الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«ناج من المقصلة» لمحمد برو: دناءة السجان وإبداع السجناء

خالد بريش *

كثرت كتب أدب السجون في هذه المرحلة. وعلى ما يبدو أنها ستكون من خصائص أدبنا العربي في هذا العصر. لأن شعوبنا، ذاقت شتى أنواع السجون وملحقاتها. وحرمت من كل أنواع الحريات. ولكن تبقى هذه الإصدارات قليلة، قياسا بما يحدث في تلك المنتجعات وبما يلاقيه المواطن فيها من ضيافة، وتكريم يفوقان الوصف. وقياسا بكم التعذيب الذي لا يمكن أحيانا للعقل تصوره، والمجازر المرتكبة بحق المسجونين. وكلما خرج كتاب يتسارع القراء إلى التهام صفحاته، ويكتشفوا من خلالها، حقارة ودناءة السجانين، وساديتهم الخارجة عن نطاق الإنسانية.

سنوات في جحيم العذاب:

ومن بين الكتب التي صدرت مؤخرا، وطرقت باب هذا الموضوع، كتاب «ناج من المقصلة » أو ثمانية أعوام في سجن تدمر. للباحث محمد برو. الذي عاش سنوات في جحيم العذاب على أنواعه وألوانه، يصعب وصفها. الصادر في بيروت عن دار جسور للترجمة والنشر. وقد حوى الكتاب 72 فصلا صغيرا. أشبه ما تكون بالمحطات، التي يتعرف القارئ من خلالها على مواضيع مختلفة، وضم آخره ملحقا، لصور ووثائق من نشرات سياسية، وبيانات صدرت في مطلع الثمانينيات. كان مجرد وجود ورقة منها على عتبة باب أحد المواطنين، تذكرة سفر إلى عوالم المجهول، وربما حبال المشنقة. وقد شكلت مقدمة الكتاب التي كتبها برهان غليون، مفتاحا لفهم الكتاب، وللدخول فيه، حيث تطرق إلى أهم موضوع عانى منه المجتمع السوري، وما زال منذ أكثر من خمسين سنة، ألا وهو التطهير العرقي الممنهج، الذي سماه الأسد «التجانس» مؤكدا على أن التعذيب العبثي الوحشي، لا علاقة له بمذهب ديني، أو فكر أيديولوجي، بل هو في حقيقته «انفلات للغرائز البدائية». موجها عباراته للقراء «نحن كقراء لن نفهم شيئا، إن لم نحتفظ من قراءة روايات المعتقلين الناجين من الموت، سوى بصورة الموت وصناعته». صفحات دبجت بلغة قوية رصينة، مشحونة بشموخ لا يعرف الانكسار الذي يبحث عنه السجان عادة في عيون السجين، وبكائه وآهاته، بمنهجية سردية بعيدة عن العواطف، والحقد العبثي، على الرغم من كل ما عاناه الكاتب، وهو في طريقه إلى المقصلة. يكتب محمد برو، حتى لا يطوي النسيان قصص الذين عاشوا أبشع ما عرفته البشرية في تاريخها الحديث. وهم في ضيافة أقبية سجون الأسد. لقد انتظر الكاتب سنوات طويلة، لكي يفرغ عبر السطور بعضا من ذاكرته ومعاناته، وما عاشه من آلام وعذابات، يصعب تصورها. ولهذا ينبه القارئ إلى صعوبة تقبل حروفه وسرديته «سَتَعْيَا يا صديقي وأنت تتبعني».

سطور هذا الكتاب، تتخطى سرد وقائع السجن القاسية، وأحزانه وآلامه في إطار أدبي تاريخي، لتعبر كل كلمة وعبارة إلى دواخلنا، مفجرة بركانا. فتختفي من صفحاته الأخيلة والاستعارات اللغوية. ولتتحدث الأسلاك المعدنية، التي تتساقط على أجسام المسجونين، والعصي والأحزمة الجلدية. تاركة المكان لأمور من عالم العبث، تتحدث بالنيابة عن المفردات الأدبية. إنه عملية سردية، ليوميات محددة بالزمن والتاريخ والتفاصيل والحوادث، أسبابا ومسببات، فيستحق أن يكون وثيقة لمنظمات حقوق الإنسان، التي تبحث عن أطراف الخيوط.

يتناول الكتاب مظلومية أبرياء، صعدت أرواحهم تحت التعذيب، إلى عوالم السماء، وبقيت أصواتهم تلعن الطاغية. وحكايات صرخات الواقفين بصمود وشموخ، أمام حبال المشانق وهم يكبّرون، وكذلك قصص الذين نجوا بأجسادهم، ولكن بقيت الزنازين تسكن دواخلهم، ورفيقهم الدائم في كل تقلبات حياتهم، وحديث معمق عن سجن خارج إطار الزمن والتاريخ والإنسانية، سجن أشبه ما يكون بالمسالخ البشرية، حيث التعذيب بوسائل بدائية بشعة، لا تخطر على بال إنسان، تمسح الكرامة، وتحول الإنسان إلى شيء تافه. بين أيدي سجانين ذوي ملامح قميئة كريهة، يتربع عليها فرح غير مفهوم وهم في طريقهم نحو الشبق، في أثناء وجبات التعذيب المقررة! لقد توقفت مبهورا، وأنا أقلب صفحات الكتاب. وأطالع يوميات هذا العالم الفج، بكل ما فيه، خصوصا روح الأخوة والتضحية والإنسانية بين السجناء، الذين كانوا يتقاسمون الهموم والعذابات والدموع، والثياب والأطعمة، وحتى النقود التي قد تصل إلى يد أحدهم بالتساوي، إنهم أشعريو هذا الزمان حقا! كم هو مبهر إصرارهم على الحياة، والتعلق بأهدابها. والانطلاق نحو الحلم، وإن كانوا وراء قضبان سجن تدمر، المنتجع الوطني الأفخم الذي كتب على بابه «الداخل مفقود والخارج مولود».

استوقفتني أيضا خلال رحلتي مع صفحاته التي كتبت بمرارة، عدة أمور لم أجدها في الكتب الأخرى الكثيرة التي قرأتها عن السجون، والتعذيب في سوريا، وغيرها.

الأول: تعرية سطوره لنظام يدعي المقاومة والممانعة، بينما تقوم فلسفته على الحقد، وسادية متأصلة في رجالاته حتى النخاع، فكانوا يقومون بتوثيق عمليات الإعدام والتعذيب بفيديوهات يحملونها إلى سيدهم ليتلذذ برؤيتها، فينتابه شبق وهو يرى مناوئيه يعلقون على حبال المشانق، ويفرح بلون الدماء الزكية، كما في أفلام مصاصي الدماء. فلسفة صنعت مجتمعا من عبيد فقدوا بشريتهم. يصفهم: «لقد فقدوا إنسانيتهم، وتأصل الشر والحقد في نفوسهم، واستذابت أرواحهم، ولم يعد بمقدورهم التوقف عن التنكيل المستمر بنا، فقد أصبحت عملية التعذيب في حد ذاتها ولعا لنفوسهم السقيمة» عبيد، ولكن أوامرهم مطاعة لا ترد، يقتلون ويعذبون، بينما في مكان آخر هم مجرد رجال شرطة، لا يحترمهم أحد.

تعذيب السجناء:

الثاني: تجربة الأسلحة الكيميائية على المساجين، بعد وضعهم في غرف زجاجية. والسادة القادة الأسياد؛ يراقبون، يتفرجون، على ضحاياهم من بشر حولوهم إلى فئران مختبرات. يدونون ملاحظاتهم. يفرحون بنجاحاتهم. وهو ما يذكرنا بمعتقلات النازية التي استنكرها العالم بأسره، ولكنه يغض الطرف ويصمت عما يجري في سوريا.

الثالث: روح التحدي التي تبلغ لدى السجناء أقصاها، وكيلهم الصاع صاعين لسجانيهم، من خلال صمود أسطوري، وقرارهم في لحظة بعدم البكاء، والتأخخ، والصراخ، أثناء حفلات وولائم التعذيب الوحشية، والتنكيل بهم، وعدم إحناء الرؤوس المفروض عليهم خلال ساعات التنفس.

فكانوا يكزون على أسنانهم. وهم يتلقون ألوان التعذيب بصبر وجَلد، إنه التحدي الذي يذهب إلى أقصاه، فتتبدل الأدوار ويتحول السجان إلى ضحية عنفه وساديته، أو بالأحرى إلى سجين.

الرابع: زخم الإصرار على الحياة بكل قوة، وإرادة، وتبديل حياة السجن والجحيم المعاش فيه من خلال بعض التفاصيل، التي تدق مسمارا في جدار الصمت المطبق، فيحولون سجنا أشبه بالجحيم، إلى عالم يضج بالثقافة. فيكونون مجموعات متخصصة لنقل بعض المعارف التي بحوزة كل واحد منهم، وتلقي العلوم المختلفة، وحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغات، بل ذهبوا أبعد من ذلك بأن كتبوا مسرحية سموها «النافذة» وأخرجوها ومثلوها وسط أجواء اعتقال وتعذيب لا يتوقف. في الوقت الذي تُحْصى فيه أنفاسهم وحركاتهم وسكناتهم. إن تمثيل مسرحية في سجن كتدمر، هو أكثر من حلم، بل هو في حد ذاته انتصار! مسرحية متكاملة بديكور افتراضي وماكياج تمت فبركته من لا شيء، ولم يكن ذلك مجرد نزوة وانتهت، بل أخذوا يقدمون مسرحة جديدة كل شهر. فكان ذلك بحق نافذة فتحوها في جدار المأساة، متخطين ظروفهم ومعاشهم اليومي الذي يصعب تخيله، وحتى ينجحوا في النجاة من عيون الرقيب والحراس، قام فريق بعملية رصد ومراقبة، فكانوا يلصقون آذانهم بالجدران والأرض، لكي يسمعوا أي حركة أو دبيب للحراس.

الخامس: إيجاد أدوات للتواصل في ما بينهم تحررهم من مراقبة سجانهم وجبروته. فاخترعوا لغتهم القائمة على الإشارة بالأيدي والأصابع، والرأس والأكتاف. لغة يتحاورون ويتناقشون ويعبرون ويشتمون بها، بالإضافة إلى التواصل مع المهاجع الأخرى عبر النقر على قساطل المياه، على طريقة أبجد هوز، وحساب الجمل والحروف. فتكوّن عالم مواز، سري مغلق بكل ما فيه.. تداخل فيه الفرح بالألم.. وتكسرت فيه حواجز الصمت والخوف. إبداع في التواصل رغم أنف السجان.

فانتازيا العبث والتناقضات:

إنه عالم فانتازيا العبث والتناقضات والتحدي. شباب يتخطى إبداعهم كل الظروف والعقبات، إنه الإنسان الذي لا يتوقف تشوقه إلى الحياة. تسري المغامرة في عروقه باستمرار، إنها معادلة صناعة النقيض، حيث يصنع الخوف فرحا.. ويفرز نمطا من التحدي للسجان في عقر داره.. ويكتب السجناء سطورا في دفاتر الحياة، لا يمكن أن تخطر على بال أحد، يعبر عنها الكاتب محمد برو من خلال هذه الكلمات «سيشق علينا تخيل وقع الأمر على سجانينا. لا شك في أنهم سيتصاغرون أمامنا ويعتبروننا أبعد من حدود المكان، وستتعرى قاماتهم القزمة أمام ذواتهم، ويكتشفون أنهم هم المساجين».

«ناج من المقصلة» عنوان كتاب يعكس حقائق بشعة، مؤلمة حد الفجاجة، تصعب قراءته بشكل متتابع، ويدفع بالقارئ إلى طرح ألف سؤال وسؤال حول هذه العوالم، التي لا تعرف إنسانية البشر. وفكفكة أحداث الكتاب وعباراته، تحمل إجابة على معظم الأسئلة المطروحة حول الواقع الذي يمر به الشعب السوري حاليا، وحول نظام أطبق على خناق الوطن والمواطن، وخطط لاحتلال الفضاء الداخلي للإنسان ولكيانه، خدمة لمشروع تطويب الحاكم، الإله الفرد، الذي لا ند له ولا منافس.

* كاتب لبناني

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.