فارس خشان *
لم تكن الموجة الأولى من النزوح من جنوب لبنان المستهدف بـ”سهام الشمال” الإسرائيلية، قد بدأت، حتى علا الصراخ من كل حدب وصوب: “لا فرّش للنوم”. النازحون، وغالبيتهم ممّن تعثرت أوضاعهم المالية، ذهبوا إلى المدارس التي فُتحت أبوابها لهم. وجدوا فيها السقف، ولكنهم لم يجدوا أدنى مستلزمات العيش.
الجهات الرسمية والمؤسسات الإنسانية لم تكن قادرة على توفير هذه الفرش. التجار ليست لديهم الكميات المطلوبة. والمعامل لا تستوعب كمية الطلب، فلا اليد العاملة كافية ولا المواد المستوردة متوافرة.
لقد كان واضحاً أنّ جميع من يفترض بهم أن يكونوا على استعداد لاحتواء تداعيات الحرب على “الجبهة الداخلية” لم يكونوا كذلك. لقد أخذوا على حين غرّة، في بلد يعاني حرباً حدودية وتهديدات متواصلة، منذ أكثر من 11 شهراً!
لا تقتصر الأمور، بطبيعة الحال على فرّش النوم، بل تتعداها إلى أوجه كثيرة: قدرة استيعاب المستشفيات، وقد أصيبت بالاختناق مبكراً، وهي عاجزة عن أن تكمل المطلوب منها، في القريب العاجل. فرق الدفاع المدني، وهي تفتقر إلى الأجهزة التي يمكن أن تعينها على إنقاذ الأرواح من تحت أنقاض الأبنية المهدمة. بناء واحد في الضاحية الجنوبية، احتاج إلى أسبوع تقريباً لسحب من أصبحوا، بفعل العجز، جثثاً، تحت أنقاضه.
هذه الفوضى وهذا العجز وهذا التقصير، تقع مسؤولياتها على طرف واحد: “حزب الله”!
الدولة اللبنانية التي انهارت رسمياً في خريف عام 2019، لا علاقة لها بهذه الحرب، فهي مجرد شاهد عليها. مهمتها الوحيدة أن تكون في خدمة “حزب الله” حيث يطلب منها ذلك. المرآة التي تعكس حقيقة موقع الدولة اللبنانية ممّا يحصل على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 يمثلها الجيش اللبناني خير تمثيل. كل ما فرضه “حزب الله” على مؤسسات الدولة اللبنانية، دستورية وعسكرية وأمنية، أن تتركه يقود الحرب التي قررها هو، من دون أي تدخل أو إزعاج. استدعى “حزب الله” الحكومة لتوفير التعويضات التي تحتاج إليها بيئة مقاتليه وأنصاره. واستدعى وزارة الصحة إلى أن تتولّى مسؤولية رعاية الجرحى وتصوير جميع الضحايا كما لو كانوا مدنيّين، بطريقة تحاكي دور وزارة الصحة التابعة لـ”حركة حماس” في غزة.
واستدعى الحزب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بو حبيب، إلى التغطية دبلوماسياً على حربه. لولا بعض “الاجتهادات” التي تخرج منهما، في لحظة “صفاء وجداني”، لكانا مثلهما مثل “كريستيان” الذي يخاطب “روكسان” بكلمات سيرانو دو برجوراك!
هذه الدولة اللبنانية المُتهالكة لم تكن قادرة على تجهيز نفسها لهذه النوعية من الأعباء. عجزها لا يعود فقط إلى عدم توافر الإمكانيات المالية لديها، بل إلى جهلها بإمكان حصول ما حصل.
أقنع “حزب الله” الجميع بأنّ “جبهة المؤازرة” التي فتحها على الحدود اللبنانية لن تجرّ إلى حرب إسرائيلية على لبنان. كان يوزع من يحذرون من حصول حرب على فئتين: الجهلة وصهاينة الداخل.
“حزب الله” قدّم سردية واضحة تقوم على المعادلة الآتية: صواريخي أوجدت حالة ردع. وحالة الردع هذه تمنع إسرائيل من ارتكاب حماقة شنّ حرب على لبنان.
أمين عام حزب الله حسن نصرالله الذي لم يعلّق بعد على بدء إسرائيل حربها على لبنان، بإطلاق عملية “سهام الشمال”، ذهب في اطمئنانه حيال “معادلة الردع”، إلى أبعد أبعد من ذلك، إذ طلب، بعد انتهاء ما سمّاه “عملية الأربعين”، أي الهجوم الذي شنه على إسرائيل كرد على اغتيال قائده العسكري الأعلى فؤاد شكر، من أبناء الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب، ممّن غادورا منازلهم، تحوّطاً، بالعودة إليها، ونصح الدولة اللبنانية وعموم اللبنانيين بـ”التقاط أنفاسهم”. بالنسبة إلى نصر الله كان الخطر قد زال نهائياً.
وعليه، عندما بدأت إسرائيل حربها كان “حزب الله” والدولة التي يستخدمها في “حالة إنكار” بدل أن يكونا في “حالة استنفار”.
حالياً، بدأ الناطقون باسم “حزب الله” يغيّرون السرديّة، تماماً كما كان يفعل “الأخ الأكبر” في رواية جورج أورويل السياسية “1984”. هؤلاء الذين طالما سخروا ممّن يحذرهم من الحرب بدأوا يتحدثون عن معرفتهم بخطة إسرائيلية لضرب لبنان، بدأ التحضير لها قبل عشرين سنة. غريب، هناك فعلاً من يصدّقهم!
النقص في فرش النوم، ليس ظاهرة اجتماعية. إنها ترجمة مباشرة لغباء استراتيجي غير مسبوق.
لا يخطئ خبراء الاستراتيجيا وهم يكررون، من دون انقطاع، أنّ أخطر ما يمكن أن تتعرض له الشعوب يبدأ في اللحظة التي يتحكم فيها “جموح الأيديولوجيا” بالعقول!
* كاتب وصحفي لبناني
المصدر: النهار العربي