الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في يوم المدن العالمي… “أكتوبر الحضري” والآخر “الهمجي”

سوسن جميل حسن *

ينتهي الشهر الحالي (أكتوبر/ تشرين الأول) باليوم العالمي للمدن، الذي حدّدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوم 31 منه، يختتم شهراً من مناصرة التحضّر المستدام، وهو ما يعرف بـ “أكتوبر الحضري”. وفي وقتٍ يتوقّع أن يعيش ما يقرب من 60% من الناس في المناطق الحضرية، حيث ستكون أعمار 60% من سكّان تلك المناطق الحضرية تحت سنّ 18 عاماً. ومع التقدّم المُحرَز نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لم تزل المدن، وبخاصّة في الجنوب العالمي، تكافح الفقر والتفاوت والتدهور البيئي، ما يستلزم اتّخاذ إجراءات عاجلة، بحسب الأمم المتحدة.

لكن مدن منطقتنا الموّارة بالحروب لديها، إضافة إلى ما تعاني دول الجنوب العالمي، واقع يهدّد وجودها، منذ أُعلن قيام دولة إسرائيل في المنطقة، بل هي منطقة تتعرّض للتدمير وشعبها يتعرّض للإبادة. هذا ما تفعله إسرائيل في غزّة منذ 7 أكتوبر (2023)، واليوم تمارس الأساليب نفسها في الجنوب اللبناني، وفي بيروت عاصمة الدولة ذات السيادة.

وضعت الأمم المتحدة نصب عينيها الموعد النهائي لتنفيذ 17 هدافاً متعلّقاً بالتنمية المستدامة في عام 2030. بينما بقدّم الواقع البراهين في كلّ لحظة أن العالم يبتعد عن هذه الأهداف، ويدحرج الموعد المُرتَجى. قال الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريس: “عبر مجموعة من الأهداف الحاسمة، من الفقر والجوع إلى المساواة بين الجنسين والتعليم، لا نشهد أيّ تقدّم، بل تراجعاً”. لكن، هل تمتلك مدنناً ترف التفكير في هذه المشكلات، الفقر والجوع والمساواة والتعليم، في وقت يُفترَض أن يكون الهرب من الموت هو جلّ ما تحتاج إليه اليوم أو تطمح به؟

الأهداف الأولى التي يجب تحقيقها من أجل تحقيق التحضّر عالي الجودة هي الحدّ من التلوّث للفرد، وتحسين جودة الهواء، وتطوير خدمات متّصلة وعالية الأداء في متناول الجميع. أطروحات واعدة، لكن أين منها المدن والمناطق الواقعة تحت تهديد الحروب باستمرار؟ حتى لو التفتت الأمم المتحدة إلى مشكلات شعوب المنطقة، ما هو تأثيرها الفاعل في المجتمع الدولي؟ ما هي قدرتها على التأثير في صنّاع القرار في العالم، خاصّة أميركا بجبروتها وقوتها مع حلفائها، وأولهم إسرائيل؟ … النمو يشكّل مشكلة للبلدان النامية والاقتصادات الناشئة، حتى من دون حرب، وبالنسبة لقطاع غزّة فهي واقعة تحت الحصار بين حرب وحرب. وبالتالي، فالمجموعة السكّانية التي تعيش فيها مقيّدة وغير قادرة على معالجة مشاكلها الحياتية وتحسين مستواها، وهي تفتقر إلى الوسائل المالية لتزويد الناس بمستوى معيشي معيّن. وتشمل العواقب نقصَ المساكن، التي أصبحت اليوم مدمَّرة بواقع 80%، ونقص الغذاء ومياه الشرب والكهرباء، حتى التخلّص غير الكافي من مياه الصرف الصحي وما يسبّبه من الأمراض. بل على مستوى الأفراد أيضاً، فهم يفتقرون إلى المال لعلاج أنفسهم أو العيش بمستوى معيّن. هذه المشاكل نفسها يعاني منها كثير من المدن اللبنانية بسبب أزمته الممّتدة، يضاف إليها اليوم النزوح الكبير والمفاجئ وما جرّ معه من تحدّيات بالنسبة إلى الحكومة اللبنانية والمجتمع المحلّي، كيف السبيل إلى استيعابه؟

