الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل يمكن أن نرى أوجلان خطيباً في البرلمان التركي قريباً؟

بكر صدقي *

يستمر زعيم حزب الحركة القومية في إدهاش الرأي العام التركي بمفاجآت من العيار الثقيل. فبعد مصافحته قادة حزب المساواة والديموقراطية الكردي، في الأول من تشرين الأول/ اكتوبر الجاري، وتوجيهه نداءً إلى عبد الله أوجلان لترك السلاح في الخامس عشر منه، دعا من لا يزال يصفه بـ«رأس الإرهابيين» للقدوم إلى مجلس النواب، إذا تم إنهاء عزله، ليعلن نهاية الإرهاب وتفكيك المنظمة الإرهابية «ليتسنى له» الاستفادة من «حق الأمل» الذي يمكن فتح بابه أمامه على مصراعيه»!

ويعني مصطلح «حق الأمل» المتداول في أدبيات حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي، منح فرصة للسجناء المحكومين بالسجن المؤبد للخروج المشروط من السجن بعد انقضاء خمسة وعشرين عاماً على تنفيذ عقوبتهم، مع العلم أن ثمة ضغوطا أوروبية بهذا الخصوص على تركيا. والحال أن المشرّع التركي الذي ألغى عقوبة الإعدام واستبدلها بالسجن المؤبد احتاط لهذا النوع من الاجتهادات القانونية بأن حرم من هذا الحق أوجلان ومن في حكمه من سجناء مدانين بتهمة الإرهاب، وهو ما يعني أنهم لن يخرجوا من السجن إلا بعد موتهم فيه.

الواقع أن حزب المساواة والديموقراطية للشعوب كان قد قدم مشروع قانون بهذا الخصوص في 15 أيلول/ سبتمبر الفائت إلى اللجنة القانونية في المجلس، وما زال بانتظار النظر فيه. فإذا أخذنا بعين الاعتبار خبراً تم تداوله في وسائل الإعلام مفاده أن الدولة التركية قد بدأت اتصالاتها مع أوجلان في السجن منذ بعض الوقت، وتم توفير وسيلة اتصال له للتواصل مع القيادة الميدانية لحزب العمال الكردستاني المتمركزة في جبل قنديل شمال العراق بهدف إقناعها بإلقاء السلاح من طرف واحد، يمكن التكهن بأن ثمة «طبخة» سياسية كبيرة يتم إنضاجها على يد أردوغان وبهجلي وأوجلان، وربما بعض قيادات «المساواة والديموقراطية» لإنهاء ما تسميه الدولة التركية بالإرهاب والانفصالية، بموازاة إدماج الحزب الكردي في الحياة السياسية بعيداً عن اتهامه بكونه الغطاء السياسي للمنظمة المسلحة والتضييق على نشاطه بمختلف السبل.

وكان لافتاً في تصريحات بهجلي المشار إليها أنه استبعد فيها أي دور لقيادة جبل قنديل كما لـ«سجن أدرنة» في إشارة إلى الزعيم السابق للحزب الكردي صلاح الدين دمرتاش. وهذا ما صنع إشارات استفهام حول مضمون المشروع الذي يعمل عليه تحالف أردوغان وبهجلي ولا يفضيان بأي تفاصيل عنه، لتتولى الأمر مختلف التكهنات الإيجابية والسلبية.

