الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

التغريبة الجديدة لشيعة لُبنان

دلال البزري *

نتكلم هنا عن طائفة ضمن نظام لبنان الطائفي. فوصف حال مجموعة لُبنانية ذات هُويَّة محدَّدة لا يصلح من دون تحديد طائفتها. خارج الطوائف، الكيانات كلّها بلا هُويَّة، بلا ثقل، بلا دور.

شيعة لُبنان في الحرب الجارية: إسرائيل سلختهم عن أرضهم، في الجنوب وشمال البقاع والضاحية الجنوبية. هذه البقاع من لُبنان يعيشون فيها، وأحياناً منها، بالزراعة. الآن، أكثر هذه الأرض سوّيت بالأرض، صارت صحراءَ قاحلةً، خراباً، وعلينا ابتلاع كذبة بنيامين نتنياهو في خطابه الموجّه إليهم: “عندما تنتهي عمليتنا، يمكنكم العودة إلى أرضكم بأمان”. إسرائيل لم تعف حجراً، المباني كلّها سواسية عندها، الأمكنة؛ منازل، مساجد، محالّ، أشجار زيتون، مجامع تبغ، ساحات عامّة، أسواق (سوق النبطية العريق، ومبنى بلديتها)، مشاريع تنمية (مشروع ريّ القاسمية على الليطاني)، بلدات بأكملها (تفجير بلدة محيْبيب، حيث مقام النبي بنيامين بن يعقوب). حتّى هذه اللحظة، الحجر على الحجر في هذه المناطق، والأمكنة صارت نادرةً. الأيام الباقية مرشّحة لأن تقضي عليها نهائياً، ويكون القول المأثور “لم يبقَ حجرٌ على حجر”، في مناطق الشيعة.

عدد الشهداء والجرحى من بين أبناء هذه الطائفة هو الأكثر فداحة، ربّما بالمطلق. أولهم قياداتهم الأعلى والمتوسّطة وربّما الأدنى، سلكت طريقها نحو الاستشهاد. وآخرهم آلاف من الشباب الجرحى والمعاقين، وهذه “الأضرار” في طريقها إلى الزيادة. ولكن ما يسمّى بـ”الأضرار الجانبية” هي الأعلى إيلاماً، والأقلّ مرئيةً، إذ تضيع الأسماء بين الأرقام المهولة. والسيناريو المكرّر التالي، بعدما تكون إسرائيل أنذرتهم بالخروج من قراهم، ونزوحهم إلى مراكز إيواء، أو شقق سكنية. إسرائيل تقصف المركز أو الشقّة للنيل من واحد، من عنصر، من مسؤول في حزب الله، ومعه عشرات القتلى من النازحين يسقطون، وذنبهم أنّ أحد الموجودين معهم من عناصر الحزب.

أحياناً، تعلن إسرائيل اسم الذي نالت منه، مثل تدمير مبنى في أيطو (زغرتا)، وأحيانا أخرى لا تعلن، مثل قصف مركز إيواء عين الدلب. وفي المجزرتَين كانت أعداد النازحين لا ينتبه لها أحد، لأنّه منشغل بالمستهدَف من الضربة.

والإنذارات الإسرائيلية بإخلاء المباني مقدّمةً للقصف صارت تختلف ولا تعرف لها منطقاً. إنذارات للأهالي بترك قراهم، وعندما يصعدون، ويظنّون أنّهم استقرّوا برهةً، تصل إليهم إنذارات جديدة، يتبعها قصف، أو لا يتبعها، فيختلط الإنذار الكاذب بالصادق، ما سمح لسُمجاء لُبنانيين وإسرائيليين بإطلاق إنذارات يميناً وشمالاً، وفي مناطق “آمنة”، تصيب أهلها بالهلع فيخلون بيوتهم، ولا تحصل الضربة.

وفي الأحوال كلّها، إذا أحصيتَ عدد شهداء هذه الحرب فسيتصدّرهم الشيعة، مقاتلين، مدنيين، نساء، أطفالاً، شيوخاً. والقتل مستمرّ. وها هم الآن شيعة لُبنان منثورين في الريح. قُتِل زعيمهم، رمزهم وصانع أحلامهم، انتُزعت منهم أرضهم، وبيوتهم وأرزاقهم، أوراقهم الثبوتية، وحاجياتهم اليومية. وهم في حالة العراء الوجودي، أغنياء فقراء متوسّطو الحال، هائمون على وجوههم، يحملون ثقل الخسارات الفادحة. من تمكَّن منهم الخروج من لُبنان، ومن لم يتمكّن، قلبه على كفّه، خسارته تاريخية.

وهم على هذه الحال، يتبرّع الإسرائيليون بتأكيد مزيد من هُويَّتهم الطائفية. نتنياهو يضرب بالسيف اللُبناني، ويقول في رسالة موجّهة إلينا: “أمام اللُبنانيين أن يختاروا بين الحرب الأهلية والحرب الإسرائيلية والاجتياح”. الأقلّ منه رتبةً، ناطقون رسميون باسم حكومته، دانيال هاغاري وأفيخاي أدرعي، لا يعلكون كلامهم. إنّهم يستهدفون الشيعة، القرى الشيعية، الأفراد الشيعة. عن “الشيعة الإيرانيين” قرأوا كثيراً، يتباهون. والآن يعلمون أنّهم يشكّلون “خطراً على لُبنان”.

يستهدفون الشيعة، كأنّهم يطاردونهم، جنوباً وشرقاً، إلى حيث يلجأون، حتّى يعي أصحاب القلوب الطيّبة من الذين استقبلوهم في مناطقهم أنّهم أصبحوا أهدافاً شرعيةً للقتل.

كيف استقبلنا شيعة لُبنان في محنتهم هذه؟ … بكلام معسول وإنشاءات عن ضرورة التحلّي بالروح الوطنية العالية، باستقبال النازحين، بتوفير مستلزمات إيوائهم، بأنّ الشيعة إخوة لنا في الوطن، وبأنّ علينا تجنّب الحرب الأهلية، وبأنّ علينا حماية شيعة لُبنان. كلام معسول يختلط بالمسموم، مثل ذاك التحذير لأحد السياسيين اللبنانيين (جبران باسيل)، بأنّ على لُبنان التضامن مع الشيعة، “وإلا يتحول لُبنان ساحةً مفتوحة لليمنيين والعراقيين والسوريين والإيرانيين والأفغان والباكستانيين، وكل شيعة العالم سيحضرون إلى هنا وسيقاتلون. ولُبنان ليس أرضاً للجهاد”. لنتابع الآن رحلة أولئك الشيعة الهاربين المنثورين في الهواء. النازحون منهم، وهم يسعون بحثاً عن مأوى، عن شقّة تأويهم، أخرجوا شياطين الفوبيا “الطائفية” كلّها، أي الرعب من طائفة من الطوائف. وهو رعب عريق، فهذه شياطين لم تمت يوماً، ولا كانت تنام. واليوم هي مصوّبة بوجه الشيعة.

الكلمات التالية هي حصيلة تجارب فردية مع باحثين عن سكن من الطائفة الشيعية خارج أرضهم، غير ما تنشره الصحافة: “لا لا نؤجّر. لا يمكن أن يتحوّل حيّنا ضاحيةً جنوبية”. “قمنا بما يلزم لكي يمتنع أصحاب الشقق الخالية عن تأجير بيوتهم، مهما كان الثمن”. “وجودهم بيننا مثل وجود قنبلة موقوتة”. “لن نساعد لاجئين من حرب لم نكن نريدها ولا تخصنا”. “كيف لنا أن نعلم أنّ لا جود لكادر من حزب الله بيننا؟”… إلخ.

وعلى أثر كلّ ضربة تطاول هدفاً لحزب الله، أو تعلنه كذلك، فتدمّر مبنىً، أو منزلاً يقع خارج المناطق الشيعية، مثل العاصمة، أو الجبل أو الشمال، تخرج مزيد من إجراءات جماعية لمنعهم من السكن في هذه الأحياء. البلديات خصوصاً، تنضمّ الواحدة إلى الأخرى للتعميم على السكّان بعدم استقبال أيّ نازح شيعي. نادرون جدّاً من يأخذون على عاتقهم تأجير شققهم لنازحين شيعة. مثل هذا الملّاك الذي يُطرح عليه سؤال مستغرب “كيف تؤجّر لشيعة؟”، فيجيب: “لا ليسوا من حزب الله. إنّهم فقراء، لدينا أسماؤهم وأسماء قراهم، ونعرفهم قبل الحرب”.

والمخاوف من هذه الطائفة (بعضها حقيقي) من أنّ تأجير مبنىً لشيعي قد يؤدّي إلى تصويب إسرائيلي عليه. وخوف آخر، من صميم ثقافتنا الطائفية من أن يؤدّي هذا الوجود الشيعي، في مناطق غير شيعية، إلى انكسار التوازن الديموغرافي. كأن يكون سكّانها أصلاً من غير الشيعة، ومع النزوح يصبح سكّانها من الشيعة، أو غالبيتهم، حسب درجة المخاوف. ويذكِّر هذا النوع من الأسباب (الواقعية والمتخيّلة) بما كان يُروَّج عن اللاجئين السوريين في لُبنان من رفض بلدات بعينها استقبالهم، بتحديد ساعات تجوّلهم، بالاعتداء المسلّح على خيمهم، بإجبارهم على إخلاءات عشوائية، بتحميلهم المصائب أمنيةً واقتصادية و… إلخ، ولأسباب متشابهة: السوريون يشكّلون قنبلةً أمنيةً، فغالبيتهم من “السنّة الدواعش”. وثانياً، هم لكثرة ما ينجبون سوف ينقلب الميزان الديموغرافي لصالحهم، وتتحوّل الأحياء أو المناطق المضيفة “سورية سنّية”.

إنّها تغريبة الشيعة اللُبنانيين الثانية، بعد الأولى في ماضيهم وعلاقتهم بالكيان اللُبناني. وهذه المرّة أكثر شدّة من التغريبة الأولى. خرجت منهم طاقات خلّاقة ومبدعون، والأكثر تحرّراً من بين الطوائف الأخرى. كانوا طائفةً واعدةً. والآن هم طائفة منثورة بعيداً وقريباً، بلا نقاط جاذبية تحميهم من فوضى محيطهم، ومن الذئاب التي تترقّبهم في مفترق الطريق، بعدما كانت تعتاش على كتف الحزب، ممثّلهم.

لُبنان القادم، أو لُبنان بعد هذه الحرب، لن يكون بخير. هو الغائص الآن في انكسار طائفة كبيرة، وفي رصد هذا الانكسار وتثميره، وسط وُحُول الفوضى والفراغ والاحتلال.

* كاتبة وباحثة لبنانية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.