بسام يوسف *
في “فيديو” قصير يصور مظاهرة للاجئين لبنانيين إلى سوريا، وفي مدينة “حمص” تحديداً، يمكن سماع هتافات وشعارات مُتحدّية ومُستفزّة يطلقها اللاجئون المتظاهرون ضد سكان المنطقة التي لجؤوا إليها.
وفي “بيروت” أيضاً، نشاهد “فيديو” مشابهاً، إذ يقوم لاجئون باستعمال العنف ضد سكان منطقة لجؤوا إليها داخل بيروت. يبدو الفعل غريباً وصادماً، لكن ما هو أهم من الغرابة والصدمة هو السؤال عن الأسباب التي تدفع لهذا السلوك؟
عرفت الثورة السورية الكثير من الحوادث المشابهة، إن لم يكن بتفاصيلها فهو كامن في جوهرها، وبتحديد أكثر في طريقة فهم طرف ما لعلاقته بالطرف الآخر. فما الذي يفسر أن يقوم هاربون من الموت بتحدي البيئة التي لجؤوا إليها؟ وما الذي يدفع شخصاً ما إلى فعل ما يقول إنه يقاتل كي يمنع فعله؟ يبدو الأمر مثل أحجية غير قابلة للحل، وغالباً ما يقود البحث إلى حضور المقدس كحافز رئيسي لتصرف يبدو متناقضاً مع منطق العلاقات العادية.
لا تشكل القيم التي تتبارى كل الأطراف في تبنيها، واعتبارها قيمها الأساسية، معياراً حقيقياً لفهم هذه الأطراف أو لفهم سلوكها. فالانتصار مثلاً لحق الشعب الفلسطيني ضد المحتل الإسرائيلي لا يمنع المناصرين من احتلال أرض وممتلكات الآخرين، ووقوفهم ضد الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون لا يمنعهم من ظلم آخرين، حتى لو كان الآخرون شركاء لهم في الوطن، وحتى لو كانوا يتقاسمون الحي أو البناء منذ زمن طويل.
بعيداً عن الحرب أو اللجوء، يمكننا أن نتلمس هذا التفارق بين السلوك وبين القيم المتبناة نظرياً في معظم شرائح المجتمع، حتى تلك التي تصنف ثقافياً ودينياً وسياسياً، وهو تفارق أقرب إلى الفصام. فتعدد الأوجه للشخصية الواحدة يكاد يكون سمة عامة، وهذا ما يشكل الميدان الأهم لمعركة وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، حيث تدار معركة تفتيت المجتمع بضراوة.
لا تقل المعركة الإعلامية عبر وسائل الإعلام أو معركة التشاتم والاتهام والتخوين عبر شبكات التواصل الاجتماعي الدائرة حول ما تشهده المنطقة اليوم ضراوة عن المعركة العسكرية، وربما يمكن القول إن ما سوف يترتب على هذه المعركة من نتائج قد يتفوق في خطورته أيضاً. والتشظي المتواصل والمتصاعد داخل المجتمعات التي تعيش في هذه المنطقة يطرح السؤال العميق حول صيغة العلاقة مستقبلاً بين مكونات متناحرة متناقضة تجمعها الجغرافيا ويفرقها التاريخ.
إذا كان للمؤسسات الإعلامية ارتباطاتها وأجنداتها وأهدافها السياسية المرتبطة بجهة ما، فإن السؤال عن مصلحة القسم الأعظم ممن يخوضون معاركهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وليس لهم أي هدف مما سبق. وهم في معظمهم يمثلون عصبياتهم أو رؤاهم الخاصة، ومع هذا فإن المعركة بينهم أشدّ من معارك جهات الإعلام التي تحتكم مضطرة إلى مهنية ومسؤولية قانونية لا يمكن تجاهلها، بينما تغيب هذه المسؤولية عن الأفراد المتصارعين على وسائل التواصل إلى حد كبير.
ذهب عدد كبير من علماء الاجتماع السياسي عند تصنيفهم لقوة أي مجتمع إلى إعطاء الأهمية الأولى للروابط المشتركة التي تربط الأفراد والجماعات في عيشهم المشترك داخل المجتمع الواحد، ومدى قوة ومتانة هذه الروابط. وذهبوا إلى اعتبار أنّ المجتمعات الهشّة هي بالدرجة الأولى تلك التي تعاني فجوات كثيرة أو تمزقات في نسيجها الاجتماعي والثقافي المشترك.
