أحمد جاسم الحسين *
انكسار ثورة السوريين ومرور ملفّهم بحالة سبات وإهمال دولي وحجم الخسائر والمآلات جعل كثيرين منهم يمرون بحالة نفسية صعبة، أقرب إلى مرحلة اليأس والشعور باللاجدوى، ومعلوم أن هذه المرحلة النفسية الصعبة، على مستوى الفرد والجماعات البشرية، تدفع الشخص إلى الانقلاب على واقعه وخياراته وقناعاته، بل يمكن أن يلجأ إلى حلول تدميرية، لا أخلاقية، بحق ذاته قبل أن تكون موجهة للآخرين.
لسنا في إطار التفصيل والحديث عن الأسباب والحجج والدوافع وتبدل القناعات، ومن كان السبب ولِمَ آلت الأمور إلى ما آلت إليه، لأنه من السهل في مراحل التحول والتغير والانكسار وارتفاع حضور العواطف، والجرح المفتوح أن نضع الحمل على جهة أو شخص أو فصيل أو دولة كانت السبب الرئيس في الواقع الراهن الذي لم يكن يخطر بالبال مطلقاً!
بيد أن ما سبق يفرض على المثقف السوري أن يقول كلمته، وأن يوضح ويشرح ويقول كلمته الإنسانية والأخلاقية والمواقفية، في لحظة من عمر العالم يمكن تسميتها لحظة “الهياج الأونلايني أو التكتوكي أو السوشيالميدياوي”! وهي لحظة تتبع الهيجان والتجييش والانشغال بالأنف، وليس النظر البعيد. والرقص أمام الكاميرا التي تتخذ وضع الثبات وعلينا نحن أن نحرك أجسامنا أو عقولنا (إن بقي شيء منها) بدل أن نحرك الكاميرا، وهي محاولة في الوقت الضائع لنثبت قدرتنا على الهز الفكري والجسدي!
ويمكن مقاربة مظاهر ضيعان الطاسة عند كثير من السوريين من خلال فكرة “قضيتي وقضيتك” إذ بحجة الانشغال بالحريق الخاص، فليحترق العالم حولنا، لا علاقة لنا بذلك، لكن ما هكذا تؤتى القضايا يا سعد! لأن القضايا التي تتشارك في الأخلاقي والإنساني والقيمي مترابطة، وإلا لماذا أعطانا الأوروبي اللجوء، على سبيل المثال، من دون النظر إلى القصة الشخصية لكل منا؟ ولماذا تتكاتف كثير من الدول على مساعدتنا؟ حتى اللحظة، طبعاً من السهولة أن يقول قائل: فليتركونا بحالنا وهم السبب!! وعلى الرغم من الوجاهة التي قد ينطوي عليها هذا الرأي من باب حسن النيّة، فإن الأمر ليس كذلك، ونحن نعلم أنه من شبه المستحيل التخلص من نظام سياسي متعفن مستبد من دون مساعدة من آخر ما!
طبعاً هنا من المهم التفريق بين أمرين رئيسيين: القضية الفلسطينية والهوشات الإيرانية، فالأخيرة تحاول أن تبني مشروعها على فلسفة متهالكة وخارج الزمان وغير صحيحة وتستثمر في الآخرين ليكونوا أدوات عندها عبر توظيف ديباجات ومقولات تاريخية توظيفاً خبيثاً، وهي فلسفة خارج زمانها ولا بد لها من نهاية قريبة هي وأدواتها.
أما القضية الفلسطينية فهي قضية حق يقينية، للفلسطينيين والسوريين معاً، فالسوريون جزء منهم وهم جزء منا في الدم والعرق والعادات والتقاليد والطعام والجغرافيا والموسيقا والمآل والعِرق والهواء والقومية والزعتر والكنافة والمسبحة، نتشارك معهم كل مقومات الحياة.
وقضيتهم قضيتنا، بعيداً عن الشعارات، ولا يعود الأمر لأنهم أهلنا ونحن أهلهم بل يعود كذلك لسبب إنساني جعل معظم شعوب الأرض تتقاطع معهم منذ عقود طويلة. وعلينا ألا نقبل بالأمر الواقع الذي يفرضه مغتصب محتل، أما كيف سيكون الحل لقضية شائكة كالقضية الفلسطينية ومن سيقوم به…. هذا يخضع لتقاطعات دولية ومحلية وإقليمية عدة، لكن في كل الأحوال: لا تقبل القضية الفلسطينية بجانبها الإنساني والوجودي أن نتنصل منها نحن السوريين بحجة الانشغال بقضيتنا ومآلنا أو أن نبتعد عنها أو نهملها.
ومن المهم الإشارة إلى أن وقوف فصيل ما أو شخصيات أو شريحة من الفلسطينيين مع خيارات النظام الحاكم المجرم في سوريا لا يعني بأي حال من الأحوال أن نتخلى عن جانبنا الإنساني والقومي والفكري والوجودي. فالقضية الفلسطينية هي القضية السورية بجانبها الإنساني والأخلاقي والقيمي والوجودي، والموضوع في جانب منه يقبل المقارنة مع حال أهلنا السوريين في الداخل وخيارتهم.
جانب آخر يستدعي تصحيح البوصلة أو إعادة ضبطها وتوجيهها، هو توهم أن الحل يمكن أن يأتي عن طريق قاتل أو مجرم دولي أو من خلال إبادة شعب صاحب حق.
في لحظة شماتة عابرة، ولأننا لم نستطع أن نتخلص من قاتلينا ومن ارتكبوا جرائم بحقنا فرحنا شعرنا أنه شفي غليلنا نحن السوريين، نتيجة لشعورنا بالضعف وعدم قدرتنا على القصاص من ذلك المجرم الذي كان يقبع في دولة مجاورة لنا.
لكن علينا ألا ننسى أنه لا يمكن أن يكون قاتل الشعب الفلسطيني قريباً منا، أو شريكاً معنا أو معبِّراً عن آمالنا. هو عدو لنا مثلما هو عدو للفلسطينيين ولكل صاحب حق على المستوى الأخلاقي والإنساني.
الحق أبلج ولا يقبل الخلط، والانفعال غير مفيد، ومن غير المقبول في هذا السياق على كل المستويات الإنسانية والسورية والأخلاقية أن نضع وقوف شريحة فلسطينية أو أفراد أو جماعات مع خيارات النظام الذي ارتكب جرائم بحقنا حجة أو سبباً كي نصطف مع خيارات قاتل ومجرم دولي، هذا لا يمكن قبوله حتى على مستوى النقاش، لأننا وقتئذ نخرج من جلدنا وسوريتنا!!
جانب ثالث يستدعي التوقف عنده يمكن أن يقع في إطار ضيعان الطاسة هو: تقديم الشماتة، على الوقوف بجانب صاحب الحق، قد يكون شعور الشماتة شعوراً فطرياً يعبر عن حالة شعورية عابرة، لا يمكن أن تمتنع النفس الإنسانية عنه، لكن لا بد من لحظة تالية سريعة تقدم العقل على الشماتة، والخيار الفكري على الحالة الانفعالية العابرة.
ثمة مفردات عربية قارة لا بد من إعادة استذكارها من مثل: الترفع بدل الشماتة، الترفع الذي يليق بالمثقف والناشط والمؤثر والمفكر. نحتاج اليوم إلى استعادة جوانب من أخلاقياتنا العربية الأصيلة بعيداً عن أخلاقيات عصر السوشيال ميديا والتفاهة والشعبوية. فهل سننسى أنه من الأخلاقيات العربية نصرة المظلوم، والنخوة؟ أين تلك القيم منا؟ أليست تلك القيم إحدى مكونات شخصياتنا؟ أين نحن؟ وهل سنبقى أسرى للشماتة والمجاكرة؟
جانب رابع يقتضي الانتباه كي لا تضيع الطاسة أكثر ونفقد البوصلة، أن نضع في سلة واحدة كل من نختلف معهم في القناعة أو اتخذوا خيارات ضدنا أو هللوا لمجرم في لحظة خطأ من جانبهم أو خلل في القراءة أو بتقربهم من مجرم ارتكب بحقنا جرائم وموبقات!
بالتأكيد ليسوا كلهم في كفة واحدة من الميزان.
هناك من أعلن موقفه منذ البداية، ودفع ثمناً كبيراً لذلك حتى إن سلطات النظام طردته ولم يغفر له رأس النظام ذلك وبقي يغلي حقداً عليهم.
