(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثامنة والثلاثون من الجزء الأول– ثانياً(2)– التكتيك الاستيزاري والتكتيك الثوري؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”
ثانياً(2)– التكتيك الاستيزاري والتكتيك الثوري
بالرغم من أن الحزب كان يدعو إلى سياسة انقلابية وثورية، إلا أن التركيب الاجتماعي للحزب وغموض مرتكزاته النظرية، سهل على العناصر الانتهازية جره إلى تبني الاتجاه الإصلاحي، مما سهل على الحزب فتح الإطار البورجوازي- الاقطاعي للحكم والتمركز داخله والتأقلم معه. وهكذا أصبح «التكتيك الاستيزاري»، أسلوب الحزب الدائم في «النضال !!» السياسي. و لقد كان هذا الأسلوب هو وحده الذي يلائم مصالح الرجعية، لأن هذا التكتيك الذي يُحمّل التقدميين مسؤولية الموقف دون أن يمنحهم القدرة على التغيير الكامل هو ضربْ من الانتهازية المفضوحة والبهلوانية السياسية.
إن الشعب يعي مسؤولية الحكام ولكنه لن يبرر ولن يقبل عدم قدرتهم، وهو ينادي دائماً-كما يقول بيفان- ذلك النداء الحاسم: «احكموا لتغيروا وإذا لم تستطيعوا تخلوا». إن التكتيك الاستيزاري، الذي يُعتبر أحط درك في النزعة الإصلاحية، والذي يقوم على مبدأ «تسكين الصداع»، يضع على صعيد واحد، أمام الشعب جميع فئات الحكم الرجعية والاشتراكية المستوزرة، وهذا هو أسلوب الرجعية الذكي الذي يفضح زيف من ينسبون أنفسهم للتقدمية والاشتراكية، إذ يمرغهم في أوحال الحكم البورجوازي الرجعي.
إن التكتيك الاستيزاري- الإصلاحي دوران عقيم في حلقة مفرغة، وإن من جانب القوى الرجعية المستثمرة دون التعرض لإطار نظام الاستثمار وأسسه هم المدافعون المقنعون عن ذلك النظام، وإن الذين يعتقدون بأن من الممكن الوصول إلى الاشتراكية عبر تكديس فتوحات صغيرة وهزيلة يخدعون الشعب ويضللونه، لأن الاكتفاء بالتقاط الفُتات من مائدة الرأسمالية لن يزحزح نظام الاستثمار والاستغلال، وإن الطريق الوحيد إلى ذلك هو أن تستلم الجماهير الشعبية الكادحة زمام السلطة بيديها، وتلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتمويل.
إلا أن من الواجب أن نميز بين نوعين من الإصلاحات، بين إصلاحات تتنازل عنها الطبقات المستغلة وهي تحتفظ بقواها وسيطرتها، وبين اصلاح ينتزع من الرجعية قسماً من مواقفها ويسلب قسماً من قواها ويساهم بتقويض سلطتها. فالأول إصلاح تخديري كاذب يدعم مواقع الرجعية، أما الثاني فإنه خطوة من خطوات الثورة (وعلى سبيل المثال نذكر أن العودة لقانون الإصلاح الزراعي، في القطر السوري بعد 28 آذار 1962 وإعادة بعض التأميمات الثانوية، كان أداة ووسيلة لكبح المد الثوري لدى الجماهير). فالقضية إذن هي أن نعرف ظروف هذا الإصلاح وأسبابه والغاية منه، ومدى تأثيره على قوى الطبقة الرجعية.
إن التكتيك الثوري فيما يتعلق بالحكم البورجوازي، يجب أن يقوم على الأسس التالية:
1- عدم الاشتراك في الحكم مع البورجوازية مهما كانت المبررات (كالظروف الحرجة والاستثنائية والوحدة الوطنية.. الخ) وعدم الاقتراب من الحكم إلا إذا ملك الحزب إمكانية أكيدة للتغيير الكامل.
2- في الظروف الحرجة والاستثنائية يمكن فقط الكف عن معارضة الحكم أو تأييده بتحفظ ولمدة محدودة وبشروطٍ واضحة.
