عبد الله السناوي *
لم يكن ممكنًا أن تتغوّل إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية تقتيلًا وتجويعًا وتشريدًا دون غطاء أمريكي كامل وعجز عربي فادح. الولايات المتحدة شريك في حرب الإبادة والنظم العربية بالتواطؤ أو بالعجز.
استدعت نكبة فلسطين عام ١٩٤٨ مراجعات غاضبة لأسبابها طلبًا لتغيير جذري في بنية المجتمعات والسياسات العربية.
في غضون عشر سنوات تغيّرت معادلات المنطقة، نشأت ثورات وانقلابات، وتغيّرت نظم وموازين قوى وأعلنت أهم تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث عام 1958.
شيءٌ من ذلك سوف يحدث يقينًا كرد فعل تاريخي على محاولات إخلاء فلسطين من أهلها بقوة السلاح وتهويد القدس بالكامل وهدم المسجد الأقصى.
إثر النكبة اكتسبت القضية الفلسطينية مركزيّتها من ربط جماعات ونخب سياسية عديدة بينها وبين معارك استقلال القرار الوطني والتنمية والعدل الاجتماعي.
كل فكرة تبدأ وتنتهي عندها. أن تكون عروبيًا يعني بالضبط الالتزام الكامل بالقضية الفلسطينية كقضية وجودية يتوقف عليها مستقبل ومصير العالم العربي كله.
وقد أدى تفكيك القضية الفلسطينية مرحلة بعد أخرى إلى تفكيك أحد أقوى الروابط العربية وأخذ التحلل يضرب كل شيء.
إذا كان هناك من يتطلع في العالم العربي للعب دور حقيقي وتاريخي فإنّ القضية الفلسطينية قبل غيرها موضع الاختبار.
لم تكن مصادفة أنّ مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الأفريقية، وتقدّمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود في حرب السويس عام 1956.. بعدها لا قبلها.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأي زعم آخر تجديف في الوهم.
المشروع القومي العربي لا يُلخصه رجل ولا تنفرد به دولة.
لم يخترع “جمال عبدالناصر” الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها.
لم يخترع مطلب الاستقلال الوطني والاستعداد للتضحية في سبيلها، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعي، ولم يؤلف دور مصر في المنطقة؛ حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه.
الأفكار الرئيسية لـ”عبدالناصر” كانت موجودة في الجو السياسي والثقافي العام قبل ثورة يوليو.
ولم تكن مصادفة أنّ سوريا هي البلد التي احتضنت الفكرة العروبية في مواجهة “التتريك” ونشأت فيها- قبل غيرها- الحركات ذات التوجه القومي العربي.
بحكم موضعها في المشرق العربي فهي عاصمته الطبيعية.
وبحكم اتصال الأمن القومي المصري بها فهي توأمته.
وبحكم حدودها مع الدولة العبرية فهي طرف في صراع وجودي.
وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسط فهي مركز استراتيجي.
وبحكم اتصالها بشبه الجزيرة العربية؛ حيث موارد النفط فهي تحت بصر المصالح الغربية.
كانت الوحدة المصرية- السورية عام 1958 خطوة متقدّمة أكدت قدرة العالم العربي على ملء الفراغ بنفسه دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية ضد مصالحه ومستقبله.
في ٢٨ سبتمبر/ أيلول ١٩٦١ جرى فصم الوحدة المصرية- السورية بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأمريكية وهللت له إسرائيل.
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية- السورية، وكلها ثابتة في وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أي فعل خارجي، وتسببت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب.
رغم ذلك ما زالت الوحدة في الذاكرة العامة حلمًا يستعصي على محاولات الإجهاز عليه، فـ”مصر”- بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ- مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة، وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.
قيمة “عبدالناصر” في التاريخ أنه عبّر عن فكرة أنّ مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قويًا معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجيء تاريخيًا لمصر إلا ربع ساعة كل مائة سنة- بتعبير الكاتب الصحفي الراحل محمود عوض.
التعبير مجازٍ لكنه يعبّر، بصورة أو أخرى، عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أنّ قوة مصر في عالمها العربي والخروج منه يُفضي إلى عزلتها وتقويض ثقتها في نفسها، كما يُفضي إلى إضعاف العالم العربي واستباحته.
قوة الفكرة العروبية في قدرتها على دمج المسلمين والمسيحيين في نسيج فكرى وثقافي وسياسي واحد.
أحد الأسباب الجوهرية الماثلة حاليًا لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أي مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.
باحتلال العراق عام 2003 بدا المشرق العربي كلّه تحت القصف تفكيكًا وتخريبًا، وكان ذلك نقطة تحوّل مفصلية أفضت إلى مزيد من الضعف والإنهاك والتراجع في العالم العربي كلّه.
عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول (١٩٧٣) على فصل مسارات التسوية، واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما يسمى بوحدة الموقف العربي.
عندما خرجت مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي بحل منفرد في اتفاقية “كامب ديفيد” همّشت أدوارها في العالم العربي، كما في أفريقيا والعالم الثالث بأسره الذي أخلينا مواقعنا فيه وتنكرنا لمعاركنا السابقة التي أكسبتنا وزنًا استثنائيًا في معادلاته وحساباته.
علت أصوات- هنا في مصر- تشكك في عروبتها والمعارك التي خاضتها ثورة تموز/ يوليو، وتدعو إلى الحياد مع قضايا العالم العربي.
قيل إنّ مصر لن تحارب حتى آخر جندي من أجل فلسطين.
كان ذلك تدليسًا على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أي شيء آخر.
جرى تكريس الانكسار كأنه كلمة التاريخ الأخيرة، غير أنه في نهاية المطاف سوف تعلِن الحقائق عن نفسها، فهناك أمّة عربية واحدة لكنها ممزّقة ومهانة، وعروبة مصر حقيقة لا خيال، ولا خيار غيرها.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: “عروبة 22“