وهناك من تدخل في سوريا وقتل الشعب السوري وساعد في إجهاض خياراته بالحرية والديمقراطية والعدالة، ثمة فرق بين من يدافع عن أرضه أمام مجرم دولي ومغتصب ويرحل في الميدان مقاتلاً ومدافعاً عن خياراته وخيارات جزء من شعبه، ومن هو جزء من مشروع طائفي إيراني يعد المرشد مرجعيته وصاحب القرار في شأن دول عربية، ولا يمانع أن يساعد في إبادة شعب ثائر كي يستجيب لتوجيهات مرشده أو خياراته الطائفية الحاقدة!
هذا يتخذ من قضية فلسطين تغطية لطموح إمبراطوري في عصر الدولة ويريد أن يقود دولاً بكاملها نحو خياراته الطائفية والفكرية “وقد يكون نجح مرحلياً” بحيث تتغلب الميليشيات على الدول.
وذاك ابن قضية وصاحب قضية أخلاقية وإنسانية هي القضية الفلسطينية الخالدة.
ولئن أخطأ عدد من قادته وأبناء شعبه في خيارتهم الفكرية أو السياسية فإن ذلك لا يسوغ لنا أن ننقلب ونضيع الطاسة ويحدث خلط لدينا كون جرحنا لا يزال مفتوحاً!
وهناك مظهر آخر لضيعان الطاسة السوري هم أولئك السوريون الحاقدون على كل ما هو صاحب مرجعية دينية أو خيار ديني، لأنهم يرون أن المرجعية الدينية لا تليق بصاحب قضية نضالية كي لا يضيع صاحب الخيار والقضية معاً، أو تترك الفرصة للمتاجرين بالدين كي يركبوا على ظهر القضية.
ويقارن أولئك الذين ضاعت طاستهم، الوضع السوري أو الفلسطيني بالوضع الأوروبي أو سواه، وهي مقارنة بحاجة إلى إعادة نظر، لسبب بسيط أن كل منطقة ما من العالم لديها ظروفها ومرجعياتها ومسارات تطورها وخياراتها ومكوناتها، ومن المهم لدى من ضاعت بوصلته أن يفرق بين حقده الشخصي على أصحاب الخيارات الأخرى، كي يختلف عنهم على الأقل، وكون قضيتهم لها من الوجاهة الأخلاقية والإنسانية والقانونية ما لها.
وعلينا ألا ننسى في هذا المجال أن الأبحاث المعنية بأسباب نكوص مجموعة ما نحو الخيارات الدينية يأخذ بعين الاعتبار الشعور بالظلم أو بالضعف أو التهميش، وكونه لم يجد أحداً يستمع إلى صوته أو قضيته أو ينصفه اجتماعياً ومعاشياً وأخلاقياً ووطنياً، أو يساعده في حل جذري، إضافة إلى كون التدين بأنواعه وأسبابه ودوافعه جزءاً أصيلاً من هذه المنطقة الجغرافية، وخياراً رئيسياً، لا يمكن التخفيف من وطأة حضوره إلا بإعلاء شأن قيم الدولة الحديثة وتوسيع موشور حضور قيم حقوق الإنسان وهذا يحتاج إلى اشتغال طويل جداً.
أخيراً، في رأس كل إنسان، مهما كان موقعه وشهاداته وخياراته ووعيه وتجاربه، بوصلة، أو لنقل “تطبيق تحديد اتجاهات” مثل ذلك الذي تستعمله في سيارتك، معرَّض في لحظة ما أن تضيع الخرائط لديه، أو يفقد الداتا “الأخلاقية” أو أن تضيع الطاسة لديه فيختلط تحديد المواقع ويختار مساراً غير سليم! من المهم أن يعاد توجيه المسار ويختار الطريق السليم كي لا تطول فترة ضياعه.
على من ضاعت الطاسة لديه؛ أن يبتعد قليلاً عن ضجيج من حوله من واقعيين يتزيَّون بزي الأخلاقي المناصر لك، وهم ليسوا أكثر من مستثمرين في خياراتك، وكذلك ممن حولك من “سوشياليين ميدياويين”. ربما من المفيد لك، أن تسافر أو تجلس وحيداً، وتستذكر منظومتك القيمية والأخلاقية وتربيتك، وخياراتك، بحيث يمكنك إعادة توجيه البوصلة، بل قد تجد الطاسة في الوقت المناسب كي لا ندخل في الوقت الضائع.
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا