عاطف معتمد *
خاتون كلمة تركية من شرق آسيا تعني الأميرة زوجة الملك أو السلطان الذي يُعرف بدوره باسم «الخان»، وقد تصل واحدة منهن إلى مكانة «خاتون الخواتين» أي أميرة الأميرات وتصبح الملكة بين زوجاته.
قبل 700 سنة ترك لنا ابن بطوطة وصفا تفصيليا لعالم الخواتين. الحقيقة أن ابن بطوطة رحالة نادر بين أقرانه في الاهتمام بالنساء والجواري، ولعلني أجد مناسبة في مقال مستقل لأتحدث عن علاقة ابن بطوطة بالنساء، وزيجاته الكثيرة، وجواريه، وأبنائه الذين تركهم صغاراً في كل بلد، مرتحلاً إلى بلد آخر طيلة ربع قرن، وربما لدينا اليوم حول العالم من نسل ابن بطوطة عشرات لا نعرفهم، وربما عاشوا أشقياء في زمن العبودية والجواري، وربما صاروا نبلاء أو رحالة ومسافرين وتجاراً وفقهاء.
سأنتخب من رحلة ابن بطوطة في زيارته للقبيلة الذهبية بعضاً من المشاهد الرسمية لنساء السلطان المعظم أوزبك خان (1313- 1341).. إليك المشاهد المجمعة مع تحرير طفيف:
- من عادات السلطان أوزبك أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تُسَمَّى قبة الذهب مزينة بديعة، وهي من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب وفي وسطها سرير من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة ورؤوسها مرصعة بالجواهر، ويَقْعُد السلطان على السرير وعلى يمينه الخاتون طيطغلي وتليها الخاتون كبك، وعلى يساره الخاتون بيلون وتليها الخاتون أردجى.
- وإذا أَتَتْ إحداهن قام لها السلطان وأَخَذَ بيدها حتى تصعد على السرير، وأما طيطغلي- وهي الملكة وأحظاهن عنده- فإنه يستقبلها إلى باب القبة فيُسلم عليها ويأخذ بيدها، فإذا صعدتْ على السرير وجلستْ حينئذٍ يجلس السلطان وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب، ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء فتُنْصَب لهم كراسيهم عن اليمين والشمال.
- وكل خاتون منهن تَرْكَب في عربة، وللبيت الذي تكون فيه قبة من الفضة المموهة بالذهب أو من الخشب المرصع، وتكون الخيل التي تَجُرُّ عربتها مجللة بأثواب الحرير المُذهب وخديم العربة الذي يركب أحد الخيل فتًى يدعى القشي.
- والخاتون قاعدة في عربتها وعن يمينها امرأة من القواعد تُسَمَّى أولو خاتون (بضم الهمزة واللام) ومعنى ذلك الوزيرة، وعن شمالها امرأة من القواعد أيضًا تسمى كُجُك خاتون (بضم الكاف والجيم) ومعنى ذلك الحاجبة، وبين يديها ستٌّ من الجواري الصغار يقال لهن البنات؛ فائقات الجمال متناهيات الكمال، ومن ورائها اثنتان منهن تستند إليهن، وعلى رأس الخاتون البغطاق وهو مثل التاج الصغير مكلَّل بالجواهر، وبأعلاها ريش الطواويس وعليها ثياب حرير مرصعة بالجوهر شبه المنوت (الملوطة) التي يلبسها الروم.
- يكون بين يدي الخاتون عشرة أو خمسة عشر من الفتيان الروميين والهنديين، وقد لبسوا ثياب الحرير المُذَهَّب المرصعة بالجواهر، وبِيَدِ كل واحد منهم عمود ذهب أو فضة، أو يكون من عود ملبس بهما. وخلف عربة الخاتون نحو مائة عربة في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار، ثيابهن الحرير وعلى رؤوسهن الكلأ، وخَلْف هذه العربات نحو ثلاثمائة عربة تَجُرُّها الجِمال والبقر، تَحْمِل خزائن الخاتون وأموالها وثيابها وأثاثها وطعامها.
