بكر صدقي *
كانت كلمة السر الأمريكية للتعامل مع الحرب الإسرائيلية الإبادية على قطاع غزة، منذ بدايتها، السعي إلى عدم تحويلها إلى حرب إقليمية شاملة.
وتحولت هذه العبارة السحرية إلى مدخل كل الناطقين باسم الدول في الإقليم وفي العالم. لشدة وضوحها لم يشعر أحد بالحاجة إلى توضيح العبارة: فهي تعني وجوب استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فقط، وعدم فتح جبهات جديدة على صلة بها.
ما حدث في الواقع أن إسرائيل قد واصلت حربها على غزة إلى أن دمرتها وقتلت، إلى الآن، أعداداً مهولة من المدنيين بالقياس إلى مساحة القطاع وعدد سكانها المنكوبين. وفي الوقت نفسه واظبت القوة العسكرية الإسرائيلية على الفتك بفلسطينيي الضفة الغربية. والآن ها هي تطلق حملتها العسكرية على لبنان، فتقتل قرابة خمسمئة شخص في يوم واحد وتهجّر مئات الآلاف من سكان جنوب لبنان وسهل البقاع. وقبل ذلك، طوال فترة ما سماه حزب الله «حرب الإسناد والمشاغلة» اصطادت إسرائيل أكثر من خمسمئة من مقاتلي الحزب وقادته الميدانيين في عمليات متفرقة، غير من قتلتهم على الأراضي السورية.
القيادة الإيرانية وحدها فهمت الرسالة الأمريكية بشأن الحرب الشاملة فأعلنت صراحة أنها لا تريدها، والتزمت بذلك طوال عام الحرب. أما اليوم، في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بتدمير جنوب لبنان وإمكانيات حزب الله العسكرية معاً، وتهجير الحاضنة المفترضة له وإفراغ المنطقة من سكانها، فلم تكتفِ القيادة الإيرانية بما سبق من التزامها «حدود الأدب» بل راحت تستجدي الرحمة من الإدارة الأمريكية لتقبل هذه بالعودة للتفاوض معها، ليس على وقف الحرب بل على العودة إلى الاتفاق النووي! في الوقت الذي عادت واشنطن لإرسال أسطولها الحربي إلى شواطئ «شرق المتوسط»! فإدارة بايدن المنشغلة بالمعركة الانتخابية التي ستجرى بعد أسابيع قليلة ليست بصدد إضاعة وقتها بأي شيء آخر باستثناء «حماية» الوحش الإسرائيلي من ضحاياه! وهي تواظب على تكرار وجوب «عدم الانزلاق إلى حرب شاملة»!
إنها لمفارقة كاشفة أن إسرائيل تواصل حربها المدمرة على ثلاث جبهات، غزة والضفة ولبنان، في الوقت الذي يجتمع فيه قادة العالم في نيويورك «عاجزين» عن فعل أي شيء لوقف هذه الحرب المجنونة، غير تكرار المفتاح السحري إياه: التحذير من الانزلاق إلى حرب شاملة! بحيث يصبح معناها: «لا يتدخّلنّ أحد لمواجهة الحرب الإسرائيلية الشاملة على جوارها حتى تتحقق أهدافها»! والأهداف الإسرائيلية مرنة تتوسع كل يوم: من تحرير الرهائن والقضاء على حركة حماس، إلى تهجير سكان غزة بعد قتل أكبر عدد ممكن من مدنييها، إلى قتل المزيد من سكان الضفة الغربية، إلى ملاحقة القادة الفلسطينيين أينما كانوا وصولاً إلى العاصمة طهران، إلى تدمير قدرات حزب الله لإعادة النازحين من شمال إسرائيل إلى بيوتهم مقابل تهجير سكان جنوب لبنان. كل هذه الأهداف تُحققها إسرائيل تباعاً، وتواصل تحقيقها، بدعم أمريكي كامل، مقابل التزام إيراني كامل بـ«عدم الانزلاق» الشهير!
وكشفت الأيام الأخيرة عن مدى هشاشة الخرافة الشائعة بصدد «توازن الرعب» المزعوم بين إسرائيل وحزب الله، ومدى التغلغل الاستخباراتي الإسرائيلي في بنية الحزب. فقد كانت موقعة «البيجر» التي مهدت للهجمات الإسرائيلية على لبنان بمثابة ضربة قاصمة كان على قيادة الحزب في أعقابها أن تعيد حساباتها بشأن ورطتها الكبرى وتوريطها لبنان في هذه الحرب الخاسرة تحت عنوان «حرب المساندة والمشاغلة».
فالحزب نفسه، ومعه لبنان، بات في حاجة إلى مساندة ومشاغلة أعلنت إيران أنها ليست بصدد أي تورط فيهما. هذا وما من داعٍ لذكر النظام السوري «المنشغل» بقصف إدلب وتشكيل حكومته الجديدة والمُلتزم كظهيره الإيراني بالنأي بنفسه عن الحرب الدموية الجارية في غزة والضفة وقربَ حدوده.
سنسمع الكثير من الخطابات في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فلا أحد من قادة العالم يريد أن يفوّت هذه الفرصة للظهور على الشاشات وإطلاق الكلام الفارغ للتغطية على الجرائم المرتكبة في عدد من مناطق الصراع، أبرزها الأراضي الفلسطينية ولبنان والسودان وأوكرانيا وسوريا، وهذا غير الجرائم غير المرئية في فروع المخابرات (في سوريا مثلاً لا حصراً) وفي البحر المتوسط الذي يواصل ابتلاع جثث الغرقى من اللاجئين ممن يحلمون بحياة جديدة آمنة، أو جريمة التجويع التي يعاني منها سكان مخيمات اللجوء في كل مكان.
كل الكلمات تفقد معانيها في عالم لا يكترث إلا للقوة. ولا عزاء لضحايا مقتلة لا يريد لها أحد أن تتوقف عند أي حد.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي