الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الغرب والعرب: لرئيس يقود الثّلاثيّ لانتزاع وقف الحرب

وليد شقير *

يتصرّف العديد من عواصم القرار، في مقدَّمها واشنطن، على أنّ وقف النار في لبنان لم يَحُن وقته بعد. المداولات التي جرت في الأسابيع الماضية عزّزت هذا الاستنتاج لأنّ الحرب الإسرائيلية على لبنان والحزب لم تنهِ الهدف من ورائها. كما أنّ طهران لم تنتقل إلى التسليم بوضع حدّ لاعتماد الحزب خطّ الدفاع الأوّل عنها في المواجهة المباشرة مع إسرائيل وأميركا.

المفاوضات حول وقف النار في لبنان في بداياتها، بالتزامن مع مواصلة إسرائيل حرب تجريد الحزب من القدرة العسكرية. المطالب التي تطرحها تل أبيب عالية السقف لإخضاع لبنان لشروطها الأمنيّة. وهل يمكن أن يبلغ طموح إسرائيل تحويل لبنان من ميدان نفوذ لطهران إلى ساحة مُستباحة لها؟ لا توحي الشروط الإسرائيلية إلا بصعوبة وقف الحرب. وهذا ما غيّر أولويات الجهود الدولية بحيث صار انتخاب رئيس للجمهورية في مقدَّمها، تمهيداً للتفاوض على وقف النار.

قبل المحادثات التي أجراها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين في بيروت أمس، تسرّبت معطيات عن مطالب إسرائيل عبر موقع “أكسيوس”. من نافل القول أنّ ما تضمّنته من إعطاء إسرائيل حرّية الحركة العسكرية على الأرض وفي الجوّ في جنوب لبنان مرفوض لبنانياً.

مطالب إسرائيل بين “17 أيّار” والـ1701:

فضلاً عن أنّ الأفكار الإسرائيلية تنسف بالكامل القرار الدولي 1701، فإنّها تعيد لبنان إلى مرحلة الغرور الإسرائيلي لاتفاق 17 أيار/ مايو 1983. الأرجح أنّ أميركا ليست في هذا الوارد لمعرفتها بأنّ المعادلة اللبنانية الإقليمية أسقطت هذا الاتفاق نظراً إلى الامتيازات التي فرضها، ومنها القدر من حرّية الحركة في جنوب لبنان الذي أعطاه للدولة العبرية.

هناك اختلاف جذري بين ظروف اجتياح عام 1982 وبين ظروف الحرب الراهنة، دولياً وإقليمياً ولبنانياً، يحوّل دون فرض إسرائيل شروطها:

  • في ذلك الحين حصلت إسرائيل على غطاء دولي لإخراج الفصائل الفلسطينية المسلّحة من لبنان. بينما المطروح اليوم لا يزيد على تغطية معالجة ذيول عملية طوفان الأقصى على الأمن الإسرائيلي من جهة، وتقليم أظافر إيران في الإقليم من جهة أخرى.
  • في ثمانينيات القرن الماضي كانت مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من لبنان ناشئة وطريّة العود، بينما هي الآن قادرة على “إيلام إسرائيل”. هذا على الرغم من الضربات الاستراتيجية التي تلقّاها الحزب.
  • في عام 1982 تولّت قوات متعدّدة الجنسيات، لا سيما أميركية وفرنسية، الانتشار لتأمين الانسحاب الإسرائيلي، بينما المطروح راهناً تنفيذ القرار 1701. وهذا يعني تعزيز قوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني كي يتولّيا الترتيبات الأمنية وليس إسرائيل. وتتفادى الدول الكبرى الوجود على الأرض نظراً إلى مخاطر ذلك، لأنّ التعرّض لها سيقود إلى توسيع الحرب، وهو ما ترفض الدول الكبرى استدراجها إليه.
  • الدول الغربية تساند إنهاء هيمنة سلاح الحزب على قرار الحرب والسلم، تحت عنوان سيادة لبنان، وبالتالي يصعب قبولها المكشوف بمسّ إسرائيل بهذه السيادة.

دور إيران في التّفاوض:

هناك عامل إقليمي جوهري دخل على خطّ الصراع الدائر هو النفوذ الإيراني. وعلى الرغم من نجاح أميركا وإسرائيل في وضع طهران في موقع الدفاع بدل الهجوم عبر أذرعها، فإنّها أحد أطراف التفاوض، تماماً كما هي أحد أطراف الصراع السياسي والعسكري على امتداد المنطقة، الذي جرى إضعافه لا إنهاؤه.

يمكن التوسّع كثيراً في تعداد الظروف التي تجعل من الترتيبات التي سينتجها التفاوض على وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان مختلفة. حتى الجانب الإسرائيلي ترك مجالاً للتراجع عن السقف العالي لمطالبه. فحسب “أكسيوس” أبلغت تل أبيب واشنطن حين سلّمتها هذه المطالب قبل مجيء هوكستين بصيغة التراجع عن مطالبها. والرسالة من خلف هذه المطالب هي: “بقدر ما تقوم “اليونيفيل” والجيش اللبناني بجهود أكبر بقدر ما يقوم الجيش الإسرائيلي بنشاط أقلّ”.

سقف الاجتماع الثّلاثيّ:

في هذا السياق أوضح مصدر سياسي لبناني رفيع لـ”أساس” أنّ جهود وقف الحرب ما زالت تواجه عراقيل جرّاء تشابك مواضيعه وعناوينه بفعل استمرار الحرب على جبهات غزة، لبنان، سوريا والبحر الأحمر. والتفاوض حول لبنان يحتاج إلى صيغة سياسية لبنانية داخلية تدير مرحلة التفاوض وتداعيات توسّع العدوان الإسرائيلي على أراضيه.

يقول المصدر إنّ تقدّم خطوة انتخاب الرئيس على وقف النار يعود إلى الحاجة إلى تركيبة تعكس المتغيّرات التي أصابت التحكّم الإيراني بالقرار. ومقدّمات هذه المتغيّرات ظهرت عبر مؤشّرات عدّة:

  • اتفاق الاجتماع الثلاثي بين رئيسَي البرلمان والحكومة نبيه بري ونجيب ميقاتي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط على فصل لبنان عن غزة. فقد شكّل ذلك أوّل تراجع من الحزب ما دام هو أعلن تفويض “الأخ الأكبر” برّي.
  • الاتفاق الضمني بين الثلاثة على عدم ربط انتخاب رئيس الجمهورية بوقف النار.
  • وضع الثلاثي أسس التفاوض على وقف النار وسقفه التزام تطبيق القرار 1701.

رئيس المعادلة الجديدة للتّفاوض:

لم يأتِ تقديم انتخاب رئيس على وقف النار من فراغ. فالدول الغربية والعربية المعنية بأزمة لبنان الداخلية ومع إسرائيل اتفقت على هذا المنحى. ذهب بعضها إلى حدّ أنّه أُسِرَّ إلى الفرقاء اللبنانيين بأنّ المرشّح الأفضل للمرحلة المقبلة هو قائد الجيش العماد جوزف عون. بعضهم امتعض مثل رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، والبعض الآخر تهيّأ للتأقلم مثل المرشّح سليمان فرنجية… والبعض الآخر آثر الصمت لتحفّظه الضمني والعلني مثل “الثنائي الشيعي”. إذ اعتبر الرئيس برّي أنّ انتخابه دونه توفير 86 صوتاً له.

أقطاب كبار التقوا مع ممثّلي الدول الغربية انتهوا إلى الاستنتاجات الآتية:

  • في ظلّ تعذّر وقف النار قريباً، ولأنّ أهداف الحرب تحتاج إلى المزيد من الوقت كي تظهر، يؤدّي انتخاب رئيس للجمهورية إلى توسّع اللقاء الثلاثي بين بري وميقاتي وجنبلاط ليضمّ الضلع المسيحي. لذلك لا بدّ من إنهاء الفراغ الرئاسي ولو تحت النار.
  • لا يقود انتخاب الرئيس إلى تشكيل حكومة سريعاً، لأنّ الخلافات على الحصص فيها وشكلها ونسب التمثيل وحجم الحزب ستؤخّرها. وهناك خشية من العودة إلى فراغ حكومي طويل كما هي العادة، حيث سيسعى الحزب إلى الحصول على دور مرجّح فيها يؤدّي إلى شلل قراراتها. وعليه الأفضل بقاء حكومة تصريف الأعمال إلى حين نهاية الحرب واتضاح المعادلة الجديدة، والدخول في مرحلة مختلفة لإدارة البلد، أي أنّ حكومة ميقاتي تستمرّ في معالجة تداعيات الحرب والتصدّي للمآسي الإنسانية التي نجمت عنها.

الثّلاثيّ يتحوّل رباعيّاً للتّفاوض.. وتمتين الـ1701:

  • بانتخاب رئيس يتحوّل اللقاء الثلاثي إلى رباعي يدير المفاوضات حول إنهاء الحرب ووقف النار والتزام ترتيبات تنفيذ الـ1701. يصبح القرار السياسي منوطاً بالرباعي بدلاً من أن تخضع الحكومة لشتّى أنواع التجاذب جرّاء تعدّد التيارات، والولاءات الخارجية. ولم يكن عن عبث رفض ميقاتي التدخّل في شؤون لبنان والتفاوض على القرار الدولي، ردّاً على رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف.
  • فالحديث عن تعديل القرار 1701 مبالغ به، جرّاء قول هوكستين إنّ التزام تطبيقه لم يعد يكفي. يقول المصدر السياسي الرفيع لـ”أساس” إنّ المقصود هو تمتين قدرة الجيش و”اليونيفيل” على تنفيذ أحكام القرار. وهذا يمكن استخلاصه من تقارير الأمين العام للأمم المتحدة حول خروقات إسرائيل والحزب لها من جهة، ومن الاقتراحات التي كانت تطرح في السنوات الأخيرة في قرارات التجديد لـ”اليونيفيل” من جهة أخرى. فهذه الاقتراحات التي جرى إحباطها، تناولت حرّية حركة القوات الدولية من دون قيود.
  • تعتبِر الدول الغربية والعربية وبعض القيادات اللبنانية أنّ تقديم انتخاب الرئيس “بداية” انطلاقة لاستعادة المؤسّسات اللبنانية انتظامها. فالأخيرة تفكّكت وشُلّت جرّاء التأزّم السياسي والتدخّلات الإيرانية. وبالتالي يصير وجود الرئيس إثباتاً لاستعداد الطيف السياسي للتعاطي بجدّية مع تهيّؤ الخارج لمساعدة البلد على النهوض وإعادة الإعمار، أي أنّ انتخاب الرئيس وهويّته يُطلقان التغيير في تركيبة السلطة، ويدفعان بعملية تعزيز إمكانات الجيش للعب دوره المقبل في الجنوب، إلى الأمام. وهذا يُسرّع الضغوط لوقف النار.

من استمعوا إلى الفلسفة التي تبرّر أولوية انتخاب الرئيس على وقف النار، يشيروا إلى أنّه إضافة إلى أنّ إنهاء الحرب سيأخذ وقتاً، فإنّ مخرج انتخاب الرئيس أوّلاً يحتاج بدوره إلى تمهيدات، منها الحاجة أيضاً إلى تسهيل إيراني للعملية.

هذه التمهيدات وفق التسلسل المذكور أعلاه، والذي يفترضه تقديم انتخاب الرئيس على وقف النار، تحتاج لتحقيقها إلى إخراج في اللجنة الخماسية للدول المعنية بإنهاء الفراغ الرئاسي. فالرؤية الأميركية في هذا الشأن، يؤيدها بعض الدول الغربية والعربية وليس كلها. ودول الخماسية تنتظر أن يطلعها هوكستين على نتائج مداولاته في بيروت وردة فعل الرئيس بري حيالها. وأول من يُفترض اطلاعه عليها الموفد الرئاسي الفرنسي “جان إيف لودريان” الذي يتولى التنسيق مع هوكستين. فبناءً على المعطيات التي يخلص إليها الأخير قد تجتمع الخماسية على مستوى أعلى من السفراء هذه المرة.

* كاتب صحفي لبناني

المصدر: أساس ميديا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.