أحمد عيشة *
يمكن لمتابع وضع الاقتصاد في سوريا عموماً ومناطق سيطرة النظام خصوصاً، أن يرى حالة الركود الكبيرة في أكثر القطاعات الاقتصادية، ونمو قطاعات “اقتصادية” جديدة، مثل تجارة الكبتاغون وقطاع “المعلومات”، وهو مختلف تماماً عن العلوم الحديثة، فهو يتعلّق بمعرفة أحوال “المعتقلين والمختطفين” الذي انتشر في الفترة الأخيرة بعموم سوريا تقريباً، إضافة للمعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية ووثائق السفر لكل المهجرين، ناهيك عما يُعرف بالترفيق والتهريب بين مناطق النفوذ التابعة لسلطات الأمر الواقع.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو سيطرة قمة النظام الأسدي متمثلاً بشخص “الرئيس” على كثير من الفعاليات والقطاعات الاقتصادية من خلال شخصيات شكلية أو “واجهة” تنفيذية وإدارية، هذا التطور الخطير في كيفية السيطرة على الاقتصاد خلال مسيرة نظام العائلة الأسدية على مدار خمسين عاماً من سيطرتها على البلاد.
ثمة “تعاقد” متعارف عليه في عهد حافظ الأسد بما يخص تقاسم القطاعات العامة في البلاد (الاقتصادية والعسكرية والأمنية، فهي القطاعات الفاعلة إذ لا مكان للنشاط السياسي في البلاد) بما يخدم استمرارية السيطرة الأسدية، فقد احتكر الأسد القطاع الأمني والعسكري، وأعاد ترتيبهما وفق أسس جديدة إلى حد ما، تقوم على الولاء للأسد أولاً.
ورأى الأسد أن استمرارية الولاء هذه تقتضي العداوة بين القادة الذين اعتمدهم، إذ يمنع أي تشكيل عسكري أو أمني معادي لسيطرته رغم انتمائهم إلى القاعدة الاجتماعية ذاتها: الطائفة، وهو ما تجلى في كون انقلاب تشرين الثاني 1970، كان آخر انقلاب تشهده سوريا، في حين ترك القطاع الاقتصادي خارج السيطرة المباشرة مقابل تقديم الولاء والإتاوة.
قبل وقت قصير من وفاة حافظ في عام 2000، وتحديداً مع بداية التسعينيات حين بلغ الركود في الاقتصاد أوجه، صدرت قوانين جديدة للاستثمارات أسفر عنها تأسيس المصارف وبعض الشركات القابضة، والتي جاءت نتيجة لأزمة السلطة الخانقة في الثمانينيات والعقوبات من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم، السعي لاستثمار الأموال المكدسة لدى فئة من الضباط والمسؤولين الأمنيين بفضل الإتاوات التي فرضوها على الناس، وهنا كان الجيل الثاني- أولاد الكبار- الذين مثّلوا مرحلة الانتقال إلى فئة التملك المباشر بدلاً من تحصيل المال عن طريق المنصب، وكان خير ممثل لذلك الجيل رامي مخلوف، الذي يعرَف والده، بالسيد النسبة المئوية، حين كان مديراً للمصرف التجاري، ونسبته معروفة من كل قرض.
اعتمد بشار الذي ورث الرئاسة، على القطاع الخاص أكثر، بطريق مغايرة لما سلكه والده، الذي اعتمد على النفط والعقود في الشركات “العامة” الحكومية لإثراء حلفائه وأتباعه، وأكثر القطاعات أماناً للاستثمار كانت قطاعات الاتصالات والمصارف و”الإعلام”، بالطبع مع جيل جديد من النخبة الحكومية.
بدأ بتوسيع القطاع المصرفي الخاص بمساعدة المصارف اللبنانية، التي افتتح بعضها فروعاً في دمشق، ثم عمل على تنمية صناعات سورية أخرى، بما في ذلك الاتصالات الخليوية، والإنتاج التلفزيوني (سيرياتل وشام القابضة).
كان المستثمرون الجدد أبناء كبار ضباط الأمن والجيش في سوريا، في حين غدا رجال البزنس السُنة مشاركين، عدا عن محافظتهم على بعض الصناعات التقليدية، فكانت نقطة التحول في المعادلة التي أرساها حافظ الأسد، التي تركت وفق شروط معينة قطاع الاقتصاد لرجال البزنس من السنة مقابل تقديم الولاء والأتاوة.
مع انطلاقة الثورة السورية عام 2011، دخل الاقتصاد السوري مرحلة الانكماش، إذا غدا اقتصاداً موجهاً، غايته دعم استمرارية الاستبداد، فقد فُرض على كبار رجال البزنس دعم وتمويل الميليشيات التي أسسها النظام وإيران، فكانت فرصة لبروز قطاعات جديدة لتحصيل الأموال، وأهمها المعلومات المتعلقة بمصير المعتقلين والمخطوفين وثانيها وثائق السفر والأحوال الشخصية.
فعدا عن المبالغ الكبيرة التي باشرت تصب في خزينة النظام ورجاله، نشأت فئة جديدة من السماسرة العاملة في هذه القطاعات، فمعرفة مكان المعتقل له تسعيرة، وزيارته أيضاً، أما الإفراج عنه فيحتاج إلى تسعيرة كبيرة وكلّها بالدولار الأميركي، والأمر نفسه ينطبق على استخراج الأوراق الرسمية من وثائق دراسية وبيانات الأحوال الشخصية وجوازات السفر، فكلها مباحة مقابل “التسعيرة”.
القطاع الأبرز لنشاط شبكات بزنس النظام والميليشيات التابعة، كان المخدرات بأصنافها المعروفة والجديدة، فلم يعد إنتاجه يعتمد على السوق المحلي، بل غدا من أهم “صادرات” النظام من خلال تهريبه إلى الدول المجاورة وخاصة الأردن ليصل في النهاية إلى دول الخليج العربي والسعودية.
تحوّلت سوريا تحت مظلة النظام والميليشيات إلى المنتج الرئيسي والمصدر الأوّل للكبتاغون، إذ تقدر القيمة السنوية له بحوالي (1.8) مليار دولار، بحسب تقديرات البنك الدولي عام 2023، وبالطبع الجهات المتحكمة بهذه التجارة هي المكتب الاقتصادي لدى الرئاسة و”الفرقة الرابعة” ومكتبها الاقتصادي، بسبب سيطرتها على الحدود مع الأردن ولبنان، إضافة لـ”حزب الله”، الذي يقوم بدور فعال في تأمين المواد وتهريبها كمنتج مع باقي الميليشيات، فقد غدت عائدات التهريب هذه مصدر تمويل أساسي بعد التمويل الإيراني.
بعد الأزمة بين رأس النظام ورامي مخلوف، عام 2020، وانقسام أقطاب المال في سوريا بين موال لروسيا وآخر لإيران والتصفيات التي حدثت مؤخراً، لجأ رأس النظام إلى تأسيس نمط جديد يعتمد على المشاركة المباشرة بتأسيس شركات كبرى من خلال شخصيات تعمل كواجهة، كما أشار إلى ذلك الدكتور كرم الشعار في تقريره عن شبكات البزنس الداعمة للاستبداد في سوريا، سواء داخل سوريا أو خارجها، شركات يمكنها بطرق ما التهرب ولو لفترة من العقوبات، كما يمكنها تعهد المشاريع الحكومية بشكل روتيني، كون “المدير” هنا يشغل منصب “رئيس” الجمهورية، وتلك نقطة التحوّل الأسوأ، فقد تحوّل منصب الرئاسة إلى مهمة رجل البزنس سواء سراً من خلال واجهة أو حتى علناً من خلال المكتب الاقتصادي في القصر الرئاسي.
بشار الأسد، في الأعوام الأخيرة، ومن خلال تعزيز قبضته على القطاعات الاقتصادية الحيوية، مستخدماً شبكات من الرجال والنساء الذين يعملون كواجهة، حوّل منصب “الرئاسة” إلى مكتب بزنس، وبالتالي كفاعل اقتصادي، موفراً لنفسه ولنظامه الدخول الكبيرة بشكل مباشر من دون تقاسمها مع باقي اللصوص، فضلاً عن الالتفاف على العقوبات المفروضة على النظام، وبالتالي غدا أحد رجال الميليشيات الجدد الذين يبنون ثروتهم كأمراء حرب من خلال الوسائل غير النظامية كتجارة المخدرات -التي غدت ورقة مساومة مع الدول العربية من أجل التطبيع مع نظامه- والاستيلاء عنوة -بفضل المنصب- والسيطرة على كل العقود الحالية والمتوقعة، التي لم تسلم منها حتى المساعدات الإنسانية سواء من الأمم المتحدة أو من بعض الدول العربية.
في سوريا المفيدة، سوريا “المزرعة” لم يعد من معنى للتصنيف الطبقي الكلاسيكي، إذ برز تقسيم جديد: السلطة ممثلة بالقصر الرئاسي والفرقة الرابعة وقلة من الأعوان، مقابل باقي الناس الذين تزداد مصلحتهم يوماً بعد يوم، في ضرورة الخلاص من نظام الاستبداد، نظام العائلة الأسدية.
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: تلفزيون سوريا