المهدي بن بركة *
( الحرية أولاً ) ينشر على حلقات كتاب «الاختيار الثوري في المغرب» للشهيد ’’المهدي بن بركة‘‘.. وهذه الحلقة الخامسـة
(5/7) – المهـــام التي تــنتظرنا:
1- مشكلة الديموقراطية:
لقد وقفنا من هذه المشكلة في الماضي مواقف لم تثبت الأحداث سلامتها، فلقد كان من البديهي أن تكون النتيجة المنطقية لتسوية «أيكس ليبان» بالنسبة لحركتنا التحررية، هي أن تفرض مراجعة كاملة للجهاز السياسي والإداري في البلاد، لا فحسب لأن ذلك كان هو المطلب الشعبي الأول، قبل أن توضع المسألة الملكية سنة 1953، بل ليتسنى تحديد المسؤوليات دون تأخير. إلاّ أن خطة السلطات الاستعمارية نجحت في أن تجعل قضية السيادة المغربية وكأنها تتلخص في مشكلة رجوع الملك كرمز لهذه السيادة. وسلك الإقطاع المغربي بإيحاء من هذه السلطات الاستعمارية نفس الخطة التي كانت تخدم الاستعمار ثم الإقطاع في آن واحد.
وسجلت السنتان الأولى والثانية بعد إعلان الاستقلال سلوكاً مكيافيلياً من طرف الإقطاع، يقضي بالعمل على تأخير أكثر ما يمكن من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية التي لم تكن سوى نتيجة لإعلان الاستقلال، ثم إذا تحقق شيء من تلك الإصلاحات بادر الإقطاع إلى تسجيل فضل إنجازها لحسابه، واستغلها لصرف الانتباه عن المشكلة الدستورية.
وهكذا كانت تتعاقب الحكومات، تشكل ثم تحل دون الخضوع لأية قاعدة مستقرة، وكانت الأحزاب السياسية الحقيقية أو المزورة توضع في مستوى واحد، وكان المبرر الذي يلتجأ إليه لتعليل فقدان المقاييس هو أن الجهود يجب أن تتضافر لمواجهة كبريات القضايا الوطنية، وأنه لم يحن بعد موعد الديموقراطية. وأدهى من ذلك أن خصوم الديموقراطية كانوا يستعملون ضدنا بعض نظرياتنا في الديموقراطية الواقعية، مدعين أن المشكلة الدستورية إنما هي مشكلة شكلية لا تحل جوهر المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وفي نفس الوقت، وتحت شعار المصلحة الوطنية والوحدة المجسمة في شخص الملك، ظلت قوى الرجعية بتأييد مشبوه من الداخل والخارج تماطل في تحقيق الإصلاحات الجذرية التي تهدد ما تتمتع به من الامتيازات. وبذلك قويت شوكة العناصر الإقطاعية حتى بلغ الأمر في أواخر سنة 1958 أن نظمت في جبال الريف بشمال المغرب ثورة مصطنعة بتواطؤ مع عناصر القيادة العامة للقوات الملكية المسلحة.
وقد سبق أن دبرت قبل ذلك بسنتين مناورة مماثلة في مناطق الجنوب بتافيلالت على يد الإقطاعي «عدي وبهي».
ويجب الاعتراف هنا أن الخطر المزعوم لثورة الإقطاع المصطنعة على كيان الدولة قد استفاد منه القصر كوسيلة للضغط علينا للتعاقد معه عند تأسيس حكومة عبد اللـه إبراهيم. وكانت نتيجة هذا التعاقد الرمزي بين القوى الشعبية وبين الملك أن وضعت على الرف المشكلة الدستورية. وقد كنا ممثلين ببعض إخواننا المسؤولين في الحزب داخل هذه الحكومة، ويحق لنا اليوم أن نتساءل إلى أي حد لم نكن مخطئين في تجميد المطلب الدستوري، حتى أظهرت التجربة بعد سنتين بصفة قاطعة أنه يستحيل نجاح أي إصلاح في دائرة الحكم المطلق القائم.
وأخيراً أدركنا بعد إقالة حكومة عبد اللـه إبراهيم أن كل تعاقد مع القوى المحافظة لا قيمة له ما لم يكن على أساس برنامج واحد ومحدد، وإلاّ، يصبح ممثلو الحركة التقدمية في الحكم بمثابة رهائن تستغلها الرجعية لتزكية سياستها وتضليل الرأي العام.
واليوم قد اتخذنا موقفا واضحا في الميدان الدستوري، لا ينبغي لنا أن نصحح خطأ بارتكاب خطأ آخر. فمن الواجب أن لا نترك الناس يعتقدون أن كلمة دستور بمثابة كلمة سحرية تحل سائر المشاكل. ففي رأيي أنه يتعين على الدستور، حتى لا يكون شعارا مضللا، أن يضمن ممارسة الحرية العامة ممارسة فعلية تمكن من تتبع السلطة ومراقبتها، وأن يضمن كذلك الحيلولة دون المؤثرات الأجنبية على السياسة الوطنية. والمهم فيما يخصنا هو أن يعرف الدستور مختلف السلطات، ويحدد مسؤوليتها أمام الشعب وأن يقيم مؤسسات شعبية صحيحة.
فالقرينة الدستورية إذن انما هي جزء من المشكلة الديموقراطية لأنها تطرح مسألة المشاركة الواسعة للجماهير الشعبية في تسيير الشؤون العامة، وهي لا تنفصل عن مسألة تنظيم الجماهير وتعبئتها كأضمن وسيلة لفرض تحقيق هذا المطلب الشعبي.
وهي لا تنفصل كذلك عن معركتنا ضد الاستعمار، إذ لا يكفي أن نوجه ضرباتنا لنظام الحكم المطلق في الميدان السياسي وحده، بل ينبغي كذلك إضعاف حلفائه في الميدان الاقتصادي، وهم المستعمرون وال إقطاعيون والبرجوازية التجارية الطفيلية.
ولهذا السبب فإننا لا نختلف مع النظام في المشكلة الدستورية وحدها، لأن الدستور إنما هو إطار للعمل، ووسيلة إضافية للمزيد من تنظيم الجماهير وتعبئتها ضد الاستعمار الجديد. وان الذي يحدد موقفنا من النظام أكثر من أي شيء آخر هو موقفنا العدائي من الاستعمار.
2- مهامنا ضد الاستعمار:
وهي تنقسم إلى مهام خارجية ومهام داخلية.
أ – مهامنا في ميدان السياسة الخارجية:
إنها تدخل في خط التضامن المطلق مع مجموع الحركة الثورية للتحرر الوطني ولمقاومة الاستعمار في العالم. كما تدخل بصفة أخص مع نضالنا المصيري المشترك إلى جانب إخواننا في الجزائر، وفي بلاد المشرق العربي، وفي مجموع القارة الإفريقية. وليس الغرض من ذلك الاكتفاء بالشعارات المبتذلة بل انه عبارة عن عمل متواصل يكون انعكاسا على الصعيد الدولي لاختياراتنا السياسية الشاملة.
وسأكتفي لتوضيح مهامنا في هذا الميدان الخارجي أن أذكر بالفارق بين حركة هادفة ضد الاستعمار تقوم بها منظمة ثورية مثل حزبنا، وبين عمل شكلي تقوم به تحت الشعار نفسه عناصر رجعية متحالفة مع الاستعمار، لا لشيء إلاّ لإخفاء هذا التحالف ذاته، ذلك أنه كثيرا ما يرمز إلى خطة سياسية بشعار معين، يستعمل في كلمة واحدة، لتلخيص الهدف الأساسي للمعركة. إلا أن هذه الكلمة قلما تدوم صلاحية استعمالها في أوضاع سريعة التحول كالتي تتميز بها المعركة ضد الاستعمار. فيتعين إذن، إزاء كل مشكلة، أن نحدد بدقة طريق المعركة ضد الاستعمار، لا أن نكتفي فقط برفع شعار قد يتغير محتواه.