- الخاتون الكبرى هي أحظى نساء هذا السلطان عنده، وعندها يبيت أكثر لياليه ويُعَظِّمها الناس بسبب تعظيمه لها، وإلا فهي أبخل الخواتين، وحَدَّثَنِي مَنْ أَعْتَمِدُه مِن العارفين بأخبار هذه الملكة أن السلطان يحبها للخاصية التي فيها، وهي أنه يَجِدُها كُلَّ ليلة كأنها بِكْر.
دَخَلْتُ إلى هذه الخاتون، فسَلَّمْنا عليها وكان في جملة أصحابي قارئ يقرأ القرآن على طريقة المصريين بطريقة حسنة وصوت طيب. وفي سَفرِها إلى القسطنطينية رافقت الخاتون وتحت حرمتها، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة ورجع هو والملكة وولي عهده وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن وسافر صحبتها الأمير (بيدرة) فى خمسة آلاف من عسكره، وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خُدامها من المماليك والروم نحو مائتين والباقون من الترك.
- في رحلتنا من (سرا) إلى القسطنطينية كان مع الخاتون من الجواري نحو مائتين وأكثرهن روميات، وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب ونحو ثلاثمائة من البقر ومائتين من الجمال لجرها وكان معها من الفتيان الروميين عشرة ومن الهنديين مثلهم وقائدهم الأكبر يسمى سنبل الهندي، وقائد الروميين يسمى ميخائيل ويقول له الأتراك لؤلؤ، وهو من الشجعان الكبار.
- كانت الخاتون قد تركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان؛ إذ توجهت برسم الزيارة ووضع الحمل. وفي الطريق مررنا بمدينة «أكك» وهي متوسطة حسنة العمارة كثيرة الخيرات شديدة البرد وبينها وبين السرا حضرة السلطان مسيرة عشر وعلى يوم من هذه المدينة جبال الروس وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قُباح الصور أهل غدر، وعندهم معادن الفضة ومن بلادهم يؤتى بالصوم وهي سبائك الفضة التي بها يباع ويشترى في هذه البلاد ووزن الصومعة منها خمس أوقيات.
- كانت الروم قد سَمِعَتْ بقدوم هذه الخاتون كي تضع حملها فجاؤوا في عسكر عظيم وضيافة عظيمة وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية، وبيننا وبين مُلك أبيها مسيرة اثنين وعشرين يومًا. ولم يسافر مع الخاتون إلا ناسها وتركت مسجدها بهذا الحصن وارتفع حكم الأذان، وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير، وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي، ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحِكَ من صلاتنا.
- ولما صرنا على مسيرة عشرة أميال من القسطنطينية أقبل السلطان، واختلطت العساكر وكثر العجاج ولم أقدر على الدخول فيما بينهم فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها خوفًا على نفسي، وذكر لي أنها لما قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما ثم قبلت حافري فرسيهما وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك، وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها.
- أمضيتُ في القسطنطينية شهرًا وستة أيام، ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم فأَذِنَتْ لهم وأَعْطَتْهُم عطاءً جزيلًا وبعثَتْ معهم من يوصلهم إلى بلادهم في خمسمائة فارس، وبعثت عني فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم وهم يسمونه البربرة، وليس بالطيب، وألفي درهم بندقية وشقة ملف من عمل البنات وهو أجود أنواعه، وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف وفرسين وذلك من عطاء أبيها، وأوصت بي وودعتها وانصرفت.
- عدتُ من القسطنطينية في اشتداد البرد، وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن وفي رجلي خُفٌّ من صوف وفوقه خفٌّ مبطن بثوب كتان وفوقه خفٌّ من (البرغالي) وهو جلد الفرس مبطَّن بجلد ذئب، وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار، فما تَقْطُر من الماء قطرة إلا جَمُدَتْ لحينها، وإذا غسلت وجهي يصل الماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من الثياب حتى يُرْكِبَني أصحابي.
* كاتب وباحث أكاديمي مصري
المصدر: الشروق