الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حتى يكون ممكناً استعادة الدولة

حنا صالح *

لا مناطق آمنة في لبنان، قلب بيروت تحت نار عدو يستهدف مناطق مكتظة بالسكان فيدمر ويغتال. ويتسع دمار الحواضر ذات الأغلبية الشيعية ومحو العمران في منطقة الحدود. وتتقدم قوات الغزو نحو الخط الثاني من بلدات جنوب الليطاني، فتقيم رأس جسر في «شمع»، وتنصب قواعد مدفعية لتأمين التغطية لقواتها. وتتسارع وتيرة إزالة الجدران العازلة؛ كإشارة استغناء عن المنطقة العسكرية شمال إسرائيل؛ لأنها نُقلت إلى جنوب لبنان. ويدعو قائد «غولاني» المستوطنين للعودة؛ «لأن (حزب الله) لم يعد يشكل أي خطر»، وتنقل الصحف العبرية أن «طريق صور مفتوحة، والقدرة متوفرة للوصول إلى بيروت»!

منذ بدأت إسرائيل اجتياحها الجوي وشمل ثلثي لبنان وتلتْه «مناورات» برية، جرى إنزال عقاب جماعي باللبنانيين، وبخاصة بيئة «حزب الله»؛ لتدفيعها ثمن احتضانها «المشاغلة» و«الإسناد». وهي حرب يعرف من أطلقها أنها هدفت إلى منع سقوط ورقة فلسطين من يد طهران، فكانت الحصيلة إغراق لبنان بالركام، بحيث لا قدرة لأحد على الإفلات من التبعات، فيما أخطار «اليوم التالي» متعددة مع تهجير طويل الأمد، يقابله انحلال في أداء السلطة وهشاشة في قدرة المجتمعات المضيفة!

وسط هذا المشهد، تسلم الرئيس نبيه بري من الأميركيين مسودة مشروع وقف للنار. مشروع مشترك إسرائيلي- أميركي يحوز دعم فريق الرئيس ترمب، وتزامن مع اتساع المخاوف من أن استمرار الحرب التي ترمد لبنان يخدم مخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكل تأخير في التوصل لوقف النار سيمنح إسرائيل إمكانية رفع السقف لفرض شروط تنتقص من السيادة اللبنانية. وتبين أن ما يوازي انعدام قدرة «محور الممانعة» على القراءة السياسية وتقدير حجم قوته قياساً على قدرات عدو يمتلك أحدث تكنولوجيا حربية، لا يعادله سوى الترف الفظيع لبقايا السلطة الواجهة، التي أسقطت بإيعازٍ من «الحزب» ومشغليه، عشرات مشاريع التسوية التي كان يمكن لها ألّا تُستنسخ أكثر من غزة في لبنان. وفيما صار الهاجس وقف النار لأن المبادرة في الميدان بيد إسرائيل، تأكد أن المسؤول عن زج لبنان في حرب إسرائيلية- إيرانية مدمرة لا يمتلك أي استراتيجية خروج من المقتلة.

وسط النار والحرائق زار “آموس هوكستين” بيروت بعد تسلّم رد لبنان على مسودة المشروع، والمنطق يقول إن رحلة الموفد الرئاسي الأميركي بين بيروت وتل أبيب تعني أن هناك أساساً جدياً للتفاوض، لكنه من المبكر القول إن اتفاقاً لوقف النار بات وشيكاً وباليد، ما دام القرار اللبناني مغيباً، يقابله مخطط نتنياهو لانتصار حاسمٍ في حرب وصفها بأنها «كحرب الاستقلال»، تمكّنه من «إعادة تشكيل المنطقة» كما يحلم!

استبق نتنياهو وصول هوكستين بإعلان مضي تل أبيب في تدمير قدرات «حزب الله» البشرية والعسكرية، وأعلن قبل ذلك أن إسرائيل ستعرض على دول عربية «السلام مقابل السلام، سلام مبني على القوة»؛ أي سلام يلغي الحقوق، وهو ما جُرِّب طيلة 76 سنة ولم يؤمّن الأمن للإسرائيليين! أما «حزب الله» فكان هاجسه الحفاظ على ماء وجهه بعد الضربات القاصمة التي أصابته، وما تسببت به من هزيمة، وانتشر شعار في بيئته يقول: «لدينا قماش أبيض لتكفين أولادنا… وليس لدينا قطعة واحدة لكي نرفع الراية البيضاء»!

الحذر واجب، والصورة تكتمل بعد زيارة هوكستين إلى تل أبيب. لكن ما يجري ينطلق من قراءة متكاملة للقرار الدولي، وأي محاولة التفاف لممارسة انتقائية في التطبيق ستعني منع لبنان من الخروج من الدوامة. إن المطروح تنفيذ القرار الدولي كاملاً، بشموله كل لبنان من حدودٍ برية ومطار ومرفأ، كما منع أي بلد خارجي من تزويد أي طرفٍ لبناني بالسلاح والعتاد، تؤكد ذلك بنود القرار الدولي 8 و11و14 و15!

يمكن للأسابيع الآتية أن تكون مصيرية للبنان؛ إذ قد ترسم مسار استعادة الدولة التي تحمي المواطنين وتصون دمهم، وبينهم شباب «حزب الله» وبيئته، مع ترسيخ حدود أمن وسلام تكون ضرورة لاستقرار المنطقة. إن حجر الرحى لبدء هذا المسار يكمن في تسريع استعادة المواطن دوره بوصفه لاعباً سياسياً، كما برز في «ثورة تشرين» 2019؛ لأنه إذاك يكون ممكناً منع إعادة تكوين السلطة على مقاس مصالح أطراف نظام المحاصصة، وهم شركاء في مسارٍ قدّم البلد لقمة سائغة لإسرائيل.

إنها لحظة إطلاق «شبكة أمانٍ وطني» تضغط لاستعادة الدولة والقرار بإنهاء الشغور، وفرض حكومة خلاص وطني، من خارج الصندوق، تقطع حبل الصرة مع زمن حكومات أذلّت المواطنين، وغطت انتهاك السيادة، فتتأمن حاضنة لقرارات وطنية؛ أولها تنفيذ متكامل للقرار الدولي الضامن للسيادة، أبرز عناصر تنفيذه الجيش المدعوم من «اليونيفيل»، ومن الآلية الدولية للإشراف على التنفيذ من دون اجتزاء.

وبعدُ، يفترض الانتقال بلبنان من حالٍ إلى حال التزام مندرجات الـ«1701»، بعيداً عن الفذلكة والتذاكي. وبعيداً عن تواطؤ حكومات ما بعد الدوحة (2008) عندما فُرضت بدعة «جيش وشعب ومقاومة»، فأدرج ذلك في البيانات الوزارية ليتحول بعدها لبنان إلى غابة سلاح لا شرعي. وتأسيساً على فائض القوة هذا، جرى استسهال مخطط تحويل «المقاومة» إلى بديل عن الجيش بالزعم أنها تُحقق «الانتصارات» (…) مع أنها بعد التحرير عام 2000 لم تقدم للبنان إلا خسائر صافية، بعدما أتحفت البلد بسرديات من أنها تحمي الجنوب والمياه ولبنان وثرواته الغازية، حيث سقطت جميعها!

* كاتب صحفي لبناني

المصدر: الشرق الأوسط

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.