عبير نصر *
تبدوان، كلمتا الاستبداد والطغيان، متناغمتَين إلى حدٍّ كبيرٍ، يجنح كلٌّ منهما إلى الآخر تلقائياً، كما يحصل عادةً إبّان حكم الانقلابيين العسكريين، حافظ الأسد مثالاً. أمّا أن ترتبط هاتان المُفردتان بـسياسةِ “التهريج والهزل”، فهذه سابقة عجيبة لم يشهدها السوريون إلّا في عهد بشّار الأسد، الذي يعيش حالياً حالةً مزريةً من التخبّط والهذيان والانفصام، وهي أكثر مؤشّرات الشيخوخة السياسية أهمّيةً لـ”رئيس” لا يعرف كثيراً عن السياسة وشؤونها وتركيبها وتعقيدها، ما دفعه إلى التورّط في خطاباتٍ ومساراتٍ ومواقفَ جرّت عليه سخريةً شعبيةً وإعلاميةً لم يتعرّض لها أيٌّ من أسلافه السوريين. هذا التمهيد، ثنائيُّ الطرح، جديرٌ بنظرة متسائلة عن مآل الأسد، خاصّة أنّه أمام تدفّق الوقائع والأحداث السورية، وتنوّع المرويّات التراجيدية الراهنة، يبدو الطاغيةَ المُتخيَّل في إحدى جمهوريات الكاريبي في رواية غابرييل غارسيا ماركيز “خريف البطريَرك”، استعارةً لطيفة لشخصية بشّار الأسد، ومطالعةً عميقة في أطوار حكمه المشبعة بعظمة السلطة وبؤسها، باعتباره الطاغية الأكثر وحشيةً خلال آخر عقد، ومن مخرجات فشله السياسي الكارثي تصدّر سورية قائمة البلدان الأكثر فساداً، وفق تصنيف منظّمة غلوبال ريسك، وأيضاً أخطرها، بحسب صحيفة الإندبندت البريطانية، للعام 2023، كما صُنِّفت العاصمة دمشق أسوأَ مدينةٍ يمكن العيش فيها في العالم. بطبيعة الحال، يُعتبر كلُّ ما تقدَّم ركيزةً أساسيةً لنظرةٍ متأمِّلةً تتناول آخر خطاباته أمام مجلس الشعب، بمناسبة افتتاح الدور التشريعي الرابع للمجلس، إذ في القاعة المزدحمة بالتابعين، وهم “ذمّيون سياسياً” لسيادةِ عائلةٍ مافياويّة، ارتفع تهريج الأسد إلى مستوى السياسة الجادّة في زمنٍ سوريٍّ حَرِجٍ، فكان لسردياته الاجترارية أُحْجِيَات فَطِنة واستعارات غير متوقّعة ترصد خريفه السياسي المُتهالك، الذي أوقع السوريين في حمأة المفارقة بين الممكن والمُحال، التي أظهرته جنرالاً مهزوماً في برلمان “سيرك التعويم”.
في السياق، يُؤكّد الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، أنّه عندما تكون السلطة في يد شخص غيرَ مؤهّلٍ فإنّها تظهر جلياً بشكلها السخيف الفاقد للمصداقية، وعليه فإنّ خطابات الأسد، باعتبارها “فزلكات” ثقافوية أكثر منها سياسية، تتفتَّق عن قباحة المأساة السورية وكارثيتها، التي تحوّلت سجناً مظلماً يطلّ على وحشية الأسد وفيض وقاحته، بينما هو مُجرَّد طاغيةٍ مذعورٍ نجا بأعجوبة من السقوط، حتّى اللحظة على الأقلّ. وبالعودة إلى “سيرك التعويم”، وكي لا نسرق اللفظة من معناها، فالأسد لا يتوانى عن ممارسة ألعاب الخفَّة الكلامية المُوشَّاة بفنون الرعب اللغويّة، لتسويق عجرفته الشخصية بكلّ الشرّ الذي يُلطّخها، فينهش لحمَ القوانين والدساتير والأعراف ويضحك. وتبدو خطاباته الهزلية الممنهجة ضرباً لئيماً من الاستلاب الناعم، تلعب دوراً حيوياً في تفريغ العدوانية واحتقانها، وتبسيط الهزائم وفجائعيتها، إذ قالها حرفياً: “أوّل العمل الجادّ هو اجتثاث الهزيمة من عقولنا، عندها سنربح معارك التحرير والازدهار”(!). خطاباته، بالتأكيد، تعادل مجازرَ جماعيةٍ يسيل فيها دم وتتناثر أشلاءُ، وهو يتجنّب ذِكرَ مآسي السوريين الحقيقية، من تراجيديا “الإبادة الجماعية” إلى دراما “قوارب الموت” إلى فظاعات “قيصر” و”حفّار القبور”، إلى مهزلة “الكبتاغون”… إلخ. وهذا غير مسبوق، لأنّها غدت الإسقاط السياسي الوحيد لمسرح الموت السوري، وجنوحه الباذخ صوب العدم وتبعاته.
وبالتزامن مع خطاب الأسد المشؤوم، ولشدّة العاصفة السياسية التي أثارتها كلماته، وهول تبعاتها على أسماع مواليه، وسط تصفيقِ أتباعه “الذمّيين”، يبدو أنّه وصل إلى أرذل فصول العمر السياسي، وهو يُعدُّ أولوياته الراهنة، لا للطمأنة ورفع المعنويات، بل لـ”شرح الواقع كما هو”. بينما لم يتناول قضايا خارجيةً بارزةً كتهريب المُخدّرات وعودة اللاجئين والعلاقات الثنائية، أو قضاياً داخليةً مُلحّةً من قبيل تحسين الرواتب والحلّ السياسي وإعادة الإعمار، بل استمرّ في اجترار سرديته القائمة على رفض الاعتراف بالآخر، والتأكيد على موقفه من محور “المقاومة”، باعتباره الأنموذج الذي يُقتدى به في طريق التحرير والاستقلال، إلى جانب الإشادة بأبناء الجولان الذين أثبتوا أنّ “غياب السيادة عن أرضهم لا يعني سقوط الوطنية”، متناسياً أنّ أطفالاً سوريين قُتلوا في مجدل شمس منذ أقلّ من شهرٍ، ولم تكن أرواحهم كافيةً لأيّ شجب واستنكار. وبالطبع، لم يخلُ الخطابُ من مشهديات “المُضحِك المُبكِي” المتمخّضة عن زلّات الأسد، الذي وصف السوريين بأصحاب الدخل “المعدوم”، وليس “المحدود”، وهي سقطة “شديدة التأثير” في لعبة التحكّم والترويض الفاشلة. زلّاتٌ من هذا القبيل، وهي الأصدق على الإطلاق من بين كلامه كلّه، لطالما دفعت عتاة الموالين للتصريح: “كنّا نخاف على الرئيس، بتنا نخاف منه”.
وفي الحقيقة، لم يعتدِ السوريون رؤيةَ بشّار الأسد كثيراً في بداية تولّيه الحكم، فظهوره الإعلامي القليل، مقارنةً بنظرائه، اقتصر على خطابٍ أو كلمةٍ أو مقابلةٍ بفتراتٍ طويلةٍ ومتقطّعةٍ، ما يطرح سؤالاً جوهرياً ومُلحاً: هل كثافة خطابات الأسد اليوم، وتكرار فعّاليات ظهوره، حتّى ولو كانت مُجرَّد تشريفات استعراضية لفنّانين ولمدرّسين ولرياضيّين ولشيوخ، دليل احتضاره واندثار مملكته؟ … فشخص بهذه التشوّهات كلّها يلجأ إلى أساليبَ تثير الرثاءَ من شدّة ضحالتها، والحال كذلك، تبقى قاعةُ مجلس الشعب آلةَ الضخّ الوحيدةِ لذات بشّار الأسد المُنفلتةِ من أيّ قانونٍ، والمتنكّرة للواقع، يحصد من خلالها جولاتٍ متصلةً من التصفيق، والزعيق بأحقّيته في حكم العالم بأسره، لأنّ سورية قليلةٌ جدّاً عليه. في هذا الوقت، وبينما يرغي الأسد ويزبد بكلام رومنسيٍّ لا يسمنُ ولا يُغنِي من جوعٍ، من قبيل “حصار العقول أخطر وأشدّ فتكاً من حصار البطون”، ينسحب السوريون إلى كانتونات آلامهم، يفترشون بطونهم الجائعة. تراهم أشبه بشعب “أمثولة الكهف” لأفلاطون، أولئك الذين بهرتهم شمس الحقيقة، ففضّلوا العودةَ إلى ظلام كهفهم.
وبمقارنة هذا الخطاب بسابقيه، يتبيّن أنّ لا جديد فيه، ولا تغيُّرَ في ذهنية الأسد الحريص على تكرار الحديث عن “المؤامرة” و”الصمود”، وعلى الإصرار على لغة “الإنكار” بشّأن وجود أخطاء ارتُكِبت سابقاً، بل وتحميل المسؤولية للأطراف الخارجية والاستهزاء بالعالم. لا جديد ربّما سوى أنّه ظهر بكامل عجرفته ردّاً على بعض “التقارير الصفراء” التي أفادت بهروبه ومكوثه في روسيا. ومن غير تعسّف في قراءة هذا الظهور الإشكالي، الذي ينطوي على ما هو أبعد من حالة جنرال “مُحتضِرٍ سياسياً” استجلب شياطين الأرض كلّهم إلى سورية لنجدته، فهو قد فتح باباً واسعاً للتأمُّل في علاقة السوريين مع البطرَيَرك الذي يعيش داخلَ نظامٍ إدراكي خاصٍّ في عقله، بعدما خرجوا من طوق استبداده، ودخلوا في مواجهة استبداد خفيٍّ لم تتحدّد بعدُ ملامحه الكُبرى.
أنْ ينتسب الطغيان إلى سلطةٍ سخيفةٍ هو أمر مستحيل، لكنّه تمّ بالفعل خلال حكم بشّار الأسد، وليس من المبالغة في شيء القول إنّ معاناة الأخير من عقدة والده “الكاريزماتية”، بعدما فشل فشلاً ذريعاً في قنص هيبته الشعبية، ولو بالقوّة، حوّله مسخاً سلطوياً يُخفي وراء مظهره “المتوازن”، وأناقته الأوروبية المُجلَّلة بضحكاته المتعالية، عيوب البشاعة ومركّبات النقص كلّها، تمتدّ بينهما مساحات مهوّلة من أطماعَ ومخاوفَ، لذا يستجرُّ خطاباته المنفصمة من بحر ظلماته الداخلية المضطربة. ومثلما كتبتها مليشيات الأسد على كلّ دارٍ ومؤسّسةٍ ومستشفىً: “الأسد أو نحرق البلد”، قال البطريَرك العجوز في رواية ماركيز: “أعيش أنا ويموت ضحاياي”، ثمّ كتبها في كلّ مكان، حتّى على جدران المراحيض العمومية في زوايا مملكته البائدة.
* كاتبة وإعلامية سورية
المصدر: العربي الجديد