ولكن لنلقي نظرة على ردود الفعل على مبادرات بهجلي «الجريئة» لدى الأحزاب السياسية وفي وسائل الإعلام. فقد رحب بها كل من حزب الشعب الجمهوري وحزب المساواة والديموقراطية، معتبرين ما يحدث تمهيداً لحل سياسي للمسألة الكردية، مقابل هجوم عنيف من حزب النصر بقيادة أوميد أوزداغ (معادٍ للاجئين) وحزب الوطن (قومي متشدد) بقيادة دوغو برينجك- وهما حزبان هامشيان في الحسابات الانتخابية- والحزب الجيد (قومي) بقيادة مساواة درويش أوغلو وحزب الرفاه من جديد (إسلامي) بقيادة فاتح أربكان. أما حزب السعادة (إسلامي) فقد رحب بأي مشروع لحل المسألة الكردية وإنهاء الحرب الداخلية، لكنه شكك في امكان أن تنجزه السلطة القائمة. وكان لافتاً في الصحف الموالية للسلطة غياب أي تحليلات أو مقالات رأي بشأن ما يحدث على رغم انقضاء ثلاثة أسابيع على مصافحة بهجلي لقادة الحزب الكردي وإفضائه بتصريحات إيجابية. في حين سيطر التشكيك على صحف المعارضة العلمانية بنوايا الثنائي أردوغان – بهجلي، من غير رفض مسبق لمسار سياسي يؤدي إلى حل. أما فتح بهجلي لباب قد يؤدي إلى خروج أوجلان من السجن، بصورة خاصة، فقد لاقى رفضاً صاخباً من بعض صحف المعارضة العلمانية والقومية المتشددة، وتعبيراً عن الصدمة بهذه الانعطافة غير المتوقعة في خط بهجلي الذي كان من أشد الرافضين لاستبدال عقوبة الإعدام بالسجن المؤبد لأوجلان ليصل الآن، وبلا مقدمات، إلى تمهيد الطريق لإطلاق سراحه.

كما قارن المحللون بين مسار الحل السلمي الذي عملت عليه السلطة بين العامين 2013- 2015، وبين ما يحدث اليوم، متسائلين عما إذا كانت هذه قررت العودة إلى استئناف ذلك المسار أم يتعلق الأمر بشيء مختلف. للتذكير كان المسار المشار إليه يقوم على التفاوض المباشر بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني وعبد الله أوجلان والحزب السياسي الكردي، إضافة إلى مشاركة ما يحدث مع الرأي العام بصورة شفافة. كما تم تشكيل «لجنة حكماء» من مثقفين وفنانين وصحافيين أتراك وكرد تمثلت مهمتهم في إقناع الرأي العام بالحل السلمي. وقعت أحداث ونشرت تصريحات استفزازية متتابعة ممن اعتبروا أنفسهم متضررين من أي حل سياسي، لينتهي الأمر بانهيار المفاوضات وانقلاب الجو السياسي إلى جو مسموم، بخاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016.

أما اليوم فلا يدور أي حديث عن حل سياسي، بل إن بهجلي نفسه رفض إطلاق هذا العنوان على مبادرته، كما قال المستشار السياسي لرئيس الجمهورية محمد أوجوم إنه ليس ثمة أي مشروع حل سياسي على الطاولة، وكأنهما يريدان القول إن الموضوع يتعلق فقط بإنهاء الإرهاب!

أما المتفائلون فيقارنون بهجلي بآخر رئيس أبيض لجمهورية جنوب إفريقيا فريدريك وليم دوكليرك الذي كان عنصرياً متشدداً، ثم أصبح شريك نلسون مانديلا في التحول الديموقراطي وتسليم السلطة للأغلبية السوداء، أو برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن الذي أطلق مع الرئيس المصري أنور السادات مسار اتفاق السلام. ويقولون إن أي شخص آخر في تركيا ما كان ليجرؤ على المطالبة بإخراج أوجلان من السجن، بل إن مجرد المطالبة بفتح زياراته المنقطعة منذ نحو أربع سنوات كانت بمثابة سبب محتمل لفتح تحقيق قضائي بحق مطلقها ربما تنتهي بسجنه. وحده بهجلي من قد يملك «الحصانة» التي تخوله بمبادرة من هذا النوع. بل إن الرئيس أردوغان نفسه لا يمكنه إطلاقها إلا بعد التأكد من موافقة شريكه القومي المتشدد.

كل هذه التكهنات وردود الأفعال المتباينة مردّها تكتم أصحاب المبادرة بشأن نواياهم، وعملهم بطريقة الجرعات الصادمة المتتالية، وتلقي ردود الفعل في الرأي العام، ثم المضي قدماً. هذه المنهجية تمنحهم موقع من تشخص إليهم أنظار الجميع، فلا يستطيعون المشاركة، بل فقط المراقبة والاستجابة سلباً أو إيجاباً. الأمر الذي يعزز الفرضية الشائعة بخصوص رغبة التحالف الحاكم في فتح الباب أمام ولاية جديدة للرئيس أردوغان، وتغليف هذا الهدف بموجبات «الوحدة الوطنية في مواجهة الخطر الإسرائيلي الداهم» كما تحاول السلطة أن تروّج.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.