتى كشّرت عن أنيابها، في اتجاه معاكس للوثائق الدولية. فهذه الوثائق، من مثل ما صدر عن قمة الأرض في ريو دي جينيرو 1992 التي كرست مفهوم التنمية المستدامة التي توازن بين ما يحتاجه هذا الجيل وما يحتاجه المقبل من أجيال، وقرنتها بأهمية المحافظة على التنوع البيولوجي، وصوّبت الهدف نحو مكافحة التغير المناخي بالحد من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري، واتفاقية كيوتو 1997 للحد من انبعاثات غازات الدفيئة، وصولاً إلى اتفاقية باريس للمناخ 2015 للحد من الاحتباس الحراري، جوبهت باليمين الشعبوي الأمريكي الشكاك إما بقضايا البيئة وإما بالحلول الحكومية لها، معولاً في المقابل على تكفل ديناميات السوق والابتكارات التكنولوجية، بمواجهة التحديات البيئية، كما جوبهت بنهم الإنتاجوية الصينية لالتهام الأشجار. هذا ناهيك عن شركات النفط والغاز، مثل شيفرون وإكسون موبيل التي غالبًا ما تعارض سياسات خفض الانبعاثات، وشركات تصنيع السيارات، والشركات المنتجة للمبيدات أو للحوم أو للجيلاتين المعدّل وراثياً.
لأجل ذلك، يمكن القول إن الربع الأول من القرن الحالي شهد صعود المسار الاستنزافي للقانون الدولي، ليس فقط في تطبيقاته، بل له أيضاً كفكرة. وبالأخص من باب تأبيد حال الاستثناء (مكافحة الإرهاب) والمروق على البيئة.
كل هذا قبل أن تعود الحرب الباردة من دون الرطانة الأيديولوجية هذه المرة، وبشكل مستفحل، لا يتراجع، منذ الانقسام بين روسيا والمجموعة الغربية على خلفية ضم الأولى لشبه جزيرة القرم 2014، من يومها يمكن القول عملياً إن مجلس الأمن، الذي يقوم مقام الحكومة العالمية، في حالة موت سريري. وهذا مسار ازداد رسوخاً مع الحرب الروسية على أوكرانيا 2022 التي يصعب استشراف كيف لها أن تنتهي. لم يعد السؤال عن مآل منظمة الأمم المتحدة والحال هذه سؤالاً مستقبلياً فقط، بل أضحى كليّ الراهنية. زاد الأمر مع حرب غزة، ورفض إسرائيل لاستقبال أمين عام المنظمة، وتجريمها وكالة غوث اللاجئين، وإعطاء رئيس وزرائها الأمر بإمطار الضاحية الجنوبية بقنابل توازي القدرة التدميرية لسلاح دمار شامل، وهو على منبر الجمعية العامة.
العدالة الجنائية الدولية تحاول في الفترة نفسها أن تخطو في اتجاه معاكس. كانت هذه العدالة مقتصرة على طغاة العالم الثالث، الأمر الذي يجعل هؤلاء يتترّسون وراء اتهامها بأنها «عدالة البيض» واستعمار راجع.
همّة بايدن والأمريكيين السريعة للتصويب على مذكرتي المحكمة لن تعني والحال هذه سوى التصديق على تبريرات هؤلاء الطغاة.
إن كانت المحكمة ستدان لأنها طلبت جلب نتنياهو وغالانت صار كل شيء وجهة نظر. كلّ سيغني على «معياره». كلّ سيرى الإبادة على يده «دفاعاً ذاتياً» مستحقاً.
عندما يتصدّى بايدن لمذكرتي التوقيف فإنه يصرف من رصيد متراجع أساساً للقانون الدولي.
أهمية المذكرتين ليست من باب ما تعكسه من «تراكم في الوعي الإنساني» وإنما من باب ما يعكسه الاستهتار الأمريكي بهما من تقويض للوظيفة «التلطيفية» للقانون الدولي برمته، بناء على انحسار هذه الوظيفة أكثر فأكثر منذ بدء هذه الألفية. لا يلغي هذا، بل يتعامل مع كون المذكرتين «سابقة» سابقة يمكن أن يرتد صداها لأكثر من مجرم على رأس الجيش والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية.
لقد ساهمت أنماط «تلطيف» الهيمنة الأمريكية على العالم من خلال «القانون الدولي» باستدامة هذه الهيمنة، والتخفيض من كلفتها على أمريكا نفسها. الاستهتار بهذا التلطيف، من خلال «المسخ الأمني» للقانون الدولي بداعي مكافحة الإرهاب، ومن خلال الثورة المضادة للتشريعات الدولية البيئية (موضع خلاف بين الحزبين الأمريكيين، وموضع تقاطع بين اللدودين، اليمين الأمريكي والصين) أو من خلال تقويض الأمم المتحدة بدءا من مجلس الأمن (مسؤولية روسيا تحضر هنا في المقام الأول) أو من خلال تفريغ القضاء الجنائي الدولي من مضمونه، ربما كان سيجعل العالم أقل رياء مما سبق. أقل رياء، وأشد خطورة… وقصر نظر.
عندما تشرّع الحق في الإبادة هنا، وتحرّمه هناك، فلهذا حصيلة واحدة: أنّك تشرّع الحق في الإبادة.
* كاتب لبناني
المصدر: القدس العربي