وسام سعادة *
تعاظم الارتياب من الموت غيلة، والمضي بعدها من دون قصاص ينزل بالجناة هذا ما اصطلح الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز على توصيفه بأنها «حال الطبيعة».
لا يعيد هوبز حال الطبيعة إلى تصوّر ما عن الإنسان في العصور الغوابر، أو في المجاهل البعيدة، بل تظهر عنده في الحروب الأهلية، من دون أن يتحقق نموذج «حال الطبيعة» هذا بشكل عيانيّ كامل في أي ظرف.
حال الطبيعة تبقى أقرب عنده إلى تصور ذهني- تخيّلي عمّا يمكن أن تكون عليه الحال لو رفعت كل القوانين والأعراف بالكامل عن رهط من البشر، وذهب كل واحد منهم، رغبة منه بالمثابرة على وجوده كفرد، وحفظ رأسه كفرد، إلى التحوّط من الآخرين، واتخاذ الوضعية الدفاعية اليقظة بل المرتابة بل المتحسسة تجاههم، ما تكون حصيلته أن كل هذا الدفاعات تولّد حيوية هجومية عدوانية لا آخر لها بين البشر.
الحرب الأهلية هي أقرب نقطة لمعاينة حال الطبيعة الافتراضية، بالنسبة إلى هوبز، سوى أنها لا تحقق بشكل كامل، طالما أن جماعات الحرب الأهلية تنهش بعضها البعض كجماعات، أو حتى كشراذم، في حين أن التصور الهوبزي لحال الطبيعة مبني على تصارع بين أفراد، ذرّات متلاطمة.
مع هذا ليس الإنسان بكائن عدواني من حيث طبيعته عند هوبز، بل هو كائن يحب لنفسه أن لا يقصّر عمره بطعنة في ظهره، ويحب أن تعود إليه ثمرات عمله.
الإنسان، ولأنه يريد أن يحمي نفسه بنفسه، ويحمي نتاج ما صنعته يداه، ولأنه يتمتع بعقل استباقي واستشرافي يجعله يتصور ما الذي يمكن أن يحصل له على يد الغير، فإن نتيجة ذلك ستكون بالضرورة ارتياباً متبادلاً، ثم عدوانية متبادلة، طالما لم يجر تقويض «حال الطبيعة».
وهنا أيضاً في خط تفكير هوبز أنه لا يمكن تقويض حال الطبيعة بشكل كامل، لأنه سيبقى يشكّل بمثابة البنية الجوفية التي يشاد فوقها البناء الذي نسميه «المجتمع» والبناء الذي نسميه «الدولة».
ففي حال الطبيعة ليست فقط الدولة متعذرة، بل المجتمع أكثر منها متعذر. وأكثر، قد يكون هوبز أول من نظر إلى أنه لا مجتمع أساساً من دون دولة، فإن غابت انفرط عقده هو الآخر.
فإما حال الطبيعة وإما الانقطاع عنها إلى تشكيل المجتمع بالواسطة الاصطناعية، بل الوحش الاصطناعي: الدولة.
ومع هذا، تبقى حال الطبيعة ككابوس، وكجوف محتبس تحت هذا المجتمع. يمكنها أن تعود فتظهر إن لم يعد للعقد الاجتماعي من قدرة على النهوض بوظائفه، المتمثلة أساساً بتحويل الحرية غير الآمنة في «حال الطبيعة» إلى «حقوق» عند الانتقال إلى حال الاجتماع، والموطدة من خلال قدرة الحاكم، المفوّضة له الأمور يوم إبرام الميثاق، على ضمان أمرين: أن يكون للنفر حق في التملّك، وأن يموت هذا النفر حتف أنفه. فإن لم تعد المنازعات في الملكية خاضعة للتقاضي والتدبير في كنف المؤسسات، وإن صار الموت غيلة وغدراً هو السائب بين الناس، ظهر آذاك أن حال المجتمع باتت على طريق التصدّع والاضمحلال، وأن حال الطبيعة عادت طليقة، تخيفك من جارك فتدبّر له المكيدة.
لماذا استذكار أو استحضار حال الطبيعة عند توماس هوبز اليوم؟ لأن الرأي في لبنان منقسم منذ أيام حول مقتل أحد كوادر حزب «القوات اللبنانية» وليست هي المرة الأولى الذي يقتل فيه كادر من «القوات» في السنتين الماضيتين.
أما تاريخ الموت غيلة ومن دون قصاص، وفي تغييب لأي انطباع جدّي يشعرك بالرغبة أو بالقدرة على إحياء العدل ولو في الشكل، فهو تاريخ لم ينقطع مع انتهاء الحرب الأهلية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بل أن تاريخ الموت غيلة استبدّ في «الجمهورية الثانية» بالسياسة والثقافة على حدّ سواء. بل قل إنها، جمهورية الموت غيلة دون العودة إلى الحرب. أو بمعنى آخر، جمهورية تسويغ الموت غيلة على أنه يهون أمام ذاكرة المجازر. وبهذا المعنى أيضاً وأيضاً يصير الموت غيلة وغدراً في لبنان بمثابة سلسلة لا آخر لها من قرابين وظيفتها تحصين السلم الغدّار من الحروب – المجازر.
