عبد الباسط حمودة
في فجر يوم الخميس في 28 أيلول/ سبتمبر 1961 قامت مجموعة من الجيش السوري بالتحرك من معسكرات (قطنا) باتجاه دمشق، واستطاعت السيطرة على الإذاعة ومحاصرة مقر القيادة في الأركان، لتعلن فك عرى الوحدة بين مصر وسورية والقضاء على الجمهورية العربية المتحدة.
منذ تلك اللحظة أثارت حركة الانفصال الكثير من السخط والغضب حول مراميها وأهدافها وتداعياتها والقوى المحركة لها، وأحدثت صدمة كبيرة في الشارع العربي لكونها ضربت هدفاً سامياً من أهدافه، وأحدثت نوعاً من الشرخ وأزمة ثقة بين أهم الأطراف التي ساهمت في تحقيق الوحدة وتجسيدها سياسياً، وتراشقت الأطراف السياسية التهم المتبادلة تجاه ما حدث، ومسؤولية كل طرف فيه، ما فتح الباب على مصراعيه لولوج الأمة مرحلة جديدة من التنابذ والخلاف والتباعد، فما هي أهم ملامح موقف المرحوم جمال عبد الناصر من الانفصال؟ وهل استطاعت الأمة العربية تجاوز هذا الحدث بعد 61 عاماً على وقوعه؟
يمكن تلمس الخطوط الأساسية لموقف عبد الناصر من خلال الخطابين اللذين ألقاهما من مقر الإذاعة في القاهرة (وهي المرة الأولى التي ينتقل فيها إلى الإذاعة للتحدث إلى الشعب)، يوم وقوع الانفصال (صباح ومساء يوم الخميس)، وكذلك من مجموعة الأحاديث والخطب التي ألقاها في الأيام والأسابيع التي أعقبت يوم الانفصال المشؤوم، وقد كان موقفه السياسي على النحو التالي:
ـ أن حركة الانفصال استثنائية وهي أخطر من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ـ جاء الانفصال ضد التوجه الاشتراكي وأنه جاء رداً على قرارات التأميم التي أصدرتها الجمهورية العربية المتحدة.
ـ أوضح أن الوحدة تعبير عن إرادة شعبية، وبالتالي لا يمكن تحولها لـ«عملية عسكرية» ولا يجوز حمايتها بالقوة العسكرية، فقد ألغى العمليات العسكرية التي أمر بتنفيذها، وأمر قوة المظليين التي وصلت إلى اللاذقية (120 مظلياً) بعدم إطلاق النار وتسليم نفسها إلى قائد المنطقة البحرية على الساحل السوري، متسائلاً: لمصلحة من يمكن سفك الدماء؟ وكيف نحارب بعضنا البعض والأعداء تتربص بالأمـة؟
ـ بيّن أن حركة الانفصال جاءت نتيجةَ دعمٍ خارجي رجعي- استعماري، وبالتالي فإن «الاتحاد العربي» الذي جمع العراق والأردن وعلاقاته الإقليمية وارتباطاته الدولية هو المحرك والداعم.
ـ أعلن أنه لا يريد أن يقيم حصاراً سياسياً أو دبلوماسياً حول سورية، لذلك فإنه لا يقف في وجه طلب قبول سورية عضواً في الأمم المتحدة، أو جامعة الدول العربية، وقد طلب من جامعة الدول العربية تكليف لجنة للتحقق من احتياطي الذهب وغطاء العملة السورية، وما قدمته مصر وطبيعة الأعمال التي كان يقوم بها أبناء الإقليم المصري في سورية، إضافة لموضوع المعتقلين.
ـ اعترف بالأخطاء التي أوصلتنا إلى الانفصال، أولها الاطمئنان إلى الرجعية والاعتقاد أن الرجعيين «تابوا» ويتجهون لهدنة عربية، وثانيها الغرور الذي طال الجميع والتوهم بأن الأمور «استتبت لنـا» فبدأت الخلافات بين القوى الوطنية، وثالثها الاعتقاد أن «الكفاح من أجل الوحدة والقومية العربية انتهى وبدأ الكفاح من أجل الحكم، أو من أجل السلطة، وهذا أكبر خطأ وكلنا أخطأنا في هذا».
ـ أكد على التمسك بالهوية، وأن الوحدة العربية ترتبط بآمال ومشاعر الناس وأهدافهم، وبالتالي فإن حركة الانفصال لن تزعزع الإيمان بالأفكار التي قامت عليها الوحدة، فرغم الأسى والألم فإن التمسك بالعروبة أقوى، كما أن الشعور بالمرارة لن يغلب العقل والحكمة.
ـ أعاد التذكير بالوحدة المدروسة وبما كان قد طرحه في محادثاتها، واقتراحه إنجاز الوحدة على مراحل (خمس سنوات)، فيتم تحقيق الوحدة الاقتصادية والعسكرية والثقافية ثم نتجه بعد ذلك إلى «الوحدة الدستورية».
قد يثار الكثير من النقاش حول موقف المرحوم عبد الناصر سواءً لجهة إيقافه العمليات العسكرية وخضوعه للضغوط الدولية، أو لجهة عدم الإقرار بمستوى الخلل الذي أحدثته الأجهزة الأمنية من تسلط وإرهاب، وقمع، وتنكيل وانتهاك…، أو لجهة غياب التخطيط لإقامة الوحدة، أو لجهة طبيعة «القرارات الاشتراكية» بحد ذاتها إلخ.. رغم كل هذه المسائل، وغيرها، فإن عبد الناصر التقط جوهر حركة الانفصال وأوضح عمق خطورتها على حاضر الأمة العربية ومستقبلهـا.
من هنا نلاحظ أنه لم ينجح في إعادة تجديد الوحدة، وفشلت المحادثات التي جرت بينه وبين حزب «البعث» الذي وصل إلى حكم سورية والعراق عام 1963، وبهذا الفشل تكرس الشرخ وتأكد للجميع حجم ودور حزب «البعث» التخريبي وارتباطاته، وترسخت الحدود الكيانية رغم الضجيج القومي والصراخ العالي بالانتماء العربي، بدليل أن حزب «البعث» عجز عن إقامة الحد الأدنى من العلاقات الودية بين سورية والعراق، لدرجة غدت خلافات «الحزب» المذكور تطغى على كل ما عداهـا.
وعليه يمكن القول إن وصول حزب «البعث» إلى الحكم بمزاعمه القومية، قد مارس سياسات غير وحدوية، بل انفصالية، فقد سمم العلاقات العربية، مما جعل ذهنية الانفصال واقعاً مجتمعياً وسلوكاً سياسياً، وأوقع الأمة العربية، ولم يزل، في أتون الصراعات الداخلية والتشظي المجتمعي، لذلك فإن أعداء الوحدة الذين نجحوا في ضربها عام 1961 استفادوا بطريقة أو بأخرى من «أنظمة الحكم التي تزعم الوحدة» لإبقاء الانفصال راسخاً ومعششاً في ثنايا الواقع العربي؛ وقد توافق يوم الانفصال المشؤوم مع رحيل عبد الناصر في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، رحيل رجل عربي عظيم، أدى دوره باقتدارٍ وشجاعة، وبجسارةٍ وبسالة ثم مضى كالبرق في لحظةٍ عاصفة من تاريخنا المعاصر ورحل عن دنيانا، وغاب؛ غاب عنا قبل 52 عاماً.
فقد قام جمال عبد الناصر منذ ظهوره على المسرح السياسي في أعقاب ثورة 23 تموز/ يوليو التي قادها في مصر عام 1952، وحتى مغادرته لمسرح الحياة، بدورٍ تاريخي استثنائي، لم يستطع أحدٌ غيره من القادة السياسيين والثقافيين والاجتماعيين القيام به في التاريخ العربي الحديث والمعاصر ربما منذ ما يقرب من ألف عام، وحين نقول ذلك فإننا لا نلقي بالكلام جزافاً أو على عواهنه، فإن ما أنجزه خلال 18 عاماً فقط وهو (عمر قصير سياسياً)، على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعلى الصعيدين الداخلي والعربي وعلى المستوى العالمي، وبما امتلكه من تأثير واضح وحضور كبير في مصر والوطن العربي، وما تركه لأمته العربية من مشروع نهضوي وحدوي، توافقت عليه بعده، والتزمت به، قوى وحركات سياسية من مختلف المنابع الفكرية قومية وإسلامية ويسارية، يؤكد ويدعم صدقية وصحة ما تركه وذكره، فقد أحدث عبد الناصر من خلال صراعه الملحمي مع الاستعمار والصهيونية وقوى الرجعية والتخلف والجمود، نقله نوعية فاصلة في الحياة العربية المعاصرة بكافة منحنياتها وتجلياتها، وأصبح ظاهرة سياسية كبرى، هي أكبر ظاهرة سياسية لحاكم عربي منذ مئات السنين.
إن جمال عبد الناصر الغائب منذ 1970 كان حاضراً طوال السنوات الـ 52 الماضية؛ كان حاضراً رغم كل المحاولات المستمرة والمتواصلة والحملات الضارية لتشويه دوره وإدانة تجربته وتدمير انجازاته، ذلك أنه كان حاضراً في ضمير الجماهير على امتداد الساحة العربية كلها، تلك الجماهير التي أحبته كما لم تحب رجلاً من قبله أو من بعده، وأعطته من تأييدها وثقتها ما لم تعطه لأحد من قبله وما لم تعطه لأحد من بعده، إن الجماهير تعاملت معه بشرفٍ وأمانة، عتبت عليه مرات وغفرت له أخرى، ورضيت عنه تارة وغضبت منه أخرى، قاتلت معه في معركة السويس عام 1956، واندفعت معه لتحقيق حلم الوحدة العربية عام 1958، ووقفت معه وأعطته تأييدها يوم بداْ مرحلة بناء مجتمع الكفاية والعدل عام 1961 حتى أرساه، ووقفت معه يوم نكسة الانفصال عام 1961، وبنت معه السد العالي وأقامت معه أكبر قاعدة للصناعة حيث شيدت الآلاف من المصانع والمعامل واستصلحت معه ملايين الأفدنة لزيادة الخضرة على أرض مصر، وانطلقت معه تأييداً ودعماً بل وقتالاً إلى جانب ثورات الجزائر وفلسطين واليمن وجنوبه، وتمسكت به قائداً، ورفضت قراره بالتنحي رغم الهزيمة في حزيران/ يونيو 1967، ووقفت معه صامدة تبني خلال سنوات 1967 و 1968، ووقفت بعدها تحارب معه في حرب الاستنزاف خلال عامي 1969 و1970، واستعدت معه لتخوض حرب التحرير؛ وقد بكتهُ الجماهير يوم رحيله كما لم تبكِ قائداً من قبل ولا من بعد، وكان يوم وداعه في رحلته الأبدية يوماً فريداً وحزيناً لم تشهد له أرض العرب وربما العالم كله مثيلاً لا من قبل ولا من بعد.
إن عبد الناصر الغائب لا زال حاضراً، وسوف يبقى حاضراً مع أمته وقوى الحرية والتحرر، بالمبادئ والأهداف التي أرسى قواعدها وبلور مفاهيمها وحدد معالمها، باعتبارها تعبيراً صادقا وأميناً عن طموحات وأحلام الأمة العربية، تلك الأحلام والطموحات التي بدأت منذ مطلع القرن الـ20، ونشأت من خلال المعاناة والعذاب الذي عاشته الجماهير العربية بالقرون الماضية ونضجت وسط الصراعات التي سادت المنطقة، وانصهرت في ظل معارك اللهيب والنار والدم التي جرت فوق أرضنا العربية وتشكلت وسط الظلام الذي أطبق عليها كلها وتبلورت انتظاراً لشعاع ضوءٍ يشق الظلام حتى يسطع النور ويسود.
كثيرة هي التحديات المصيرية التي تواجه أمتنا العربية وشعوبها هذه الأيام، والتي تجب معالجتها وإيجاد الحلول الجذرية لها، وعدم ترك حلها بيد القوى الكبرى وللظروف السياسية العالمية التي ستزيدها صعوبةً وتعقيداً، إن تلك التحديات ليست تحديات عابرة يمكن تجاوزها أو حلها باجتماع قمة أو بلقاء سريع ثنائي أو جماعي، إنها تحديات تتصل بمستقبل ومصير الأمة العربية وتشكل خطراً داهماً على وجودها القومي والحضاري إذا لم تتمكن من مجابهتها والتعامل معها كخطر حقيقي لا مفر من الاعتراف بوجوده ومن ثم العمل بكل قوة وحزم لتفاديه والتخلص منه؛ ولا شك أن هناك الكثير من التحديات الخطيرة والصعبة التي تعترض طريق التقدم والتطور، مثل تحدي الاستبداد والاحتلالات المرتبطة به، والتحدي الصهيوني، والتحدي الديمقراطي، والتحدي الحضاري، وتحدي بقاء الأنظمة الاستبدادية القطرية على ما هي عليه، باعتبارها عقبة كأداء، وغيرها من التحديات الأخرى.
وليس غريباً القول إن ما وصلت إليه الأوضاع العربية، من حيث المبدأ، هي من تداعيات حركة الانفصال وارتداداتها، فكيف يمكن إيقاف مسار التفتيت والتشظي؟ وهل يمكن أن يبقى توجه عبد الناصر النهضوي مدخلاً لمستقبلٍ واعد؟ وكيف؟