الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أوطاننا ضحية الطوائف.. فلنُحرّم زواج الدين والسياسة

نصري الصايغ *     

عرف العالم ديانات كثيرة، بدعوى الخلاص. كلها تنتمي الى عالم ماورائي. جسدَت وجودها الدائم، دون برهان او دليل، على اسلوب “تبلغوا وبلغوا”. قول يقال وينفذ، والقول فيض من العصمة، امتحان القول يقع على عاتق المؤمنين بالدين.

الماورائي لا زمني، أبدي وإملائي. الممارسة الدينية، مفترض ان تكون الامتحان. النتائج كانت كارثية. وباء الاجتهاد والتفسير والمصالح. وظف النص الديني، لمصالح وغايات ارضية وزمانية ومكانية. بدا من التجارب المتناسلة، الفشل الانساني في ترجمة الإلهي. النص بريء، الترجمة كانت فادحة. ما جاء من “فوق”، سماوي، وما تمت ترجمته من تحت، كان كارثياً: دمار، حرائق، مقاتِل، تمثيل بالجثث، استغلال، عبودية، تسلط، فتن، مذابح.. تحولت الرسالة السماوية الى تجنيد “المؤمنين” مقابل صكوك ملكية سماوية. نوع من الرشوة كما تحولت في جغرافيتنا العربية، الى سياقات إفتائية، حوَلت الآية الى سيف، والسيف “مصداق” كاذب للآيات.

هل تولد ديموقراطية من هذا الإرث؟ هل تمارس مساءلة ومحاسبة من قبل الناس، الذين يصيرون شعوباً في مساحات وفضاءات؟ هل هناك قيمة للحرية؟ إذا كان الإنسان عبداً للدين، فلا حرية، بل تقليد الخلف للسلف، برغم افتراق الازمنة وتعدد المشكلات والخيارات؟

هل يُحاسب الإنسان على عمله ام على تنفيذه لـ”الأمر الإلهي” المبلغ له من كنيسة او مراجع متعددة، تعدد الاديان والطوائف والاجتهادات. أخيرا هل الدين صالح في السياسة؟ هل يسيء الى مجتمعه او يُساء اليه من قبل سلطات مجتمعاته؟ أليس من الضروري، والبديهي، انقاذ الدين مما يساء اليه في السياسة؟ السياسة يفسدها الدين، والدين ورجالاته، يفسدون السياسة.

                                       ***

مذ وجد الدين، اعطي العصمة. الاختلاف بين الديانات مزمن وأصيل، برغم اعتبار كل دين، انه الصح. علماً ان مرجعهم واحد أحد، ولا أحد سواه. الدين ملازم للبشرية، أكانت وثنية أم سماوية. هناك حاجة للإيمان، ولغز الانسان بحاجة الى جهد كبير، ليفسر اسراره. الانسان كونٌ تام، لا تختصره النصوص، ولو كانت مطوية لاهوتيا، ومبصومة اجتهادياً. الإنسان، كونه كائن شره للحرية، لا تلجمه الأوامر. فهو ليس قلباً، وايماناً، وعقلاً، وحاجة. انه كائن كوني تام، بدءاً من بدايات الهمجية، بلوغاً الى رخامته في القرن الراهن. الإنسان كائن صغير جداً، واجتياحي بشرياً. العالم تغير بيديه وجهوده ونضاله وعقله ودمه. الله لا يتدخل عملياً. قد يُقال، ان الله اراده كذلك. ليس هذا الكلام صحيحاً. الله يحاسب الانسان لأنه حر في خياراته. وحريته هذه يدفع اثمانها هنا اولاً، قبل هناك، ان كان هناك محاكمة.