الانقسام، ولوازمه من شحن وعنتريات، حصل في لبنان هذه المرة على خلفية مقتل هذا الكادر. إنما الانقسام «ينحصر» بالسمة «السياسية» أو «غير السياسية» لقتل الضحية، وليس بأنها قضت غدراً وغيلة. هنا الجميع متفق. ومن يتصدّى للرواية القواتية تجده يبرز أكثر الإحصائيات التي تتحدث عن عدد السرقات، والقتل بداعي السرقة في الآونة الأخيرة.
بالمعنى الهوبزي، هذا إجماع غير تفصيليّ: فحتى لو أن الناس تنقسم بين الطعن بالرواية الرسمية لمقتل هذا الكادر أو التشكيك بها أو تقبلها أو التعصب لها، فإن المشترك عند الجميع أن هذا المواطن والمحازب قضى غيلة، لم يكمل عمره، ولن يشعر أهله بأن هناك صرحاً ممأسساً يحتكم إليه بالعدل. بالمعنى الهوبزي إذاً، الانقسام حول رواية ما حصل لهذا المواطن والمسؤول الحزبي المحلي، وإذ يقترن مع الاتفاق بأنه مات غيلة، فهو مؤشر إلى مدى الابتعاد عن العقد الاجتماعي، ومدى التوغل في «حرب الكل ضد الكل» حال الاستذئاب. وما يزيد من حدّة الأمر أن الموت غيلة يبرز مشكلة حال الطبيعة، بامتياز، عند هوبز: فهذه الحال تتوهم بأنه يمكن إقامة الأمن بالتراضي، بل والتحكيم بين الأفراد من دون اللجوء إلى مرجعية أعلى من كل واحد منهم. هذان الوهمان يعزّزان السمة المتوحشة لحال الطبيعة.
أكثر من ذلك، حال الطبيعة عند توماس هوبز ليست مساوية البتة لما اعتدنا على تسميته «شريعة الغاب». في مثال الغاب الخرافيّ هذا، ثمة سلّم من المراتب بين الحيوانات تكون الشوكة فيه للضواري المفترسة. الأقوى يأكل الأضعف منه. الأسرع يلحق بفريسته الهاربة. الأكثر حيلة يوقع من دونه في النباهة في المصيدة. الأضمن في نموذج الغاب أن تجتمع لديك القوة والحيلة والسرعة، والأسوأ أن تكون بلا قوة وبلا حيلة وبطيء الحركة.
وقد استوحى مكيافيللي، قبل هوبز، من نموذج الغاب، هذا، فنصح أميره بأن يكون إنسانا وبهيمة في آن، وبأن يكون الأمير في مكونه البهيميّ أسداً وثعلباً معاً، يؤلّف بين الشدّة وبين المكر ويأخذ القرار في اللحظة المناسبة، ولو أن مكيافيللي لم يعتمد «الغاب» كتصور سياسي كامل، طالما أنه بالإضافة إلى القوة والدهاء تحضر الصدفة، والقرار بحد ذاته معها قوامه المجازفة. وثمة الى جانب القوة والدهاء والسرعة والصدفة أهمية اجتناب كل من الكراهية والحب. فالتحذير قائم عند مكيافيللي من أن يستبدّ الخوف بالمحكوم فيكره الحاكم ويحقد عليه، في حين أن المطلوب بأن يُخشى هذا الحاكم. لا أن يُكره، ولا أن يُحب. والحاكم الذي يريد من المحكوم أن يحبّه هو إما يستهتر بأهمية أن يخشاه المرء، وإما يزرع في المحكوم بذار الكراهية تجاهه. على الأمير أن يقتنع ويتصالح مع كون العلاقة بينه وبين المحكومين ليست علاقة تحاب، وعلى أنه في الوقت نفسه يحفر قبره بيديه إذا ما كرهه المحكومون. ما ينفعه هو أن يحافظ على «الخشية» منه، في بلاطه وبين رعاياه.
الجديد مع هوبز، ونموذجه في «حال الطبيعة» هو تعليق «قانون الغاب» بشكل أوسع. ففي حال الطبيعة، يمكنك أن تكون أقل قوة جسمانية من شخص مفتول العضلات معتد بها وتصيبه في مقتل. ويمكنك أن تكون أبلهاً وتغدر بداهية. ليس هناك من ضمانات لا بأن تحميك قوتك أو حيلتك أو سرعتك في «حال الطبيعة». الاستذئاب عند هوبز لا يشبه في شيء «قانون الغاب» ولأنه كذلك لم يكتف الفيلسوف الإنكليزي بمقولة أن «الإنسان ذئب للإنسان» بل قرنها مباشرة بمقولة أن «الإنسان إله للإنسان.» في حال الطبيعة لا شيء بمقدوره أن يضمن لك بأن الأرجح أن تنام فتصحو، أو تموت «موتة ربّك». كابوسك من أن تموت خنقاً يسبق نومك. في حال الطبيعة عند هوبز لا أحد ينام، ولا أحد يصحو.
في لبنان، جرى التعامل منذ مدة غير قصيرة مع القانون الذي يسري فيه على أنه «قانون الغاب». الأقوى يأكل الضعيف، والمحتال يبدّد مال سواه. أما أن تكون القوة ومعها الحيلة غير ضامنتين لأصحابهما، فهذه هي «حال الطبيعة» الهوبزية: الاستذئاب يقوم على قدر من المساواة في عز اللاتساوي في الحجم وقوة الفتك والمكر وسرعة الإمساك أو الهرب. والبلد، على ما يظهر، خرج من وهم «قانون الغاب» وأخذ يتوغّل في معترك الاستذئاب.
* كاتب لبناني
المصدر: القدس العربي