ووفق هذا التصنيف، فإن ما نشهده اليوم يشير بوضوح إلى هشاشة بالغة في بنية مجتمعاتنا. وهذا ما يجيب عن سؤال: لماذا تختزن هذه المجتمعات كمّاً هائلاً من العنف؟ ولماذا تكون عرضة للانفجار دائماً؟!
بالتأكيد، هناك أسباب كثيرة لهذه الهشاشة، ولعل قراءة التاريخ بدلالة المقدس المتناحر من الأسباب المهمة. ويشكل بيئة رائعة لإضعاف هذه المجتمعات، إلا أن عدم قيام الدولة الحقيقية، أو عدم رسوخها، وغياب السياسة بوصفها الحقل الأساسي في إدارة الاختلافات في أي مجتمع، قد يكون العامل الأهم في هذه الهشاشة. وبالتأكيد أيضاً، فإن إضعاف هذه المجتمعات والإبقاء على هشاشتها خطط له وكان متعمداً في قسم كبير منه، فغياب الدولة والسياسة لم يكن صدفة، أو بحكم الظروف الموضوعية فقط. ولم يكن حكم النظم السياسية الديكتاتورية التي تتالت على هذه المجتمعات، والتي شكّل القمع ومنع الحريات جوهرها ومبرر وجودها، صدفة أيضاً. فهذه البلاد التي لم تحكم منذ زمن طويل سوى بالقمع وبالسلطات المطلقة وبالأيديولوجيات ستكون هشة بالتأكيد.
في هذه الازدواجية القاتلة، أي في التفارق بين القيمة الأخلاقية المعلنة وبين ممارستها، ثمة مقدس يتيح للمقارنة الموضوعية ألا تمضي إلى نهايتها المنطقية. بل ثمة ما هو أخطر من قطع هذه المقارنة، إنه خلق إمكانية تبرير تبني نقيض هذه القيمة، أو الحق أو المنطق.
الباحث وعالم الاجتماع الكندي “ريموند بريتون”، وبوصفه واحداً من علماء الاجتماع البارزين، يقدم ما قد يساعدنا في فهم عمق الأزمة التي تتمثل في هشاشة مجتمعاتنا، وطرق الخروج منها. ولعلّ كتابه “النسيج الاجتماعي الهش” الذي ألّفه مع مجموعة من الباحثين قد يفسر إلى حد ما طبيعة وبنية المجتمعات الهشّة في منطقتنا.
يطرح بريتون خمسة مظاهر للتفكك في المجتمعات الهشّة، وهي:
- التحوّل من تبادل الحقوق والواجبات كصيغة للعلاقة الطبيعية في المجتمعات المعافاة، إلى التوجهات الأنانية التي تتجاوز حقوق الآخرين.
- فساد كل مستويات التنظيم الاجتماعي.
- تخلي الأفراد عن شبكات الروابط الاجتماعية، والدخول في علاقات جديدة ضعيفة وسطحية.
- انتشار العنف بطريقة وبائية، فيما يشبه الجائحة، وبصورة بالغة القسوة، مع سهولة ارتكاب الجريمة، وصعوبة الكشف عنها.
- ظهور أعراض اضطراب عقلي، تتمثل في تعاطي المخدرات، والكحوليات، والممارسات الجنسية المصاحبة للإدمان، وممارسات العنف اللفظي والبدني، وحالات اليأس الشديدة المرتبطة بما يسمى “فقدان المعايير” أو القنوط.
أيضاً، يطرح “بريتون” في كتابه فكرة مهمة يمكن تكثيفها بأنّ المجتمع الهشّ هو المجتمع الذي تتراجع فيه مستويات التضامن بين الأفراد والجماعات إلى مستويات متدنية جداً. ويعزو “بريتون” وفريقه ضعفَ هذه الروابط المجتمعية إلى جملة من العوامل، لعلّ أهمّها هو تعدد الثقافات المتناحرة أو العنصرية، أو وجود تصنيفات اجتماعية متصادمة، أو انعدام المساواة في المجتمع، أو تهميش فئات واسعة، وغياب الثقة بين السلطة والمجتمع، أو بين جماعات من هذا المجتمع مع جماعات أخرى أو مع السلطة. وهذا ما تتسبب به هشاشة الدولة، أي عدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الاجتماعية، وضعف مؤسساتها، مما يؤدي إلى تخبط سياساتها، وفشلها في تحقيق استقرار المجتمع بأي صيغة من صيغه، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
هل بلغت هشاشتنا حدّ أن نقتتل فيما بيننا في اللحظة ذاتها التي يهدد فيها عدونا وجودنا؟!
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا