غازي دحمان *
بات واضحاً أنّ إسرائيل تتبع استراتيجية الحرب المتدرّجة في حربها ضدّ حزب الله، التي تقوم على أساس تصعيد تدريجي، لا يستدعي ردّاً شاملاً من الحزب تنعكس نتائجه على مدن إسرائيل الرئيسة، التي تقع أغلبها في نطاق قدرة صواريخ الحزب، وفي الوقت نفسه، تستفيد من هذه الاستراتيجية بنزع عناصر القوّة من حزب الله من دون الحاجة لانخراطٍ في عملية برّية كُبرى، أو على الأقلّ، إذا تقرّر الخوض في ذلك تكون الأرضُ ممهّدة، والخسائرُ في الحدود المُحتمَلة.
هذا التصوّر الاستراتيجي يجري تنفيذه بضرب طرق الإمداد اللوجستي للحزب، ومخازن الأسلحة، وهو ما يُفسّر إلى حدّ بعيد تكثيف الضربات في العمق اللبناني، وفي داخل الأراضي السورية، وكذلك استهداف قيادات الصفّ الأوّل، أي التي تتولّى إدارة مسرح العمليات وهندسة المعركة، فضلاً عن ضرب منظومة الاتّصال، التي تربط مفاصل الحزب بعضها ببعض، بهدف إضعاف قدرة الحزب على التفاعل مع التطوّرات والاستجابة لها.
وقد صارت هذه الاستراتيجية مكشوفة بعد الإعلان عنها من القيادات الإسرائيلية، وقد أكّدها وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، بقوله إنّ تسلسل الإجراءات سيستمرّ “في المرحلة الجديدة حتّى نحقّق هدفنا، وهو العودة الآمنة لسكّان الشمال إلى منازلهم”. وليس خافياً الهدفُ من وراء ذلك، وهو خلق واقعٍ ميداني جديدٍ ينهي المعادلاتِ التي بناها حزب الله في مرحلة الحرب على غزّة، التي تقوم على ضبط الحرب ضمن نطاقاتٍ معينة، سواء على مستوى العمق الجغرافي أو طبيعة الاستهدافات، وهي معادلة لم تعد مناسبة لإسرائيل، بالنظر لنتائجها، ولا سيّما لجهة إفراغ مناطق الشمال من المستوطنين، وهي بذلك تمثّل انتصاراً لحزب الله، وهزيمة لإسرائيل من شأنها أنّ تُؤسّس (حسب اعتقاد العقل الإسرائيلي) معادلاتٍ تُنذِرُ بالخطر على الأمن والوجود الإسرائيليَين.
وثمّة مراحل. ويبدو أنّ الحرب التدرّجية الإسرائيلية سوف تنفّذ في الأيّام والأسابيع المُقبلة، وهو ما كشفته الضربات الإسرائيلية أخيراً، وهدفها تكثيف الضغط على حزب الله، وتضييق هامش المناورة لديه إلى أبعد الحدود، من خلال ضرب بناه العسكرية في الجنوب، وإضعاف فعاليتها بدرجة كبيرة، ونزع أوراق القوّة منه، ومن شأن هذا الأمر توسيع مروحة الخيارات أمام صانع القرار الإسرائيلي، ولا سيّما إمكانية إقامة شريط ٍعازلٍ على الحدود، أو المضي قُدماً أبعد من ذلك. الهدف من ذلك كلّه، وضع حزب الله أمام خيارَين لا ثالث لهما، إمّا القبول بالانسحاب من جنوب الليطاني، وبالتالي، تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 (يطالب حزب الله بالوقف الفوري لهجماته، وإسرائيل بالوقف الفوري لعملياتها العسكرية الهجومية، وسحب قواتها كلّها من جنوب لبنان)، ونزع قدرته على القيام بطوفان يشبه “طوفان الأقصى”، أو تعريضه للتفكيك والدمار في حرب لا يملك فيها أي سند إقليمي أو دولي، وفي ظلّ اختلال كبير في موازين القوّة النارية والتكنولوجية مع إسرائيل، ولا سيّما بعد اتّضاح قدرة إسرائيل على قطع طرق إمداد الحزب من إيران عبر سورية، وقدرتها على الوصول إلى أي مصدر يزوّد حزب الله بالصواريخ والمعدّات الضرورية بعد الضربات التي وجّهتها لمصياف السورية، وقبلها معامل السفيرة في حلب، وذلك في ظلّ نقص كبير في مخزون الحزب من الصواريخ، بعد تكثيف استخدامه لها طوال حرب غزّة، ونتيجة استهداف إسرائيل مخازن عديدة.
لكن، هل يعني ذلك أنّ حزب الله سيستسلم لهذا الواقع ليحدّ من خسائره، وليتجنّب مصائرَ محفوفة بالخطر قد يواجهها في حال استمراره في حرب، تلقى فيها أخيراً، وباعتراف أمينه العام حسن نصر الله، ضربات مؤلمة جاءت (في الغالب) من خارج سياق توقّعاته؟ … لا، فالحزب لا يزال يراهن على قدرته في استيعاب الخسائر المتحقّقة وترميم قدراته، ويعتقد أنّ إسرائيل في مأزق، وأنّ المعركة دخلت في طور “من يتحمّل ينتصر”، ثمّ إنّ الحزب يمتلك حيثيات قوّة وازنة تجعله يتوقّع الانتصار على إسرائيل، إذ بالإضافة إلى القوّة الصاروخية التي يستطيع من خلالها إحداث أضرار كبيرة في قلب إسرائيل الحيوي، فإنّه يمتلك قوّة مدرَّبة على صدّ أي هجوم برّي قد تفكّر فيه إسرائيل، وقد استطاع خلال السنوات الفاصلة عن حرب 2006 بناء هذه القوّة لمثل هذا اليوم، كما يمتلك شبكة أنفاقٍ كبيرة تحت الأرض تُعَدُّ جزءاً أساسياً من استراتيجيته الدفاعية، وتوفّر له القدرة على تنفيذ عمليات عسكرية مُعقَّدة ومفاجئة.
وعلى الرغم من تركيز من يتناولون قدرات حزب الله على الجانب الكمّي، المتمثّل بعدد الصواريخ لديه، فإنّ التطوّر الحقيقي بمقدرات الحزب كان نوعياً أيضاً، إذ حوّل حزب الله خلال السنوات الماضية كلّ متر في جنوب لبنان إلى بقعة محصَّنة، عبر إنشائه مراكزَ رمي للأسلحة المضادّة للآليات والدروع، وتوفير مواقعَ قنصٍ وقواعدَ لرمي الصواريخ، ومراكزَ إيواءٍ لعناصره، وتجهيزها تحت الأرض، ولهذا يتمنّى الحزب (وقد عبّر نصر الله صراحة عن ذلك) أن تندفع إسرائيل لاجتياح جنوب لبنان لتحقيق نصر مُؤكَّد عليها.
ماذا يعني ذلك؟ من الواضح أنّ اليمين المُتطرّف سيواصل تصعيده ضدّ لبنان في المرحلة المُقبلة، وأنّ حزب الله لن يتراجع تكتيكياً، لأنّ هذا التراجع (في اعتقاده على الأقلّ) سيؤسّس لزواله في مرحلة لاحقة، لذا، لا يبدو أنّ ثمّة مساراتٍ غير الحرب الكُبرى في المنطقة.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد