محمد المنشاوي *
«أُقسِم رسمياً أن أدعم دستور الولايات المتحدة وأدافع عنه ضد جميع الأعداء، الأجانب والمحليين، وأتعهد بالإيمان الصادق والولاء للدستور. وأتعهد كذلك بطاعة أوامر رئيس الولايات المتحدة وأوامر الضباط، وفقا للأنظمة والقانون العسكرى. وليساعدنى الرب».
بهذه الكلمات يبدأ مسار أفراد القوات المسلحة الأمريكية المهنى، ويركز القسم على الولاء والدفاع عن الدستور، وفى الوقت ذاته طاعة أوامر رئيس الولايات المتحدة، ولا يعد انضمام أى شخص للجيش الأمريكى مكتملا وقانونيا إلا بعد أداء القسم.
لم يتخيل الآباء المؤسسون للولايات المتحدة أن يواجه أفراد القوات المسلحة الأمريكية معضلة الاختيار بين حماية الدستور وبين طاعة أوامر رئيس الجمهورية بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة.
على مدار التاريخ الممتد لما يقرب من 250 عاما، لم يضطر الجيش الأمريكى إلى الاختيار بين الأمرين، إلا أن الأحداث السياسية الأخيرة المتسارعة والمستمرة منذ ظهور دونالد ترامب على ساحة السياسة الأمريكية مطيحا بقواعد ديمقراطية راسخة ومؤسسا لتيار شعبوى يلعب على عواطف الناخبين والناخبات، دفعت البعض للقلق مرة أخرى مما قد يقدم عليه ترامب خاصة مع استمرار رفضه الاعتراف بهزيمته الانتخابية السابقة عام 2020، ورفضه التعهد بالاعتراف بنتائج انتخابات 2024 حال خسارته لها.
- • •
إذا فازت نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية، كامالا هاريس، فى انتخابات نوفمبر المقبل، لن يقبل الرئيس السابق دونالد ترامب وأنصاره هذه النتيجة، وقد يحاولون مرة أخرى قلب نتائج الانتخابات.
فى انتخابات 2020، رفض ترامب الاعتراف بخسارته، ونشر ادعاءات كاذبة حول التزوير والمخالفات الانتخابية، وسعى إلى عكس النتائج فى الولايات المتأرجحة، وحاول الضغط على نائبه ــ حينذاك ــ مايك بنس لمساعدته على البقاء فى السلطة؛ ثم داهم مثيرو الشغب من أنصاره مبنى الكابيتول الأمريكى فى محاولة لوقف التصديق على نتائج الانتخابات رسميا.
لم يؤكد ترامب حتى الآن استعداده قبول نتائج الانتخابات إذا خسرها، ويرد على هذه الأسئلة بالقول إنه يشترط أن تكون الانتخابات عادلة، ويضيف أنه «سيقبل نتائج انتخابات حرة ونزيهة».
فى الوقت ذاته، ما تكشفه جميع استطلاعات الرأى يشير إلى أن الانتخابات ستكون نتائجها متقاربة للغاية، وتعطى كلا المرشحين احتمالات فوز شبه متساوية، وهو ما يوفر لترامب فرصة للتشكيك فى نتائج الانتخابات مرة أخرى.
ترامب لا يكترث بمصداقية الانتخابات، ولم يتوقف عن ادعاء الروايات الكاذبة حول مخالفات انتخابية قادمة، وأن الحزب الديمقراطى سيغش فى الانتخابات، ما يؤدى إلى تآكل ثقة الكثير من الناخبين والناخبات، وهو ما يقود بدوره إلى الفوضى والارتباك، وفى أسوأ السيناريوهات، العنف.
- • •
ردا على سؤال حول توقعاته بشأن يوم الانتخابات، بعدما ورد على لسان الرئيس جو بايدن، الأسبوع الماضى، أنه بينما يعتقد أن الانتخابات ستكون حرة ونزيهة، إلا أنه لا يعرف «ما إذا كانت ستكون سلمية»، قال ترامب «لدينا بعض الأشخاص السيئين للغاية، ولدينا بعض الأشخاص المضطربين، مجانين اليسار المتطرف، وأعتقد أنه إذا لزم الأمر يجب التعامل معهم ببساطة من قبل الحرس الوطنى للولايات، أو إذا لزم الأمر حقا من قبل الجيش الأمريكى».
ما قاله ترامب هو ما خشاه مؤسسو الدولة الأمريكية من تدخل الجيش فى الحياة السياسية، وعمل الدستور على الحد من أى احتمال لسيطرة ضباط عسكريين غير منتخبين على الحكم، كما حدد بدقة مسئوليات الرئيس المنتخب، وعلى رأسها أنه قائد أعلى عام للقوات المسلحة. من ناحية أخرى، يثق الشعب الأمريكى بأن جيشه لا تحركه الأهواء السياسية الداخلية أو الحزبية.
من جانبه، حدد القانون الرجوع للمحاكم الأمريكية وصولا للمحكمة الدستورية العليا لحل أى خلاف على هوية المرشح الفائز، حال وقوع أزمة فى عد أو فرز الأصوات أو عدم اعتراف مرشح بالهزيمة.
إذن، لم يعط الدستور أى دور للجيش فى عملية الانتقال السياسى، بل حدد ضرورة أن يكون وزير الدفاع شخصا مدنيا، كما جرد رئيس الأركان من أى سلطات سياسية وجعل المنصب ضعيفا يستطيع معه الرئيس أن يقيله وقتما شاء.
- • •
عرفت الانتخابات الأمريكية على مدى تاريخها الحديث ظاهرة تسمر مواطنيها ومواطناتها أمام شاشات التليفزيونات انتظارا لخبر تلقى المرشح الفائز مكالمة هاتفية من المرشح الخاسر يهنئه فيها بالانتصار ويتمنى له ولأمريكا كل الخير والتقدم.
وعلى الرغم من سخونة الحملات الانتخابية وما تشهده من هجمات موضوعية وشخصية من كل فريق على الآخر، تطوى ليلة التصويت وإعلان نتائج الانتخابات ووضوح هوية الطرف الفائز التنافس السياسى بين الفريقين، لتبدأ مرحلة انتقالية تمتد لأسابيع لنقل السلطة للطرف الفائز.
نعم عرفت أمريكا مشكلات إجرائية على مدى تاريخها فيما يتعلق بالانتخابات من حيث منع البعض من الوصول إلى صناديق الاقتراع، والتشكيك فى شرعية النتائج، وطرح الطعون القانونية، وإجبار الناخبات والناخبين على الوقوف فى طوابير طويلة، لكن لم يسبب أيا منها أزمة بالمعنى الحقيقى إلا فى انتخابات عام 2000 عندما حسمت المحكمة الدستورية العليا نتيجة انتخابات ولاية فلوريدا وأعادت فرز الأصوات، وهو ما أدى لفوز المرشح الجمهورى آنذاك جورج بوش بالرئاسة، إلا أن ترامب أخذ انتخابات 2020 إلى منعطف جديد برفضه نتائجها حتى اليوم، وهو ما يُخشى معه الآن من تبعات خطيرة مع استمرار تعنته ورفضه التعهد بقبول نتائج الانتخابات حال خسارته لها.
- • •
خلال المناظرة الرئاسية الثانية التى جمعت دونالد ترامب بهيلارى كلينتون فى انتخابات 2016، رفض المرشح ترامب التعهد بقبول نتائج الانتخابات ومباركة فوز خصمته إذا خسر السباق، وإجابةً على سؤال من المذيع إذا كان مستعدا لقبول الهزيمة حال خسارته، رد ترامب قائلا: «سنرى ما يمكن فعله فى هذه اللحظة، لا أستطيع أن أجزم لك الآن بالرد». وفى انتخابات 2020 كرر ترامب نفس إجابات عام 2016، والآن، وفى انتخابات 2024، لم يغير ترامب موقفه! من هنا لا يرتبط موقف ترامب بمصداقية الانتخابات أو سلامة إجراءاتها، لكنه ببساطة لا يقبل الهزيمة بسهولة كما ذكر فى العديد من المناسبات.
* كاتب صحفي متخصص فى الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن
المصدر: الشروق