الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سوريا على طاولة ترمب.. الاتجاهات المحتملة

محمود علوش *

خلال رئاسة دونالد ترمب الأولى وعهد الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، كان الملف السوري ضمن القضايا الأقل اهتماماً في السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.

ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب، أبرزها التحول الكبير الذي طرأ على السياسة الأميركية في سوريا منذ ما قبل النصف الثاني من العقد الماضي، من الانخراط في مشروع الإطاحة بنظام الأسد إلى التركيز على مكافحة الإرهاب. وعلى الرغم من أن واشنطن لا تزال حتى اليوم ترفض التعامل مع نظام الأسد كحكومة شرعية وتفرض عقوبات عليه، إلا أنها أصبحت أقل ميلاً لترجمة هذا النهج على أرض الواقع. لقد أظهرت في الواقع تسامحاً مع إعادة بعض الدول العربية تطبيع علاقاتها مع دمشق، وحصرت دور وجودها العسكري المحدود في سوريا بمكافحة الإرهاب.

مع استعداد ترمب لتولي رئاسة ثانية في يناير/ كانون الثاني المقبل، سيتعين عليه اتخاذ قرار حاسم بشأن مستقبل السياسة الأميركية في سوريا. في الوقت الحالي، من الصعب التنبؤ بكيفية هذه السياسة، لكن نهج ترمب الساعي لتقليص الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط والمشكك بجدوى البقاء العسكري في سوريا والعراق يقودنا إلى استنتاج بأن الاتجاه العام لسياسته السورية في السنوات الأربع المقبلة سيقوم على مواصلة تخفيض الانخراط الأميركي في الملف السوري. والسؤال الأبرز في هذا السياق يدور حول ما إذا كان ترمب سيتخذ قراراً بفك الارتباط مع وحدات حماية الشعب الكردية وسحب القوات الأميركية من شمال سوريا. لقد مضى على وجود هذه القوات هناك ما يقرب من عشر سنوات. ومن المفارقات المثيرة للاهتمام أن ثلاثة رؤساء أميركيين بمن فيهم ترمب نفسه قرروا أن بقاء هذه القوات ضروري للولايات المتحدة. مع ذلك، كان ترمب الأكثر تشكيكاً صراحة بجدوى البقاء في سوريا، حتى إنه في العامين الأخيرين من ولايته الأولى، خفّض عدد هذه القوات إلى ما يقل عن ألف جندي بقليل. وكان أحد دوافع ترمب لاتخاذ هذا القرار الاستجابة لهواجس تركيا من الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردية.

فكرة مواصلة الوجود العسكري الأميركي في سوريا أصبحت محل شك متزايد في واشنطن من حيث مزاياها الاستراتيجية. وخلال رئاسة بايدن، سرّبت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية وجود خطط لسحب القوات من سوريا، رغم أن البيت الأبيض نفى تلك التسريبات. بالنظر إلى أن إدارة بايدن حرصت باستمرار على إظهار اهتمام بالعلاقة مع الوحدات الكردية لأنها لعبت دوراً مهماً إلى جانب القوات الأميركية في القتال ضد داعش، فإن هذا يُفسر جانباً من تردد الإدارة الديمقراطية في اتخاذ قرار بالانسحاب. مع ذلك، اعتقد بايدن أن الانسحاب لا يُضر بحلفائه الأكراد فحسب، بل أيضاً بالمصالح الأميركية البعيدة المدى في سوريا. من المعروف أن واشنطن فقدت الكثير من قدرتها على التأثير في ديناميكيات الصراع السوري منذ سنوات طويلة. وأصبح الوجود الأميركي إحدى أوراق القوة التي تمتلكها للتأثير الجزئي في مسار الصراع وفي تحديد مستقبل سوريا بعد الحرب. علاوة على ذلك، كانت واشنطن تخشى أن يؤدي الانسحاب إلى فراغ تملؤه الميليشيات الإيرانية التي توجد على مقربة من مناطق سيطرة الوحدات الكردية في شرق الفرات.

أي قرار لترمب بالانسحاب سيتشكل بناءً على مقاربته للفوائد المتصورة لهذا الوجود . مع أن إدارة بايدن سعت باستمرار إلى ربط هذا الوجود بالمخاوف من إمكانية ظهور داعش مجدداً في المنطقة، إلا أن أحداً لم يعد يصدق أن هذا الوجود مصمم لهذا الغرض. بالنسبة لترمب، فإنه أكثر جرأة في الإقرار صراحة بأن الحرب على داعش انتهت. مع ذلك، هناك أربعة عوامل رئيسية تؤثر في تحديد مستقبل الوجود الأميركي في سوريا: الأول، مصير الحقول النفطية التي تُسيطر عليها القوات الأميركية؛ والثاني، التأثيرات المحتملة للانسحاب على توازن القوى الإقليمي في معادلة الشمال السوري؛ والثالث، مدى استعداد ترمب لتعريض الجنود الأميركيين في المنطقة للخطر في حال اندلعت حرب جديدة بين تركيا والوحدات الكردية؛ والرابع، ارتباط هذا الوجود بالوجود العسكري الأميركي في العراق. وفي المفاضلة بين الحفاظ على هذا الوجود وتجنب المخاطر المستقبلية على الجنود الأميركيين وميل ترمب إلى إزالة إشكالية الوحدات الكردية من أجندة علاقة واشنطن بأنقرة، يبدو أنه أكثر ميلاً للتخلي عن هذا الوجود.

علاوة على ذلك، فإن مبرر استمرار الوجود الأميركي لمنع إيران من الاستفادة من فراغ إنهائه مثار شك. تركيا هي الفاعل الإقليمي الأكثر تأثيراً في معادلة الشمال السوري مقارنة بطهران، ولديها القدرة على ملء الفراغ الأميركي ومنع إيران من الاستفادة منه. لذلك، فإن إزالة هذا المبرر يتوقف على مدى استعداد ترمب للتعاون مع تركيا في إدارة مستقبل الشمال السوري في مرحلة ما بعد الانسحاب، وهذا ما يراهن عليه الرئيس رجب طيب أردوغان. وفيما يتعلق بالوجود الأميركي في العراق، فإن قرار سحب القوات الأميركية من سوريا مرهون بما إذا كان ترمب مستعداً أيضاً للتخلي عن الوجود العسكري في العراق. حتى معرفة الاتجاه العام للرئاسة الثانية لترمب في سوريا والشرق الأوسط عموماً، من الصعب توقّع ما إذا كان سيمضي قدماً في اتخاذ قرار بالانسحاب من سوريا. كما أن التعامل مع مستقبل الوجود العسكري سيحدد أيضاً الحدود التي يمكن أن تصل إليها واشنطن في إضعاف سياستها تجاه الصراع السوري عموماً.

* كاتب سوري وباحث في العلاقات الدولية

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.