مشكلة المناخ والتلوث البيئي عالمية تهدد البشرية. هذا معروف، لكن العالم مقسوم بين عالمَي الشمال الصناعي القوي المتحضّر والجنوب الفقير المنتهك الغارق في مشكلاته المتفاقمة. ولكلّ منهما قضاياه الرئيسة، ومشكلاته البعيدة من مشكلات الآخر. أمّا الحروب فهي من أكثر العوامل التي تتهدّد المناخ والبشرية، ومن أكثر العوامل المساهمة في الانبعاثات الغازية، فهي تقتل الأرواح، حتى بعيداً من مسرح الحرب، وبعد فترة طويلة من نهاية الحرب. تساهم الحروب في تغير المناخ، وبالتالي تتسبّب بشكل غير مباشر في وفاة الناس في جميع أنحاء العالم بسبب الإجهاد الحراري ونقص المياه والفيضانات وسوء التغذية وزيادة الأمراض. فمثلاً، وفقاً لدراسة لينارت دي كليرك وحساباته، وهو خبير في تجنّب الغازات الدفيئة، تسبّبت الأشهر السبعة الأولى من حرب أوكرانيا في انبعاثات 82.8 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (CO2-e)، ما يقرب من ضعف الانبعاثات التي تسبّبت فيها دولة كالنمسا في الفترة نفسها. من الطبيعي أن هذه الدراسة والحسابات لا تهتمّ بما تسبب الحرب في غزّة ولبنان، إذ حتى على الصعيد العالمي هناك تصنيف طبقي للشعوب، ولا تحظى شعوبنا بالاهتمام نفسه، أو أقلّ منه بكثير، والدليل أن هذا الموت كلّه الواقع والدمار الكبير لم يغيّر شيئاً له أهمّية في قرار الدول الكبرى، ولن يغيّر في السعي الدائم لشن الحروب من قبلها، على الرغم ممّا تحدث من تغيير في البيئة وتأثير في المناخ، حتى لو قدّمت الدراسات بالأرقام ما تُحدِث في هذا المضمار، كما في دراسة أجراها الباحثان ستيوارت باركنسون ولينسي كوتريل، تقول إن 5.5% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية من المحتمل أن تعزى إلى الصناعات العسكرية والعالمية والدفاعية. كما أن وزارة الدفاع الأميركية هي أكبر مستهلك للنفط في العالم، وأكبر باعث لغازات الدفيئة، بحسب دراسة نشرتها نيتا سي كروفورد، التي تشغل كرسي العلوم السياسية في جامعة بوسطن، عام 2019 تحت عنوان: “استخدام وقود البنتاغون وتغير المناخ وتكاليف الحرب”. ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن أميركا تساهم بكمية انبعاث غازي مدمّر للبيئة بمقدار مليار طن من الغازات سنوياً، هذا إذا استثنينا الحروب التي تشنّها أو تحرّض عليها، أو تديرها بالوكالة.

أما التأثير المباشر في بيئة المجتمعات التي تعيش في حالة الحرب، كما في غزّة ولبنان اليوم، وقبلهما في سورية، فإن الغطاء النباتي يشكّل هدفاً، كما تحوّل إسرائيل مناطقَ واسعةَ مناطقَ محروقةً، فتقضي على الغطاء النباتي فيها، وعندما تدمّر الحرب البنية التحتية والأسواق، غالبا ما يلجأ الناس إلى أنواع وقود أكثر ضرراً، مثل الخشب أو الفحم للتدفئة والطهي، ممّا يعزّز إزالة الغابات. لقد دمّرت الحرب في سورية صناعة النفط هناك. في مناطق الحكم الذاتي في شمال شرق سورية يُعالج النفط الخام إلى بنزين وديزل بوسائل بدائية للغاية، ممّا يؤدي إلى ارتفاع الانبعاثات وتلوّث الهواء الشديد. وعندما تنهار الحكومات وهياكل الدولة أو تضعف، نتيجة للصراعات، فإن احتمال عدم مشاركة الدول المتضرّرة في العمليات الدولية للحدّ من تغيّر المناخ أمر طبيعي ومتوقّع، على الرغم من حقيقة أنهم معرضون بشكل خاص، ليس لعواقب تغير المناخ الذي يشمل الكوكب كلّه فحسب، إنّما لأخطار الحروب التي تصنع واقعاً مستداماً من التراجع في مجالات الحياة كلّها. وبالتالي فإنّ المناسبات التي ترصد لها الأمم المتحدة أياماً في كلّ عام، من أجل تعزيز مفاهيم معيّنة، وخلق واقع مستدام، كالمدن المستدامة التي تحرص على دعمها، لا تكترث بهذه المناطق من العالم التي تشهد نزاعات، هي الأخرى مستدامة، وتؤدّي إلى هذا الخراب كلّه، بل إن الاحتفال بيوم المدن يدرج في فعاليته تعريفاً بتاريخ المدن، فهل هناك مكان لمدننا العريقة التي تُدمَّر في هذه الحرب الهمجية على خريطة ضمير العالم؟ غزّة، صور، بيروت، وقبلها مدن سورية، وغيرها، على الرغم من تاريخيتها؟

في “أكتوبر الحضري”، الذي ينشط فيه العالم من أجل التوعية بأهمّية المدن والأهداف الرامية إلى تعزيز التنمية المستدامة وسبل تحقيقها، بدأت إسرائيل بأكتوبر آخر، ممتدّ منذ عام، أكتوبر الجحيم، ما فتئت تبيد وتبيد، صار قطاع غزّة أرضاً محروقة غير صالحة للحياة، مدنه مُدمَّرةً، ساكنوه يهيمون على وجوههم هلعين مثل خلية نحل محصورة في زجاجة، لا مخرج، لا مهرب، لا منفذ نحو الهواء والحياة، كيفما ولّوا وجوههم تحصدهم آلة القتل الوحشية، وفي أكتوبر تمادت الحرب على لبنان بجنوبه، وبمناطقه كلّها، التي لا توفّر إسرائيل واحدة منها، والحرب مفتوحة على احتمالات التوسّع في المنطقة، وتدمير مدن أخرى وإبادة جماعات أخرى، والعالم كلّه لا يملك (إن أراد) أيّ وسيلة لكبح جماح إسرائيل، فكيف وهو لا يملك هذه النيّة؟ … إسرائيل التي تسفّه الأمين العام للأمم المتحدة، وتمنعه من الدخول إليها، اعتادت أن تكون فوق المحاسبة، لذلك فإن “أكتوبر الحضري” هو في الواقع “أكتوبر الهمجي” الذي تفرضه إسرائيل بكلّ جبروت وعنجهية على مدن القطاع والجنوب اللبناني، والقائمة مفتوحة.

* كاتبة وروائية سورية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.