إن الدين رسالة مفروضة من فوق، وهو تام، لا يأتيه نقص من أي جهة، وهو تناول “كل شيء” تقريباً. صحيح أن ما جاءه املاءً لا رأي للإنسان فيه. تبلغه كلاماً وسيرة، املاء مقدس. مطَوب. نموذجي. املاء يملي حقائق دائمة وثابتة. وعلى من ولد من بطن ديني ان يتفانى في تأييد وانتهاج ما جاء نصاً أو وحياً. ودرج الانسان ان يأخذ ذلك بالواسطة. المؤسسة الدينية، او الادق، السلطة الدينية احتكرت القول والتفسير والاجتهاد. وأضافت وأصَلت و… كل هذا من ابتداع العقل الانساني الذي تم توظيفه في تعليم النص والتشريع، والسهر عليه، وفي المعاقبة الزمنية، لما يقترفه الانسان المخالف للشرع والنص والاجتهاد.

قلة نادرة، نادرة، نادرة، اختارت دينها. والجماعات، في كل الاصقاع الايمانية أخذت دينها من نسلها فور ولادتها. يُرهن الطفل او الطفلة للدين. قبل ان يعي ويتعلم بالحروف و… الدين ولاّدة شعوب. الانجاب وحده، اقوى من كل الحجج ومحاولات الاقناع. من “ولد من نص ديني شب وشاب عليه”. الدين يرضع مع الحليب. ولم يكن بحاجة الى علم وتفكير ليختار. هكذا كان التاريخ وما زال، ولن يزول.

لذلك أيها “المؤمنون”. لا فضل لكم في تدينكم. كلكم سواسية. الانفتاح نادر. التقليد دائم. الوراثة لم تتوقف بعد، وأظن انها لن تتوقف. المسيحي يلد مسيحيين والاسلام يلد محمديين، والتوراة تلد يهوداً، الى آخر الزمان. فيا أيها المتدينون تواضعوا. دينكم اختاركم ولم تختاروه. انكم متشابهون اصلاً ومتناقضون فعلاً. سماؤكم جميلة وأرضكم جحيم.

                                       ***

لِمَ هذا الكلام اليوم؟

إن أتباع الديانات، باستثناء قلة من النسَاك والقديسين والروحانيين، حوّلوا النصوص الدينية، الى اسلحة فتاكة. كل دين، ترجمه ابناؤه، دماً وسفكاً وقتلاً. ولا نستثني ديناً. الكرة الارضية الصغيرة في عالم الكواكب، مضرجة بالدم والقتل. لم تنفع الصلوات. لم تنفع التفسيرات. الدين جاء عقاباً. والله المعبود، صار دكتاتوراً، والقديسون والاولياء، يفتون بالعنف ان شاءوا. وبالعداء، ان شاءوا وبالسلام إن رغبوا. الدين يصلح لكل الحالات من فوق لتحت، وفي كل الاتجاهات.

أحد الوجوه البشعة للديانات المتجسدة بشراً، هو الحروب الدينية التي كفلت بإبادات وإحراق وتعذيب وقتل وسجن وتشويه وتفظيع ونفي. لا شرعية لمن يخالف بالرأي والتفسير. الصراع المسيحي – المسيحي، عاش الفا وسبعمائة سنة تقريباً. تحولت فيه المسيحية الى معسكرات ومعارك وسلوك همجي بربري، يستحسن عدم ذكرها، لبشاعتها. أما في منطقة الحضور الإسلامي، وعلى الرغم من تزامن الوحي بالعمل، فإن المعارك بين ابناء الدين ورواده الأوائل، اندلع بعيد وفاة الرسول، وحتى قبل دفنه. ابو بكر اخذها عنوة ـ اورثها لعمر، وكان عثمان فلتة، دفع ثمن انحيازه قبلاً، من قبل مسلمين ثائرين. وانتهى علي بن ابي طالب ضحية، بعد حروب وصراعات، حول خلافته، التي اغتصبها غصباً وحيلة معاوية، ابن ابي سفيان، قائد التمرد على الرسول في مكة، قبل استسلامه واسلامه، في الزمن ذاته. وتاريخ الصراعات بين المذاهب والفرق وال… الخ. لا يمكن اغفاله، ونبضه ما زال حياً، يعاد الاحتفاء به، كل عام. عاشوراء والطف ومقتلة الحسين، حية ترزق في النفوس والعقول والقلوب. والحسينيون ورثة ذلك التاريخ ابا عن جد. السنة في موقع آخر وصامت.