5- اللعبة البرلمانية والنضال الثوري
قد أظهر الحزب انسجاما لا حد له مع اللعبة البرلمانية، وبرع أحد قادته(6) بالمناورات البرلمانية على المسرح والكواليس، وألف التجمعات النيابية وشكل الحكومات وقدم المرشحين لرئاسة الجمهورية.
فهل تتلاءم اللعبة البرلمانية مع الروح الثورية? وهل يمكن أن يكون البرلمان في البلدان المتخلفة أداة تحويل اجتماعي? وما هو الفرق بين برلمانات الشعوب المتقدمة وبرلمانات الشعوب المتخلفة? وما هو انعكاس هذا «الانسجام» مع اللعبة البرلمانية على الحزب نفسه? وفي أي الحدود ينبغي استخدام النضال البرلماني?
لسنا ها هنا بصدد تحليل النظام البرلماني، إلا أن اللعبة الذكية التي روجّت لها البورجوازية، والخدعة الكبرى التي وقع في شباكها بعض عناصر الحزب، (هذه الخدعة التي تقول إن البرلمانية هي الشكل الوحيد للديمقراطية) توجب وقفة غير قصيرة حول هذا الموضوع.
آ- البرلمانية هي الغلاف السياسي للرأسمالية: نشأ النظام البرلماني في الغرب مع نشوء الرأسمالية وتطوّر بتطورها. في بداية نشوء النظام البرلماني كان الناخب هو «المالك» وحده، وكان المنتخَب (بالفتح) هو المالك الكبير. فالبرلمانات لم تمثل في البداية إلا الطبقات المالكة. ومع نمو الحركة العمالية ونتيجة لنضالها اتسع نطاق التصويت وتزايد نفوذ القوى التقدمية في البرلمانات. إلا أن التغيرات التي طرأت على بنيان الدول الرأسمالية أدت إلى انحطاط النظام البرلماني (تلخص هذه التغيرات: تحول الرأسمالية الحرة إلى رأسمالية احتكارية- نمو جهاز الدولة الإداري والعسكري). ونشأ تحالف بين الاحتكارات الكبرى وبين البيروقراطية ضد البرلمان، ونقل مركز النشاط السياسي من قاعات البرلمان إلى كواليسه، وأصبح «كل شيء يتم في الكواليس وكل شيء يمثل على مسرح البرلمان» وهكذا انحطت حرية الرأي والمناقشة إلى خداع وتضليل، ولم تستطع اساليب النضال البرلماني أن تحدث أي تغيير اساسي في بنية تلك المجتمعات، وهكذا عجز «قانون العدد»، الذي هو ثمرة نضال عمالي طويل وشاق، عن ترجمة إرادة الجماهير الشعبية وعن تأمين تحقيق هذه الإرادة، نظراً لأن البورجوازية التي تتمتع بامتيازات فعلية واقعية (الثروة، وسائل الدعاية الضخمة التي تصنع الراي العام، الصلات، النفوذ، الخبرة والثقافة) لم تُغلب بالتصويت، لذا فإن دخول الطبقة العاملة في برلمانات أوربا الغربية لم يحد من سلطة هذه الطبقة ولم يهز دعائمها، بل اضطرها فقط إلى تبني أشكال وأساليب جديدة أكثر مرونة وفهماً للواقع، عندما امتصت وقبلت بعض المطالب العمالية، وبَرّدت الروح الثورية لدى الجماهير.
وعلى سبيل المثال، نذكر أن البرلمان الإنكليزي، الذي يُعتبر أرسخ وأقوى البرلمانات في العالم، قد بقي- كما يقول انورين بيفان-: «خارج المعركة فيما يتعلق بالتحويل الاشتراكي، وأن العمل البرلماني، كان دائماً- ولا يزال- خاضعاً وخادماً للنشاط الاقتصادي الفردي، وحُصرت مهمة البرلمان في تقوية هذا الاقتصاد إذا أصابه الوهن والضعف… وأن هذه السياسة تتعارض تعارضاً تاماً مع الاشتراكية…»
ب- البرلمانية في البلدان المتخلفة: إذا كانت هذه هي النتيجة التي انتهت إليها البرلمانية في البلاد الغربية المتقدمة، فإن مقارنة البرلمانية في البلدان المتخلفة بتلك البرلمانية هو ضرب من الهذيان:
1- إن الثبات النسبي الذي تتمتع به البرلمانية في الغرب، يكمن في أنها جاءت وليدة تطور حضاري وسياسي طويل, أما في البلدان المتخلفة فقد جاءت البرلمانية مجرد نقل لواجهة غريبة لذا كانت مقطوعة عن جذورها الحضارية والسياسية, ولم تتولد من معطيات الحركة الوطنية وحاجاتها المباشرة والعملية.
2- في الغرب تأتي الانتخابات معبرة عن الرأي المباشر للشعب في فترة معينة (ولسنا هنا بصدد أجهزة الاحتكارات التي تصنع هذا الرأي) لأن المواطن في الغرب الرأسمالي يذهب إلى صندوق الاقتراع ليختار اتجاهاً سياسياً واضحاً؛ أما في البلاد المتخلفة فإن قسماً كبيراً وهاماً من السكان لا يذهب إلى صندوق الإقتراع، أما القسم الآخر فإن أسباب اختياره لممثليه ليس الاتجاه السياسي إلا بصورة جزئية وثانوية، ولذا كان إسقاط البرلمانية يقابل دوماً، من قبَل الجماهير الشعبية، بنوع من الشماتة والتشفي.
3- بما أن البرلمانية هي أسلوب الرجعية في الحكم (في الأحوال الطبيعية وحيث لا يتهدد مصالحها خطر داهم) لذا انعكست ملامح تلك الطبقات والفئات على البرلمانية نفسها، وبما أن هذه الرجعية متأخرة ومتخلفة فلم تستطع أن تتمثل روح العصر ولم تتجاوب معه، وبما أن الجزء الأكبر منها عميل مباشر للاستعمار والآخر متذبذب ومساوم معه، لذا لم تستطع الرجعية يوماً أن تفرض قيادتها وهيبتها على الشعب، فكانت البرلمانية تبعاً لذلك مجرد بناء كرتوني هزيل ونسخة مزيفة عن البرلمانية الغربية. وهذه هي الأسباب العميقة للانقلابات العسكرية، التي أصبحت ظاهرة ملازمة لهذا الشكل الزائف من الديمقراطية. إن الانقلابات العسكرية، هي عقاب لها ودليل على فشلها في نفس الوقت. وبما أن تلك الانقلابات (في أحسن أحوالها وفي حال براءتها) لا تعكس سوى تململ شعبي سلبي وعفوي، فقد عجزت عن تلبية مطامح الجماهير، وهكذا عاش شعبنا في دوامة، في دوران عقيم حول النفس، فتوالت الديمقراطية البرلمانية والانقلابات العسكرية وكل واحدة تحمل بذور الأخرى لتُجهضها، وهكذا لم يتحقق لوطننا لا الاستقرار ولا التقدم.
تلك هي البرلمانية في بلادنا(7)، فهل يمكن الزعم أنها ستكون أداة تحويل اجتماعي جذري وثوري في وطننا? إن العناصر الانتهازية المرتدة، ستحاول نفي هذه الحقيقة وستتابع، بكل تأكيد، لعبتها الرخيصة ومناوراتها على مسرح البرلمان ووراء كواليسه.
هل يعني هذا الواقع أن على القوى الثورية أن تنفض يدها من النضال البرلماني? الجواب بالنفي طبعاً، ولم يكن غرضنا الدعوة لاعتزال النضال البرلماني، وإنما هدفنا أن نبين حدود هذا النوع من النضال وجدواه ونتائجه، لكي لا «تغرق» القوى الثورية في هذه الحمأة، وتنسى القضية الأساسية، قضية تنظيم الجماهير باعتبارها وسيلة الثورة الأساسية الحاسمة، وتكتفي باستجداء أصوات الجماهير بصورة تقليدية رخيصة، هابطة بالتالي إلى عفويتها وجوانب الضعف فيها مستسلمة لقضاياها الجزئية واليومية والضيقة. إن على القوى الثورية أن تتعلم النضال على جميع الجهات وفي جميع القطاعات، وألا تترك قوة، مها بدت صغيرة أو ثانوية، دون أن تعبئها وتحركها. يجب تجنب الثقة بالنضال البرلماني كطريق للاشتراكية، فالانتقال إليها عبر الطريق البرلماني مسدود تماماً، ولكن يجب استخدامه كشكل من أشكال النضال الثوري وكأسلوب من أساليبه، بغرض توثيق الصلات وتوسيعها مع الجماهير وفضح سياسة الطبقات الرجعية والمستثمرة وأساليبها في خداع الجماهير، أما الدخول في كواليس البرلمانات واللعب البهلواني بالمناورات البرلمانية، فهو تعبير عن انتهازية عريقة وإصلاحية مفضوحة.
بقيت كلمة أخيرة حول انعكاس هذا «الانسجام» مع اللعبة البرلمانية على الحزب نفسه: أصبح الحزب نفسه يركض نحو زيادة عدد الأصوات في المجلس. وهذا ما سبب تضخيم الكمية دون النظر بعين الاعتبار إلى النوعية، وهكذا دخل الحزب جماعات من البورجوازيين ومن الملاكين الكبار والوجهاء (ومن الطريف أن نذكر هنا أن الحزب في أحد المناطق تبنى ترشيح شخص تناوله قانون الإصلاح الزراعي) وتبعاً للدور الذي تلعبه مثل تلك العناصر، فإن السعي لتضخيم الكمية أدى إلى نقل الجماهير كما هي بعنعناتها وبالجوانب السلبية والضعيفة فيها، إلى داخل إطار الحزب دون أن يؤدي الانتقال لصفوف الحزب، إلى طرح ونفي المفاهيم الضيقة والمتخلفة لدى الجماهير، ودون أن يؤدي هذا النقل إلى صهر هذه الجماهير في بوتقة ثورية تصفي وتطرح جميع ما تحمله تلك الجماهير من تأثيرات الواقع الاقطاعي- البورجوازي، من خصائص معادية للثورة والتقدم، (وعلى سبيل المثال نذكر أن الحزب في منطقة المعرة قد انقسم على نفسه في انتخابات كانون أول 1962 وكانت أطراف هذا الانقسام هي العائلات- التي بقيت على صلاتها وعقليتها حتى بعد دخولها الحزب- التي انتسبت للحزب، وحاولت كل عائلة أن تكسب لنفسها المغانم الانتخابية، وأدى هذا الانقسام بالطبع إلى نجاح المرشح الاقطاعي).
وبالإضافة إلى هذا، فقد دخل الحزب في تحالفات غير مبدئية لإنجاح مرشحيه في الانتخابات، وهذه التحالفات قد أساءت للحزب وشوهت وجهه أمام الجماهير الشعبية.
فإذا أضفنا إلى ذلك، أن قسماً من نواب الحزب، لم يأتِ إلى البرلمان عن طريق نضالي، عن طريق قاعدة شعبية، بل أتوا إليه وفق أسلوب تقليدي، وانتهازي أحياناً، لذا كان من الطبيعي أن يكون مثل هؤلاء النواب سبباً لتعميق الروح الإصلاحية وغرس الاتجاهات الانتهازية في الحزب، وذلك لأن المصالح التقليدية التي ترسل هؤلاء إلى البرلمان ستدفعهم بالضرورة إلى اتجاه يؤمّن تلك المصالح، عن طريق مهادنة الحكم البورجوازي- الرجعي حيناً والتحالف معه والاشتراك في حكمه حيناً آخر.
…………………
الهوامش:
(5) كان السيد أكرم الحوراني أول من ابتكر هذه اللعبة في القطر السوري، وهو على ولع حميم دائم بها، ولكن في الحدود الانتهازية.
(6) المقصود أكرم الحوراني .
(7) إن موضوعات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي قد تحدثت عن احتمالات التطور السلمي للانتقال إلى الاشتراكية، ولم تُطرح هذه الموضوعة بصورة قاطعة، وبالإضافة إلى ذلك فإن النظريين السوفييت- في شروحهم لموضوعات المؤتمر المذكور- فد أشاروا بوضوح إلى أن احتمالات التطور السلمي (والبرلماني أحد اشكاله) متوفرة بصورة خاصة في البلدان الغربية المتقدمة، حيث تعيش المؤسسات البرلمانية بشكل راسخ ودائم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة التاسعة والثلاثون بعنوان: ثانياً(3)– حرية بلا مضمون اجتماعی؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”