بشرى المقطري *
تواجه الجماعات الدينية (على اختلافها) تحدّيات جوهرية ناشئة في المقام الأول عن عقائديتها، التي تعيق إمكانية تحولّها سلطةً، فإضافة إلى توليدها إكراهات ناجمة عن هيمنتها الدينية بصبغها السلطة والدولة، وكذلك المجتمع، بطابعها الديني، فتعمل على فرض نموذجها بالقوّة، فإنّها تعمل بذلك لاستدامة الصراع ومن ثمّ استثماره. وفي هذا السياق، وبعد مرور ما يقارب العقدَ على سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة اليمنية صنعاء، وتأسيس سلطتها، بما صاحب ذلك من تحوّلات، سواء على مستوى بنية الجماعة أو هياكلها، بما في ذلك على مستوى المجتمع، فإنّها ما زالت محكومةً بأيديولوجيتها الدينية أساساً لإدارة السلطة، ناهيك باستنادها إلى القوّة والإخضاع القائمَين على شرط استمرار الصراع، وبالتالي إعاقة فرص تحوّلها سلطةً حقيقيةً تمثّل اليمنيين أو تُعبّر عن الحدّ الأدنى من مصالحهم.
يُشكّل العامل الديني تقييداً للسلطة، إذ يُؤدّي إلى إفراغها من وظائفها، إلى جانب أنّ صبغه السلطة بطابع ديني، وإن تماثل مع عقائد قطاعات من المجتمع، فإنّه يجعلها في النهاية سلطةً تمثّل الأقليّة، لا الأكثرية، وذلك من خلال فرضها التمثيل في السلطة على أساس ديني. وفي حالة جماعة الحوثي، فقد كرست الجماعة على مدى عقد من الزمن احتكارها للسلطة، من خلال فرض قياداتها في منظومة السلطة وهياكلها، إلى جانب القوى المتحالفة معها، وإن كان الاختيار بناءً على ولائها للجماعة، وبالتالي استبدلت الولاء للوطن بالولاء للطائفة، ترتّب عليه، ليس تطييف السلطة في المناطق الخاضعة لها فقط، وإفسادها، بل تكريس سلطةٍ تمثّل الجماعة، وتعبّر عن توجّهاتها، وبالطبع مصالحها، وليس تكريس سلطةٍ تمثّل اليمنيين. ومن جهة ثانية، ثبتت الجماعة من خلال احتكارها السلطة سردياتها المذهبية القائمة على العصبية للهاشمية الدينية، ومن ثمّ منْح نفسها الحقّ الحصري والإلهي في حكم اليمنيين، وهذا أدّى إلى طغيانها في مقابل تجريف المكتسبات الديمقراطية لليمنيين، وفرص التحوّل السياسي، كما أنّ صبغها السلطة، في المناطق الخاضعة لها، بالصبغة الدينية الهُويَّاتية، جرَّد السلطةَ من وظائفها الحيوية في إدارة المجتمع، في مقابل تحوّلها أداةً لفرض هيمنة الجماعة، ونظراً لافتقارها لتجربة إدارة السلطة، فقد عملت لاستيراد نماذج سلطةِ الجماعات الطائفية في المنطقة، وإحلالها في هياكل السلطة اليمنية التقليدية، وبالطبع بعد تفريغها، فكانت المحصّلة مأسسة نموذج طائفي مشوّه يفتقر إلى ملامحٍ ناظمةٍ يمكن تمييزه بها، ناهيك بإصلاحه، كما أنّ بنية الجماعة القائمة على تراتبيةٍ هرميةٍ، تبدأ بزعيم الجماعة، ثمّ أجنحة أخرى تتزعّمها قياداتٌ دينيةٌ، وأيضاً سياسيةٌ وعسكريةٌ، خلقت طيلة عقد من الزمن تمايزات في القرار وفي السلطة، أدّت إلى تخليق توتّرات ناشئة عن طبيعة العلاقة الولائية مع زعيم الجماعة، والتنافسات على الزعامة، ممّا أدّى إلى تعميق تشويه هياكل السلطة، ناهيك باستغلال النفوذ وتنامي الفساد، كما أنّ احتكامها لاصطفائها الديني قسّم المجتمع بين أسيادٍ ورعيّةٍ، فكرّس حالةً صراعيةً دائمةً بينها وبين المجتمع، تُغذّي من خلالها (وعبرها) احتقانات التهميش وتوتّرات مجتمعية وجهوية متصاعدة، كما أنّ انشغالها بفرض الديني والمذهبي على المجال المديني لم يُؤدّ إلى نفي مظاهر التنوّع في المناطق الخاضعة لها فقط، بل إفراغ المجتمع من قوّته الحيوية، ناهيك بإمكانات تطوير نفسه، كما أنّ مأسسة سلطتها الدينية، وعلى مدى عقد، كرّست حالةً لا مثيل لها من القهر الديني، وبالطبع المجتمعي والسياسي، من جرّاء سلب المجتمع حقوقه وحرّياته الشخصية، ومصادرة ثرواته، فضلاً عن إبعاد التثبيت الديني للجماعة، الذي أنتج في النهاية مجتمعاً متمايزاً اقتصادياً، ومن ثمّ طبقياً، تقوم نُخْبَة الجماعة في مركزه إلى جانب القوى المتحالفة معها، في مقابل إزاحة المجتمع إلى الهامش، واعتبار أفراده ذواتاً غير متعينةٍ اجتماعياً وسياسياً، ومن ثمّ مواطنياً.
تظهر اختلالات سلطة جماعة الحوثي واضحةً في الهياكل السلطوية المُستحدَثة، إلى جانب الهياكل الإدارية، سواء في طبيعتها أو في وظائفها، ناهيك بمضامينها، وانعكاسها على بنية الدولة اليمنية في المناطق الخاضعة لها، وإذا كانت سمة الجماعة أنّها قوى خارج الدولة، ونقيض تاريخي لها، فإنّ نتائج ذلك تتكشّف في مستويات التقويض والتفريغ، التي أحدثتها الجماعة على مدى عقد في بنية الدولة اليمنية، سواء في كيانها المؤسّسي أو في كادرها الوظيفي أو في اللوائح التي تنظّم عملها، إذ تتّضح تجلّيات التجربة الحوثية بأبعادها الكارثية في مؤسّسات الدولة، بدءاً بتطييفها بتوظيف أنصارها والمُقربين منها في مؤسّسات الدولة، في مقابل استبعاد الموظّفين أو تطفيشهم، وما يعنيه ذلك من هيمنة الجماعة على الدولة، ومن ثمّ تحويلها أداةً للصراع في المدى البعيد، إلى استبدال اللوائح الإدارية والقوانين المنظّمة لعمل الإدارات بمدوّنة السلوك الوظيفي للجماعة، التي باتت اليوم، وبعد مضيّ عقد، المرجعيةَ لإدارة مؤسّسات الدولة، وما يمثّله ذلك من انتهاك القانون الوظيفي والدستوري لموظّفي الدولة، ناهيك بمضامينها المذهبية والرقابية، باشتراط كتابة إقرار وظيفي من الموظّف بالتزامه بمبادئها، وأيضاً تقديم الذمّة المالية، وما يمثله ذلك من ممارسة رقابة صارمة على الموظّفين والتدخّل في حياتهم ومستقبلهم، إضافةً إلى أبعاد استمرار فرض تثبيت الولاء للجماعة داخل مؤسّسات الدولة، من خلال إجبار الموظّفين على الاستماع لمحاضرة يلقيها زعيم الجماعة كلّ أربعاء، تُبَثُّ في مكاتبهم، والذي يعني فرض قسرية مذهبية تتعدّى الفضاءَ العام الذي تسيطر عليه الجماعة إلى حياة الدولة، ومن ثمّ التعدّي على الوظيفة العامّة، والعمل لإفراغها من وظائفها. ومن جهة ثانية، فإنّ تشكيل كياناتٍ هجينةٍ داخل الدولة أو ملحقة بها، سواء على مستوى مسمّياتها أو وظيفتها أو كادرها، بات بعد عقد من الزمن عاملَ تعطيل لوظيفة مؤسّسات الدولة، وأيضاً عبئاً على الجماعة نفسها، بكادرها المتضخّم الذي تستقطع رواتبه من ميزانية مؤسّسات الدولة، وعلى حساب كادرها الوظيفي. ينطبق ذلك على أجهزتها المدنية والأمنية، وقطاعاتها العسكرية، وإذا كانت أشكال العسْفِ التي يواجهها الكادر الوظيفي تتجاوز اضطهاده إلى حرمانه من الرواتب، فإنّ النتيجةَ كانت استمرار انتقال دفعات متلاحقة من الموظّفين إلى فروع مؤسّسات الدولة في مدينة عدن، والمناطق الخاضعة للشرعية، وتحديداً من الكوادر المهنية والوظيفية المؤهّلة لتأمين معيشتهم، الأمر الذي خلق في المناطق الخاضعة للجماعة ما بات يُعرف اليوم بدولة يهيمن عليها المقاتلون، قوامها جيش من المتعطّلين بلا مُؤهّلات، ما يعني تفخيخ كيان الدولة في المناطق الخاضعة لها، وإعاقة فرص استعادة دولة اليمنيين، وربّما إلى عقود قادمة، في مقابل دولة المقاتلين.
تهيمن سلطة المقاتلين الطائفية على مظاهر الدولة، وعلى الحياة اليومية للمواطنين في المناطق الخاضعة للجماعة، فتبقى القوّة العسكرية والتجييش المجتمعي الدائم عاملَ تثبيت سلطتها، من شنّ الحروب ضدّ خصومها، إلى تنفيذ هجمات على الممرّات المائية، إلى جانب هيمنة نموذج المقاتل في المناطق الخاضعة للجماعة، مثالاً اجتماعياً وقيمياً يقيم وفقه الفرد في المجتمع، وما يعنيه ذلك من تقويض أسس الحياة المدنية ومعايرها، ناهيك بتحويله استثماراً دائماً في صراعات الجماعة. وإذا كان تضخّم القطاعات العسكرية والأمنية في أجهزتها المُتعدّدة، وعلى مدى عقد من الزمن، أدّى إلى طغيانها على المؤسّسات المدنية، وأيضا أدلجتها، في مقابل استبعاد الكادر العسكري المؤهل، الذي كان يمثل جيش الدولة اليمنية قبل إسقاط صنعاء… إذا كان ذلك، فإنّ استمرار احتكامها إلى عسكرة السلطة والحياة يقوّض خيارات الجماعة الأخرى، بما في ذلك التحوّل قوّةً سياسيةً في المستقبل، إذ إنّ الاعتماد على الحروب وحدها سواء في النطاق المحلّي أو الإقليمي لا يُشكّل خياراً آمناً، وبالطبع دائماً، يضمن تثبيت السلطة واستقرارها.
في المحصّلة، وبعيداً عن سمات تجربة جماعة الحوثي في السلطة وتحوّلاتها طيلة عقد، فإنّ ما يخدمها، تماماً كأيّ جماعة دينية، هو تماسك بنيتها الداخلية، لأنّه عامل تعضيد وإسناد، قد يمكّنها من استمرار تغلّبها على السلطة، إلّا أنّ مثالبَ الاتّكاء على العصبية المُؤسَّسة على الولاء المذهبي وحده، لا تقتصر على تجاهل تحوّلات الشرط المجتمعي، خاصّةً في بيئة صدّعتها الحروب كاليمن، بل تأثير العامل الزمني على الولاء المذهبي، إضافة إلى تأثير الزمن على بنية الجماعة نفسها، ومدى تماسكها، فضلاً عن تناقضات مصالح زعامات أجنحتها، وكذلك ديناميكيات البنية التنافسية داخل الجماعة، سواء في إطار هياكل السلطة والدولة أو في مُؤسّساتها الأمنية والعسكرية المُتعدّدة والمُولِّدة للصراع، التي قد تُؤدّي إلى إضعافها مع الوقت، ومن ثمّ إضعاف تحالفاتها المجتمعية والسياسية القائمة أساساً على القهر والإخضاع، التي لا تحتاج إلى محفزّ لاستعادة كرامتها، ناهيك بالدفاع عن مصالحها، فضلاً عن آليات عمل القوى المناوئة للجماعة، ومن ثمّ إذا كانت الغلبة مشروطةً باستدامة الصراع، وفي الحالة اليمنية بالحرب، فإنّ حركة التاريخ، وإن كانت مساراً صاعداً في الزمن، لا تعني بالضرورة دوام سلطة الطغيان.
* كاتبة وناشطة يمنية
المصدر: العربي الجديد