الأديان رسالات سلام. هذا كلام. الأديان منصات حروب وفتن وكوارث وقتلى وعداوات.

نعبر القرون، ونحط رحالنا في دنيا العرب ومن حولها. انها محكومة بمذاهب متعادية، وطوائف متقاتلة ومنازلات متسلسلة، وعلى ضفافها دم وحروف كل فئة تشهر سيفها وآيتها. دين واحد يصلح عندهم لكل المعارك. “الله” كما يدعون هو فوقهم جميعاً. كأنه هو المحرض والمرتكب، فيما الاعمال السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تمليها قوى، تستقوي بالثروة والسلطة والارث والتاريخ. وتطوب نفسها بأنها “الفئة الوحيدة الناجية” وما تقوم به، وما يرتكبونه جميعاً، هو من ارادة الله. وهذا افتراء وافتئات وظلم. الدين في الواقع والوقائع، مضاد للنصوص، وان لم يكن كذلك فكارثة.

                                       ***

نصل الى خريطة العالم العربي ومحيطه، ولبنان منه وفيه، بكل عذاباته وانهياراته. ولا يختلف في صراعاته الحميمة الدامية، عن الصراع الحاصل في سوريا بين سلطة من لون واحد، وجموع بألوان السيوف والقنابل والمجازر. ولا يختلف ايضاً عن عراق، دمره الغرب (المسيحي) وتركه اشلاء تتكالب عليها المذاهب الدينية والعشائر والعائلات. ولا يختلف ذلك عن السودان المشطور، وعن ليبيا المفتونة بالدم، على مدار عشر سنوات ونيف. ومن قبل الجزائر التي عاشت سنواتها الدينية العاصفة مخلفة مئات آلاف القتلى، وهم على دين واحد. أما مصر، فتحاول ان تجد حلاً توافقيا… وقربنا قبرص، التي فازت بالتقسيم، بعد مذابح واجلاء.

هذا عالم ديني أم عالم جحيمي؟

نصل الى لبنان. قيل فيه انه نبع النبوغ، وموئل الابجدية، وباني الثقافة والحضارات.. الخ. قد يكون هذا مبالغ فيه، ولكنه يدل فعلاً على دور قام فيه، منذ ابتداع الابجديات والشعر والفنون، وممارسة التجارة. ولبنان هذا، لم يكن مستقلاً عن محيطه، حيث ساهم ببناء حضارة تركت أثرها، قبل المسيحية والاسلام وبعدهما وظلت تركيبة التجربة اللبنانية رائجة، الى ان بلغ القرن التاسع عشر، حيث عرف لبنان مخاضاً دموياً، بين الطوائف والمذاهب الاسلامية والطوائف المسيحية.

المفكرون العرب، وبينهم لبنانيون وسوريون، ارهصوا بانتقال بطيء من الاجتماع التقليدي، الديني والعشائري والاقليمي، الى اجتماع يحتكم لقيم كانت رائجة لدى مفكرين غربيين ومفكري عصر النهضة.

كانت التجربة مناطة بالتحرر من قيود الماضي، الذي اجتر معاركه واعاد انتاجها مراراً، من دون انتصار فريق على آخر، كما كانت النهضة العربية، محاولة جريئة وعقلانية، لنقل الانتماء من الدين الى الوطن. أي تكوين ارضية متينة ومادتها الانتماء وخلاصتها ترسيمة حيوية لشعب يتنوع في آرائه وليس بطائفته ولونه وعشيرته واصوله.. التجربة الفكرية كانت صيحة في فراغ لم تعمر طويلاً.

                                       ***

القومية كانت عابرة. اساءت تمثيل قيم الحداثة والنهوض والعصر. الحركات القومية النهضوية اغتالت الحرية. تسلم العسكر الحكم. حُول الوطن إلى سجن ضمن اسوار. تم إعدام العقل والتفكير. شكّل الاسلام الديني، منصة للإسلام السياسي. حلَت الاوامر الفظة. مورس التعذيب. اعتقل المفكرون. دخل العالم العربي نفق العسكر، وكانت الكارثة. ان هذه القوى العسكرية، فتحت الطريق لمن قمعوا. استعاد العرب حروبهم بعودتهم الى سلفية، كانت في زمنها مصيبة… ما دخل الدين شيئاً إلا وأفسده. والدين يفسد وينفجر إذا تسيس.

حاول الفكر أن يجد مخرجاً من هذه الهوة الجحيمية. ساهم لبنانيون وسوريون ومصريون وعراقيون في وضع ترسيمة فكرية، مستقاة من تجارب دول بلغت مرحلة الديمقراطية والحرية والاستقلال. أوروبا، لم تحمل هذه الرسالة الينا. عرضت علينا انماطاً تناسب التجزئة وبحاجة الى رعاية دائمة، خوفاً من تغوَل الطوائف والمذاهب ولجوئهم الى العنف، كما حصل في القرن التاسع عشر بين الدروز والنصارى.

دخلت الكيانات العربية في محنة الاستقلال، قبل ان تبلغ الديمقراطية. والديمقراطية، نقيضها التام، هو المذهبية والطائفية، او اكثرية في مواجهة اقليات. وكانت حصة لبنان “التنظيم”، ان تبنى نظاماً، تم فيه تطعيم الديمقراطية بالمذهبية والطائفية. وهذه التوأمة مستحيلة. والتجربة أكبر برهان، اذ لا ديمقراطية البتة مع الطائفية. فلبنان، يسجل في نصوصه انه بلد ديمقراطي – ونظامه جمهوري، وحكمه عادل الخ.. لكن الممارسة تستمد شرعيتها من أحقر مرجع، وهو الطائفية التي تم تجريدها من كل روح دينية، وألبست ثياب ابالسة السياسة وقطَاع الطرق ونصابي المناسبات، والتي لم ترعوِ ابداً، فاختارت كل فئة او طائفة، ان تعيش في احضان الاجنبي او العربي القريب. ولهذا كان لبنان، ضحية انتماءات طوائفية الى دول سنية ودول شيعية وغرب مسيحي. ولبنان، منذ ولادته، يتورم وينفجر. وها هو الآن، لا ينفجر، لأن شعبه لم يعد قادراً على الوقوف على قدميه، فهو مشغول بلقمة العيش. بالبحث عن دواء، ويتوقف عن التفاؤل نهائياً. نهائياً انه زمن المسحولين.

لبنان، قتلته الطوائف. والطوائف دكتاتورية متخلفة ولصوصية. ويقال ذلك عن سوريا والعراق..

                                       ***

الدينُ والسياسةُ.. وهذا البلد “الحذوة”!

الخبرة أفضل من الفكرة دائماً. التفكير تحليق والخبرة تدقيق. القول في الاسلام نظرياً لا يتسق ابداً مع الممارسة. الدين مثاليات ومعتقدات وأوامر ونواهٍ، والسياسات التي تستظل الدين، تجارب وانجازات وخيبات ومماحكات ومحاكمات. أوجه الشبه بين الدين والسياسة تظهر حجم الشناعات والبشاعات في الممارسة. الدين نقاء والسياسة نفاق، والعالم يشهد منذ بداياته سوء تطبيق المبادئ والمعتقدات في المجتمعات.

لا بد من انقاذ الدين من السياسة. لأن السياسة تسيء اليه، ولا بد من انقاذ السياسة من الدين لأنه يسيء الى السياسة. لا نقاء البتة. الدين من عالم ورائي والسياسة من عالم انساني. السياسة ارتكبت، ونأت عن اخلاقية الدين. انما كان ذلك، باسم الدين. فالدين مع السياسة، يتحول الى شاهد زور، مبرر للارتكاب. يظن “الابرياء الاغبياء” ان الدين يوظف السياسة لمصلحته. خطأ فادح هذا القول. السياسة توظف الدين. الآية سلاح تبرير. المعتقد غطاء أخطاء.