وأمامنا مثالان للدلالة على ذلك وهما شعار الحياد وشعار الوحدة، سواء أكانت وحدة المغرب العربي أو الوحدة العربية أو الوحدة الإفريقية.
فالحياد الإيجابي كان له في فترة معينة دلالة واضحة، عندما كان دالاس وزير الخارجية الأمريكية ينعته بالأخلاقية، وكان يرمز إذ ذاك إلى اختيارات واضحة في ميدان السياسة الخارجية وبالنسبة للمستقبل. فلقد كانت المعركة ضد الاستعمار محدودة جغرافيا، ومتواضعة في أهدافها الاقتصادية. ولكن الدول القليلة التي كانت ترفض إذ ذاك الانحياز المطلق للكتلة الغربية، هي التي فتحت سبيل التحرر في وجه بقية الشعوب المستعمرة. ولكن بعد ما اتسعت أرجاء المعركة ضد الاستعمار، وقد اضطرت الدول الغربية كنتيجة لخطة الاستعمار الجديد أن تسمح لمستعمراتها السابقة أن تعلن ظاهريا سياسة عدم الانحياز، لم يعد يجدي الاكتفاء برفع شعار الحياد، بل أصبح المهم اليوم هو المواقف الواضحة إزاء كل مشكل محدد.
ولمزيد من توضيح موقفنا الديناميكي تجاه سياسة الحياد الإيجابي، أود هنا أن أستعرض النتائج التي أحدثتها أزمة قناة السويس في سياستنا سنة 1956. فلقد كان الانتصار العربي خلال هذه الأزمة، أول ثغرة حقيقية في البناء الاستعماري بالمجموعة العربية الإفريقية، وقد أعطى الرئيس جمال عبد الناصر في هذه المناسبة المدلول الصحيح لسياسة الحياد الإيجابي. إلاّ أن قيادة حركتنا التحررية، المتمثلة إذ ذاك في حزب الاستقلال، لم تدرك في مجموعها الأهمية التاريخية لهذا الحدث. وإنما قام بعض المسيرين في الحزب وحدهم، ممن كانوا ينعتون بالجناح اليساري، بإثبات روح التضامن الثوري مع إخوانهم في المشرق العربي. فحاولوا استخلاص العبرة من هزيمة الاستعمار في قناة السويس، مستغلين الصحافة والمنظمات الجماهيرية لتعميم الوعي لدى المناضلين بعدم صلاحية السياسية المتبعة إذ ذاك من طرف الحكومة الائتلافية، وضرورة الاستعداد للمعارك المقبلة. وجاءت خطب الأخ البصري باسم حركة المقاومة في ذكريات 20 غشت 1956 إلى 1958 معبرة عن هذا الشعور، واعتبرت ذات صبغة متطرفة من طرف القصر، ومن طرف ممثلي البرجوازية الكبرى في قيادة حزب الاستقلال.
حقاً، إن السياسة الرسمية، التي لم تكن تعير أدنى اهتمام لنضال إخواننا في المشرق العربي، تجاوزت حدود الخطأ، حتى كاد الرأي العام عندنا يعتبرها بمثابة تواطؤ إجرامي مع الاستعمار، مما دفع تيارا مهما في صفوف حركتنا الوطنية، وحتى قبل تأسيس الاتحاد الوطني للسعي في ربط علاقات منتظمة مع المنظمات العربية التقدمية المعادية للاستعمار. وبدأ القصر يحس ابتداءً من سنة 1959 بضرورة اتخاد سياسة التقرب من المشرق العربي لحسابه الخاص، واستغلالها في دعايته. ومن هنا نفهم المواقف المتناقضة التي يقفها النظام من القاهرة والتي تارة تكتسي صبغة الاستعلاء والاحتقار، وتارة أخرى صبغة العطف المشوب بالحذر.
كذلك فإن شعار الحياد الإيجابي لم يعد اليوم يخيف رجال الحكم بالمغرب، بل دخل في المصطلحات الرسمية دون أن يكون له مضمون رفض التبعية للاستعمار.
وكذلك كانت بالنسبة لشعار الوحدة.
إن الوحدة الإفريقية مثلا كهدف تنبثق من خلال حقيقتين، الأولى وحدة تحققت بحكم الاستعمار(وهي وحدة الاستغلال والعبودية)، والثانية هي الانقسام الموروث عن الاستعمار، بسبب التفتيت الذي أصاب القارة الإفريقية تبعا لاختلاف المطامع الأجنبية وتسابق الاحتكارات الرأسمالية. فالوحدة إذن يجب أن تبنى بالتدرج من خلال المعارك العصيبة، لا أن تعتبر حصيلة للنتائج المخلفة بعد الاستعمار. ومظهرها الأول هو وحدة العمل بين البلاد المستقلة لتصفية الحكم الأجنبي من سائر أنحاء القارة، ثم يبدأ تجسيدها عن طريق التدابير المنسقة لخلق انسجام تصاعدي في السياسات الاقتصادية، يمكن في النهاية من إقامة مؤسسات دستورية مشتركة.
ولقد أدرك الاستعمار خطورة هذا الشعار، فغدا يتسابق في اتجاه معاكس مع الجماهير الإفريقية وقادتها، وطرح شعار الوحدة الفورية الشكلية على مستوى القارة أو في المجالات الإقليمية، وهو بذلك يسعى فقط لتثبيت الأوضاع الموروثة، أي سيطرة الاستعمار. وإن خطورة هذا الأسلوب تحتم على المنظمات الثورية أن تقاوم هذا المفهوم الفاسد للوحدة الذي لن ينتج عنه سوى تدعيم النظم الرجعية، وإعطائها وجها يخفي تبعيتها للاستعمار الجديد.
فليس واجبنا هو رفع شعار الوحدة بل إعطاؤه مضمونه الصحيح، وعدم الانخداع بالتجمعات الشكلية التي توزع عليها الدول الأفريقية تحت هذا الشعار. وسنتعرض لشتى المتاعب إذا لم نوضح منذ البداية شكل الوحدة التي نريد والوسائل الكفيلة بتحقيقها على الوجه الأكمل.
وينطبق ذلك على شعار وحدة المغرب العربي.
فهل سنسمح مرة أخرى لخصومنا بأن يستعملوا ضدنا هذا الشعار الذي نؤمن به وحدنا في بلادنا؟
إن هذه الوحدة تفرضها طبيعة الأشياء، ولا أحد يستطيع الحيلولة دونها. ولكننا إذا اكتفينا بهذا الشعار دون تحديد، فسنكون قد فسحنا المجال للمضللين الذين يعملون على استغلاله لأغراضهم الخاصة. فواجبنا أن نعمل في آن واحد على نشر الدعوة لهذه الوحدة وإبراز مشاكلها. وبينما الخصوم يكتفون بالتصريحات الجوفاء التي تخفي نواياهم التخريبية، علينا أن نكرس جهودنا للوصول إلى غايات ملموسة في هذا السبيل، كتوحيد المنظمات الجماهيرية، وإقامة مؤسسات سياسية وإدارية متوازية، وتنسيق أهداف السياسة الاقتصادية في كل دولة. ومن شأن هذه التدابير التمهيدية المدروسة والمقررة على مستوى المنظمات الشعبية، أن تخط الطريق نحو الوحدة الحقيقية. ومن هنا نستطيع أن نثبت أن سياسة الحكومة الحالية التي تسير في تسلسل معاكس تحت ستار التصريحات الرنانة، إنما تكشف عن عدم إيمان المسؤولين بالوحدة، بل وعن نوايا سيئة خطيرة.
لقد بدأ يحتل شعار «وحدة المغرب العربي» مكانا بارزا في حياتنا، وعلينا ألاّ نسمح لأحد باستغلاله، وأن نستخلص الموعظة من أخطائنا السالفة بتعويد المناضلين على إعطاء كل شعار مدلوله الصحيح. وتلك وسيلة سوف نفرض بها على حلفاء الاستعمار الواعين، وغير الواعين، أن يكشفوا عن وجوههم الحقيقية، أو أن يخضعوا لمنطق القوى الشعبية.
ب- معركتنا الداخلية ضد الاستعمار:
من اليسير أن نحدد في المجال الداخلي الخط الفاصل بين قوى التحرير الشعبية، وبين العناصر الرجعية للاستعمار الجديد وركيزته.
ولكن ماذا نعني بمهامنا ضد الاستعمار في المجال الداخلي؟
إنها تتلخص في تصفية مخلفات السيطرة الأجنبية، وإناء تبعيتنا في الميادين الاقتصادية والمالية والثقافية. واسمحوا لي في هذا الصدد أن أتحدث مرة أخرى عن الإصلاحات الاقتصادية التي أنجزت منذ الاستقلال، والتي يجب تقييمها تقييما صحيحا. لأنني أعتبر ذلك قبيل التوضيح الإيديولوجي الذي لابد منه.
الأسس الاستعمارية:
عندما نستعرض الإصلاحات الإدارية والسياسية والاقتصادية التي أنجزت بعد إعلان الاستقلال، يتعين علينا ألاّ نقلل من قيمة الصراع الطويل والمعارك المتواصلة التي اضطررنا لخوضها بمناسبة استصدار كل تدبير من هذه التدابير الإصلاحية. ولكن علينا في نفس الوقت أن نقيم هذه التدابير تقييماً موضوعياً، مُتسائلين عن استجابتها لمتطلبات الاستقلال الوطني الكامل وعن مقدار تقويضها لدعم السيطرة الاستعمارية.
وقد حدث أن بسبب الصراع المرير الذي تطلبته تدابير إصلاحية في ميدان الجمرك، أو الميدان النقدي، وأسلوب الاقتراع قد غفلنا عن أن تلك التدابير إنما كانت مجرد إصلاحات مرحلية، لابد منها بالطبع، ولكنها تستلزم تدابير جذرية أكثر في سبيل تحقيق الوصول إلى الهدف المنشود، والذي هو التحرر الكامل. وأن هذه المغالاة في تقييم النتائج الجزئية المحصلة بعد الصراع الحاد قد تجد مبررا لها في سوء تقديرنا الأول للمرحلة الانتقالية بعد اكس ليبان. فباعتبارنا مرحلة التوقف الثوري انتصارا كاملا على الاستعمار، كنا قد حكمنا على أنفسنا بأن تكون مباشرة الحكم في ظل الاستقلال الشكلي إنما هو وراثة طبيعية للسلطة الاستعمارية. وكان ذلك كما قلنا آنفا نتيجة لعدم تقدير مدى عمق الوعي الثوري لدى الشعب بعد سنتين من المقاومة المسلحة. والواقع أن القصر الملكي، ومعه بعض مسيري الحركة الوطنية المتأثرين به، إنما كانوا ينظرون لهذه المقاومة كوسيلة أجدى من الهيجان السياسي للوصول إلى نفس الغرض. إذ انهم لم يحيدوا عن الخط الذي كانوا يسيرون فيه قبل سنة 1953، وهو الخط الإصلاحي الذي يهدف في جوهره إلى تطبيق أفضل لمعاهدة الحماية. ومع ذلك بقيت الخطب الرسمية تتحدث طبعا عن التحرر الكامل والاستقلال الصحيح والجهاد ضد النفس، بينما الأسس الاستعمارية التي كنا سجناء داخلها كانت تمنع مطابقة الأقوال للسياسة المتبعة باسمنا. وبذلك حكمنا على أنفسنا بالدخول في منطق ورثة الاستعمار، وبممارسة السلطة في إطار الأسس التي وضعها الاستعمار.
وإن وراثة الحكم الاستعماري ارتبطت عندنا، كما ارتبطت في مجموع القارة الإفريقية، بخطة الليبرالية الاستعمارية التي أخطأنا بعدم تحليلها تحليلاً كافياً.
