محمد المنشاوي *
تؤكد المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس أنها قائدة قادرة وهادئة، ولديها كل المتطلبات لتصبح القائد الأعلى لأكبر وأقوى جيش في العالم، وتقول هاريس «بصفتي القائد الأعلى للقوات المسلحة، سأضمن أن أمريكا لديها دائماً أقوى قوة قتالية وأكثرها فتكا في العالم. وسأفي بالتزامنا المقدس برعاية جنودنا وعائلاتهم، وسأكرم دائما خدمتهم وتضحياتهم ولن أستخف بها أبدا».
لم يسبق ونجحت سيدة في الوصول لهذا المنصب، وتأخرت أمريكا عن الكثير من دول العالم في إيصال امرأة لأهم منصب سياسي في منظومة حكمها، وسبقتها عشرات الدول حيث قادت نساء دولهن في مختلف قارات العالم، من مارجريت تاتشر في بريطانيا، إلى أنديرا غاندي في الهند، ومن بينظير بوتو في باكستان إلى أنجيلا ميركل في ألمانيا وعشرات غيرهن.
إلا أن حالة وصول هاريس، حال وصولها، تختلف عما سبقها لأسباب مختلفة. إذ يعد وصول هاريس حدثاً فريداً على أصعدة عدة تطغى على سوابق وصول نساء للحكم، ومن بين أهم تبعات وصولها لِقمة منظومة الحكم الأمريكية تبوؤها المباشر لمنصب «القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية». وبسبب حجم وطبيعة القوات المسلحة وانتشارها، وبسبب أهمية ومكانة وخطورة الولايات المتحدة، يعد ترؤس امرأة لأقوى دولة وأقوى جيش في العالم حدثاً فريداً يستدعي النظر إليه.
- • •
يُعد الجيش الأمريكي الأقوى في العالم بلا منازع، ولا يعني هذا بالضرورة انتصاره في كل الحروب التي يدخلها، ولأسباب لا تتعلق بقوته أو تجهيزاته لم ينتصر الجيش الأمريكي في حروبه سواء في فيتنام أو أفغانستان أو العراق. ميزانية الجيش الأمريكي هي الأكبر، وتقدر بنحو ثلث ميزانيات كل جيوش العالم مجتمعة، وتخطت ميزانيته 900 مليار دولار العام الماضي، وهو ما يزيد على مجموع نظيراتها في الدول السبع التالية مجتمعة، وهي: (الصين، السعودية، روسيا، بريطانيا، الهند، فرنسا، اليابان). ويبلغ تعداد القوات الأمريكية ما يقرب من مليونين من العسكريين ما بين قوات نظامية وقوات احتياط. تمثل نسبة النساء اليوم ما يقرب من 15% (ما يقرب من 300 ألف مقاتلة) في كل التشكيلات العسكرية الأمريكية.
لأمريكا مئات القواعد العسكرية حول العالم، ولها مئات الآلاف من الجنود في دول عدة. وخلال تاريخ أمريكا القصير شاركت وحدات نسائية متطوعة في كل الحروب التي خاضتها منذ تأسيس الدولة في نهاية القرن الثامن عشر. وبعد انتهاء حرب فيتنام عام 1973، انتهت الخدمة الإلزامية للرجال في الجيش الأمريكي، وأصبحت كل القوات المسلحة الأمريكية تتشكل من المتطوعين سواء كانوا من الرجال أو النساء. وسُمح للسيدات بالوصول إلى أعلى الرُتب وتتلقى نفس راتب الرجال، مع عدم وجود أي استثناءات تتعلق بمشاركتها في عمليات قتال مباشرة.
حال انتخاب المرشحة كامالا هاريس ستكون بحكم منصبها قائدة عليا للقوات المسلحة الأمريكية ويُخولها ذلك سلطات عسكرية وتنفيذية مختلفة من أهمها اختيار وإقالة وزير للدفاع ذي خلفية مدنية، وتعيين رئيس عسكري لقيادة هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، واختيار قادة لقطاعات الجيش الأساسية (للقوات البرية وآخر للبحرية، وهكذا). ومن القرارات الخطيرة التي قد تتخذها أيضاً هاريس ما يتعلق بالحروب ومشاركة القوات الأمريكية في عمليات عسكرية بالخارج. وعلى الرغم مما نشهده خلال سباق الرئاسة من هجمات متبادلة بين هاريس وترامب، إلا أن ذلك كله لن يؤثر على خضوع الجميع لسلطتها حالة انتخابها رئيسة قادمة للبلاد.
- • •
قد يطرح البعض سؤالاً مفاده، هل ينزعج كبار العسكريين الأمريكيين من كون قائدهم الأعلى امرأة؟ وليس هذا فقط، بل امرأة يتهمها منافسوها بعدم وجود خبرة في السياسة الخارجية أو إدارة أزمات دولية؟ الإجابة هي لا… كل الضباط ملتزمون بطاعة أوامر وقرارات هاريس بما فيها تلك المتعلقة بالحرب والهجمات العسكرية أو غيرها. لا يُنتظر أن تكون القائدة هاريس أقل خشونة أو أكثر نعومة ممن سبقوها من قادة رجال على رأس القوات المسلحة الأمريكية، ويدلل التاريخ القريب أن النساء يأخذن بلادهن لحروب مثلهن مثل الحكام الرجال. رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي حين أمرت الجيش الهندي بدعم استقلال بنجلاديش عن باكستان عسكرياً، ومارجريت تاتشر أمرت بغزو جزر فوكلاند والحرب مع الأرجنتين، وقادت جولدا مائير إسرائيل أثناء حرب تشرين الاول/ أكتوبر. ولن يخضع وينصاع العسكريون لهاريس نظراً لقوتها وشخصيتها وتاريخها، بل سيخضعون لها لأنها الرئيسة المنتخبة.
من الجدير بالذكر أن وزارة الدفاع لا تعبر عن تفضيلها لمرشح على آخر، وسيخضع البنتاجون للرئيسة هاريس أو للرئيس ترامب. يشارك العسكريات والعسكريون الأمريكيون في الانتخابات ويُدلون بأصواتهم بحرية تماما كأي مواطِنة/ مواطن آخر، ويمكن لهم كذلك العمل بالسياسة والسعي للوصول لأي منصب سياسي فقط بعد الاستقالة من وظيفتهم العسكرية أو بعد التقاعد من الخدمة العسكرية.
- • •
في الأعراف الديمقراطية الأمريكية، وغير الأمريكية، تخضع وزارة الدفاع للقرارات الصادرة من القيادة السياسية المنتخبة، وتخضع كذلك لإمرة الرئيس والكونجرس طبقاً لما حدده الدستور من فصل واضح للسلطات. ويعكس خضوع البنتاجون للرئيسة كامالا هاريس أو لغيرها جوهر العلاقات المدنية العسكرية في أمريكا حيث يؤدي العسكريون القسم للحفاظ على حدود الدولة وصيانة دستورها. وفي القضايا المتعلقة بعمليات عسكرية محدودة كانت أو واسعة، سيقوم كبار العسكريين الأمريكيين بتقديم نصائحهم إلى الرئيسة هاريس، ثم ينفذون ما تتخذه من قرارات. وكما ستملك الرئيسة هاريس السلطة، ستمتلك أيضا المسؤولية المباشرة لقرارها، وسيُترك الحساب للشعب الأمريكي في الانتخابات بعد القادمة عام 2028.
للديمقراطية الأمريكية أركان عدة، من أهمها خضوع القوات المسلحة لسيطرة الجانب المدني، وتقديس حريات التعبير، ناهينا عن نزاهة الرئيسة/ الرئيس وابتعاده عن جني مكاسب مادية أثناء توليه فترة الحكم. إلا أن شواهد عدة تدل على عدم اكتراث المرشح الجمهوري ترامب بهذه المبادئ الثلاثة سواء خلال فترة حكمه السابقة، أو بعد ترشحه لهذه الانتخابات. ومنذ اعتماد الدستور عام 1788 (الأقدم في العصر الحديث) حرص الآباء المؤسسون للنظام الأمريكي على تجنب وجود سيطرة مطلقة ومركزية قد تؤدي لتركز السلطة في يد شخص واحد أو هيئة واحدة تشجع على نمو الممارسات الاستبدادية. كذلك ضمنت التعديلات الدستورية ألا يتعدى لا الرئيس ولا الكونجرس ولا المحاكم على حريات التعبير، وأن يبتعد العسكريون عن الشأن السياسي، وتركه للجانب المدني، والشخصيات المنتخبة.
* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن
المصدر: الشروق