الاحتماء السياسي بالدين، كمرجع وحاكم، توظيف للجهل وتجهيل للتفكير. وبدل أن يكون الانسان حراً حتى يختار حياته وعمله وموجباته، يتحوَل الى مأمور، من سياسي برتبة مرجع ديني. كنسي، اسلامي، شيعي، سني، الى آخر مسبحة الطوائف والمذاهب. وبالخلاصة، يكون التاريخ هذا، قد أنجب ضحيتين: الدين تلوّثَ وأُهين؛ اما السياسة فقد ارتكبت الفدائح وتزينت بالفضائح. الدين نصاً، فضاء روحي وأدلة مثالية، والسياسة تلفيق بأقنعة ذات سحنات قدسية.

                                       ***

أما بعد؛

إذا كان ذلك كذلك، على مستوى القراءة لتجارب الزواج الفاشلة والفاضحة بين الدين والسلطة، فلا بد من قراءة المسيحية سياسياً، من خلال فداحة حروبها واضطهادها وتنكيلها ومصادرتها واستعبادها، على مدى قرون. الكنائس المسيحية المتعددة، حوَّلت الدول التي سيطرت عليها الى جبهات قتال، ومحاكمات تفتيش، وافتئات على الضعفاء، واثراء للأغنياء، وارتكاب ما تشيب له الرؤوس، من آدم الى حروب الكاثوليك والبروتستانت، اضافة الى تبرير احتلال القارة الجديدة وإبادة الهنود الحمر فيها.

ماذا كان يفعل الله آنذاك؟ ماذا حل بقدسية الانجيل. الجواب معروف. السياسة افتراس والويل للمهزومين.

وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد من قراءة تاريخ المسلمين، منذ وفاة الرسول، حتى ايامنا هذه، وما نتوقعه من عداوات وصراعات وادوات نفاق. الحروب الاسلامية-الاسلامية، فظيعة وشنيعة، وقد افرزت عداوات بين المذاهب والفرق (وهي بالمئات) لا تزال دماؤها تتجدد.

بعد كل زواج اغتصابي، بين الدين والسياسة. الحروب البينية الاسلامية لا يمكن احصاء وقائعها، انما. بالإمكان، إلقاء نظرة الى الخريطة العربية الاسلامية، لإدراك الهوة العنيفة بين مذهب ومذهب، وبين فرقة وفرقة، وبين تنظيم وتنظيم. لو شاء الشيطان ان يرتكب مثلها لعجز عن انتاجها. الصراعات الاسلامية الراهنة، خنقت السياسة. ذيَلت (ذيَلت من ذيل) الجماعات السلمية، وتجرأت على جعل السفك اليومي، روزنامة عربية. نعم، ان المنطقة، تنزف نفطاً ودماً.

لا ضرورة لذكر الممالك والامارات والدكتاتوريات والجمهوريات. انها كلها تكيد لبعضها مكائد دينية وبلا خجل، وعلى الملأ. وبلغ الاجتهاد حدود ارتكاب الخيانات. التطبيع مع “اسرائيل” عار مقدس.

                                       ***

بعيداً عن التنظير للدولة المدنية والدولة الدينية – الطائفية، وبعيداً عن التحديث الاسلامي، ليصبح مقبولاً ومرضياً للوسطيين الدينيين. وبعيداً عن الكذب المتبادل بين الايمان والكفر والتكفير، يعيش العالم العربي اليوم ازمة هوية واتجاه ومصالح ومطامع. الكيانات العربية، تريد من الانسان، تابعاً لا صانعاً. مطيعاً لا متمرداً. خادماً لا مخدوماً. ويصار الى التعويض عن ذلك، بإعلاء شأن “التقدم” الذي أنجزته انظمة نفطية ومطيعة لشروط دول النفاق الرأسمالي، التي تعتلي منبراً مؤسساً على دوس الحريات، ودعم الديكتاتوريات، وجعل المال أولاً والانسان أخيراً. هذه حقبة نيو رأسمالية، تأسست على الاحتكارات العالمية، وصراع المصالح، واعتبار الانسان سلعة برتبة كادر مطيع، وخبير مستمع، وتاجر عابر للقارات والقيم الانسانية.

الأنظمة المتشدِقة دينياً، تمارس الكفر العلني بالإنسان. وتصطف خلف دول عملاقة، سلَعت الاديان والقيم والأخلاق، لمصلحة السوق. ومنطقها واضح: ما لنا هو لنا، وما لكم هو لنا كذلك، وليس هو “لنا ولكم”.

وهكذا، نختم بسرعة لنقول: الاديان لا توحد ابداً، ولو كانت مبنية على اسس متينة للتوحيد – التوحيد ترجم راهناً وقديماً، بالمتعدد المعادي “انا على حق وغيري على خطأ” ـ لا تسمح بالبحث عن الحقيقة ابداً. وعليه، المرحلة السياسية، المحلية، الاقليمية، الدولية، يبدأ دينها بتأييد الربح وتزيين ذلك بفيترينات تعرض آخر ما توصلت اليه عبقرية الانتاج والعلم، لدفع الركب الانساني الى مستقبل جديد كلياً. لا يبقى في القديم، إلا الاديان التي يلبسونها اردية تتواءم مع الذوق السائد. يتحول الدين الى زي. نسياً منسياً. وعليه، فباسم القيم، تنتهك القيم.. عصر التحرر هذا، هو ضد الحريات. مواقفه من الدكتاتوريات، غض النظر. لأن النفط والذهب والمواد الأولية، تأتي في مرتبة ما قبل الدين والإيمان. انه عالم بائس حقاً.

                                       ***

إذا، إلى أين نحن بعد الآن؟

إلى المزيد من التمزق. الى استفحال العداء وحراسته. الى إلغاء الفكر والتفكير واخفاء القيم. الى ان يصبح الانسان تلميذاً نجيباً لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. الى تحويل الجامعات الى خريجين يدخلون عجلة العولمة ويكونون خدمها. في هذا السياق. يموت عمالقة الفكر في اوروبا وفي الولايات المتحدة وفي الضواحي المتخلفة. عربياً، لم يعد مفكر نهضوي على قيد الحياة، او ان اتباعه باتوا ايتاماً، يتمسكون بالنص ويلوكونه كصلاة روتينية. لائحة العباقرة الذين قتلتهم موجة التمذهب وموجات التحديث كبيرة جداً. قرنُ المفكرين النهضويين، ترجل لمصلحة فخامة المهرجانات في دول الخليج والدول الثرية والمصانة من قبل حماة غربيين، غير اسلاميين طبعاً.

من هم اللبنانيون راهناً؟

من دون تمحيص وتفكير واع، نستطيع القول إن الأمي عبقري وإن المرتكب قائد جماعة، وان الناس، باستثناء قلة نادرة معزولة وغير مسموعة، تحلقوا في جوقات طائفية ومذهبية (ولو كانوا كافرين او ملحدين) وهم يبخرون زعماء من قش وزعرنات ويسوَغون للمرتكب لأنه من دينهم، ويصمتون عن الجرم حماية للمرتكب المصان مذهبياً، او يصمتون ويستسلمون، ويتحولون الى خرقة انسانية مشوهة، او يغرق في يأس لا يشفيه الا الايغال بالسكر. فالسكر منجاة، والوعي ممحاة.

لبنان. حصن منيع من حصون التدين المذهبي. كل طائفة دويلة تامة تناسبها دويلة تشبهها وتسير باتجاه ريح تؤاتيها، إما من غرب ذكي، وخليج يتقي، او سفارات لها سلطة اقوى من كل السلطات المحلية.

أبشع ما انتجته الطائفية في لبنان، هو إلغاء الانسان، وإلغاء الشعب، وإلغاء الدولة، وسحل الوطن.

إنه بلدٌ برتبة حذاء. وعفواً من إهانة الحذاء أو حتى “الحذوة”!

* مثقف وكاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.