فإذا أمعنا النظر في أشكال السيطرة الاستعمارية، وجدنا أنها ترجع إلى شكلين رئيسين، أحدهما يعتمد على العنف ويتجلى في الأسس التقليدية للحكم الاستعماري، وأمّا الآخر فإنما يعتمد على تطبيق القوانين الاقتصادية.
ويرتبط هذا التقسيم بتقسيم اجتماعي مماثل بالنسبة للفئات المسيطرة، وهي المستعمرون العقاريون بالنسبة للشكل الأول والمستعمرون من رجال الأعمال الصناعية بالنسبة للشكل الثاني. وقد أدرك هذا الصنف الأخير من المستعمرين أنهم ليسوا في حاجة إلى استعمال العنف، وأن النظام الرأسمالي قد تغلغل في المجتمع المستعمر إلى مرحلة يستحيل معها الرجوع إلى مجتمع ما قبل الاستعمار، بل انهم أخذوا يعتبرون أن أساليب العنف واستمرار التحالف الاستعماري العقاري يعطلان التطور الرأسمالي الذي يمكنهم من تثبيت سيطرتهم.
ولذا رأيناهم أول المسارعين إلى قبول استقلال المغرب. وفي تقديرهم ان القوانين التي تصدرها سلطة وطنية، والضمانات التي سوف تمنحها لهم سيكون لها أكبر حظوظ النجاح. ومن هنا نفهم الدور الذي لعبه رأس المال الصناعي في المغرب الذي كان يمول جريدة «ماروكبرس» بالدار البيضاء، خلال الأزمة المغربية فيما بين سنة 1952 وسنة 1955، والذي كان يقوم ممثلوه في باريس بضغط معاكس لمحاولات تأثير العسكريين والمعمرين على الحكومة الفرنسية.
الإصلاحات الرأسمالية الجديدة:
وإلى جانب الدور الذي لعبه الرأسمال الليبرالي لتسوية الأزمة المغربية، فإن هناك دورا علينا أن نستجلي حقيقته فيما يخص الإصلاحات المنجزة بعد الاستقلال. فإن هؤلاء الليبراليين كانوا يقيمون في كبريات المدن، وكانت مؤسساتهم متفرعة عن شركات مراكزها الرئيسية بفرنسا، وكان ترويج بضائع صناعتهم مرتبطا بتوسيع السوق الداخلية بالمغرب. ولو انهم مثلا كانوا الى حد ما ضد رفع اجور العمال بالمدن، فانهم كانوا ينظرون بعين الرضى لكل إصلاح في الميدان الفلاحي، يخدم مصالحهم بتوسيع آفاق السوق الداخلية، بشرط ألاّ تتعرض تلك الإصلاحات لمبدأ الملكية الخاصة وكذلك يرجع للتدابير الجمركية أو غيرها من التشريعات التي تقيد المنافسة الخارجية، خصوصا إذا كانت تمكنهم من استرجاع ما يفقدونه بسبب ارتفاع أجور العمال عن طريق رفع مناسب للأسعار دون خشية الانخفاض في الطلب. ولابد أن نضيف أن المساعدين الفنيين الأجانب، إنما كانوا في أغلب الأحيان امتدادا لهذه الليبرالية داخل الإدارة المغربية.
تلك بعض الملاحظات الجزئية التي ما تزال في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتعميق. ونحن نستخلص منها أننا إذا أردنا أن نعرف موضوعيا قيمة بعض التدابير الإصلاحية، في الميدان الجمركي مثلا، أو في الميدان الفلاحي، أو في نظام الضرائب وتركيز المشاريع الصناعية، علينا ألاّ نلتفت لرد الفعل لدى المعمرين أو صغار التجار الأجانب، بل إلى موقف رجال الصناعة الليبراليين الذين يمثلون القطاع الرأسمالي الأكثر نموا، والذي يستطيع أن يمد في أجل سيطرته ولو في إطار إصلاحات عهد الاستقلال. نعم، إن هذا القطاع يفضل لو لم تكن هناك إصلاحات، ولكنه لا يقف ضدها إذا اقتضى الحال.
إلاّ أن رأس المال الليبرالي هذا لا يستطيع أن يستمر في موقفه المسالم إذا ما اتجهت السياسة الاقتصادية إلى اتخاذ تدابير تحريرية جذرية، كالتي أخذ يعد مشاريعها إخواننا وهم مشاركون في الحكم سنة 1959. فإنهم بمجرد ما أنشأوا المؤسسات المؤدية لهذا التحرر، واستصدروا قوانين الرقابة على رؤوس الأموال إلى الخارج، ووضعوا اللمسة الأخيرة في خطة الخمس سنوات التي تتضمن بعض الاختيارات الصريحة ضد الاستعمار، فقد اعتبرتهم تلك الأوساط الليبرالية وكأنهم نصبوا أجهزة الحرب ضد مصالح الرأسمالية والاستعمار الجديد.
وهذا ما يفسر الصدام المرير الذي واجهناهُ عند وضع أي واحد من هذه المشاريع، كما يفسر الانقلاب الذي أقيل بمقتضاه إخواننا من الوزارة، فإن، أولئك الذين غدت مصالحهم أو امتيازاتهم مهددة بالسياسة الجديدة التي ظهرت بوادرها سنة 1959، أدركوا قبل غيرهم خطورة هذه السياسة، وهبوا لمساندة ولي العهد آنذاك، إن لم نقل ليوحوا له بموقف المعارضة المتعصبة ضد بقائنا في الحكومة، بينما كان والده محمد الخامس يرى مشاركتنا ما تزال ضرورية.
وفي نفس الوقت انكشف النقاب عن وجه الحكم الذي يدعي أنه حكم وطني، بينما كان يبذل قصارى جهده لتأجيل ساعة التحرر الحقيقي.
من أجل تحرر حقيقي:
ولكي نحقق تحررنا الاقتصادي، فإن مهمتنا في المعركة ضد الاستعمار هي أن نرفض قبل كل شيء أولا الجلوس في مقعد ورثة السلطة الاستعمارية، ثم ثانيا عدم تحديد سياستنا بالمقاييس والتقديرات التي كانت تفرضها ظروف الحماية الأجنبية. يجب علينا أن نعلم أن منطق الزلزال الثوري قد يحمل معه احتمالات بعض التوقف المؤقت، بل التراجع في مستوى الإنتاج، كما يقضي بتغيير أساس نظام الأسعار والأجور، ولن يكون هناك مجال للمناورة بين الاستعمار العقاري والليبرالية الصناعية، وبين الحكومة الفرنسية التي تود لو تستطيع ضمان مصالح الفئتين الاستعماريتين عن طريق مساعدتها الشحيحة للحكومة المغربية.
يجب أن يصبح واضحا عند الجميع، أننا لا نستطيع أن نتحرر تحررا كاملا عن طريق إصلاحات جزئية وفي نطاق النظام الرأسمالي، وأننا لن نكون في مستوى مهامنا التاريخية إلاّ بانتهاج سياسة مقاومة للاستعمار تكون شاملة لمجالات العمل في الداخل والخارج.
ولا ينبغي أن نضع كل هذه المهام في مستوى واحد، بل التي يجب أن تحتل المقام الأول بدون منازع هي مهمة تحقيق الإصلاح الزراعي في الداخل، وفي الميدان الخارجي مهمة بناء مغرب عربي كوسيلة لمقاومة نفوذ الاستعمار الجديد. وهاتان المهمتان لابد من وجودهما ضمن أي حد أدنى من برامجنا المرحلية.
……………………..
يتبع.. الحلقة (6/7)؛ ” الأفق الثوري “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناضل وسياسي مغربي، وقومي عربي، كان قبل اختطافه واغتياله عام 1965 قائداً للمعارضة المغربية ومدافعاً عن قضايا الحرية والسلام في العالم.
التعليقات مغلقة.