الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الدكتور نهاد القاسم.. مسيرة مناضل

عزت شيخ سعيد *

ولد “نهاد القاسم بن عمر” في مدينة دمشق عام 1905، لأسرة تعود أصولها إلى قبيلة بني حسن النابلسية في فلسطين (حسب كتاب عشائر بني حسن)؛ حيث كان تنقل العائلات بين مدن بلاد الشام شيئاً معروفاً آنذاك، لعدم وجود حواجز مانعة، وحدود مصطنعة، ولكن سكناهم كان في دمشق وفيها عُرفوا كعائلة دمشقية .

انتقل والده بسبب العمل الى مدينة نابلس قبيل الحرب العالمية الأولى، وهناك استهل ’القاسم‘ تعليمه بمعهد النجاح .

وبعد وفاة والده عادت الأسرة ثانية إلى دمشق ليتابع تعليمه في مكتب عنبر، وليدفعه حبه للمعرفة ونهمه للقراءة إلى ملازمة المكتبة الظاهرية، مطالعاً ومتابعاً لمحاضرات المجمّع العلمي العربي؛ وكان يقوم بتلخيص المحاضرات ونشرها في الجرائد المتوفرة آنذاك، حتى حصل على الثانوية العامة .

تقدم لفحص الشهادة الثانوية (رغم أنه كان بالإضافة لدراسته يعمل بعد وفاة والده، للمشاركة في تحصيل رزق أسرته) وقد فاز بالمركز الأول، الذي أهله للتقدم إلى مسابقة لاختيار كاتب بالعدل، وجعله فوزه بالوظيفة يتنقل بين عدد من المدن والبلدان منهم  بلدة الشيخ مسكين وإزرع بـ(محافظة درعا)، ومدينة حلب، قبل أن يستقر في دمشق ويتابع دراسته الجامعية في كلية الحقوق بدمشق (كانت تسمى أنذاك المعهد الحقوقي)، حيث تخرج منها عام 1935 .

بعد حصوله على الإجازة في الحقوق، التحق بالقضاء وعمل في جهاز تفتيش الدولة، وليتولى رئاسته بعد مدة قصيرة لنشاطه، وليبقى فيه لحين اختياره وزيراً للمعارف في حكومة سعيد الغزي 19 حزيران/ يونيو من عام 1954 والتي تشكلت أيام حكم الرئيس هاشم الأتاسي، وبانتهاء الوزارة عُقّب تقديم سعيد الغزي لاستقالته واستقالتها، عاد “نهاد القاسم” إلى عمله في مكتب تفتيش الدولة، وظل رئيساً للتفتيش حتى قيام الوحدة المصرية السورية عام 1958 .

وفي تلك الفترة شغل أيضاً منصب رئيس جامعة دمشق بالوكالة، خلفا للدكتور سامي الميداني، بالإضافة لعمله كمدرس في كلية الحقوق .

 بعد انجاز الوحدة المصرية السورية، والتي أسفرت عن قيام الجمهورية العربية المتحدة، تلك الوحدة التي كانت مطلباً شعبياً، وكانت مطلب النخب السياسية والعسكرية أيضاً، لأنها وحدها كانت قادرة على حماية سورية من مشاريع الاستقطاب التي عرفتها المنطقة وقت ذاك .

فبعد الإعلان عن قيام الجمهورية العربية المتحدة وتشكيل أول وزارة، كلفه الرئيس جمال عبدالناصر بتولي وزارة العدل، فشهدت الوزارة في عهده أكبر حملة تطوير وتفعيل للجهاز القضائي في سورية، حيث وصلت به الرغبة في نزاهة واستقامة الجهاز القضائي الذي يقوده إلى إجراء تحقيق سري حول كل قاضٍ يتقدم للتعيين، ومعرفة كل صغيرة وكبيرة عنه، فسلامة الجهاز القضائي هو الضمان الحقيقي لسلامة باقي مؤسسات الدولة .

بعد الانفصال عاد إلى سورية، رافضاً التعاون مع حكومة الانفصاليين رفضاً تاماً، رغم أواصر الصداقة التي كانت تربطه مع العديدين منهم، مما عرضه للاعتقال عدة أشهر، وبعد خروجه من السجن، أصبح يُنّظر إليه  كزعيم للتيار الوحدوي، الذي يطالب بعودة الوحدة ببن مصر وسورية، ذلك التيار الي أطلق عليه فيما بعد (التيار الناصري)، وزادت مكانته في هذا التيار الوطني العروبي بعد أن أثنى الرئيس جمال عبدالناصر على موقفه وأشاد بنزاهته في واحد من خطاباته السياسية في مدينة بورسعيد في ذكرى تحريرها .

وبعد حركة 8 آذار (التي أسقطت الانفصال، وتم التعويل في بدايتها على إعادة الوحدة بين القطرين الشمالي والجنوبي) عُين “نهاد القاسم” وزيرا للعدل ونائباً لرئيس وزراء سورية- صلاح البيطار- في 9 آذار/ مارس من عام 1963 وقد شغل- البيطار- إضافة لمنصبه كرئيس للوزراء نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة الذي شغله اللواء “لؤي الأتاسي”، وفي هذه الوزارة شغل الدكتور جمال الأتاسي منصب وزير الإعلام، ولم يبّقيا كلاهما في منصبهما سوى بضعة أشهر .

ترأس “نهاد القاسم” الوفد السوري في مفاوضات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية  والعراق، الذي عقد في القاهرة عام 1963، وبوصول محادثات الوحدة إلى طريق مسدود، بسبب عرقلة الوفدين السوري والعراقي لها، وفور عودته الى دمشق، استقال من منصبه في وزارة ’البيطار‘ .

عقب فشل حركة 18 تموز/ يوليو  1963، التي قادها العقيد “جاسم علوان”، لإسقاط نظام البعث (الذي بدأت تتكشف نواياه في الانفراد بالسلطة، ومنع عودة الوحدة، وإعلان الأحكام العرفية)؛ والتي تعامل معها نظام البعث بعنف وقسوة غير معهودة في سورية سابقاً، عبر الاحكام الميدانية والاعدامات المباشرة التي أشرف عليها وزير الداخلية اللواء “أمين الحافظ” والمحكمة الاستثنائية سيئة الصيت التي ترأسها اللواء “صلاح الضلي” .

أسفرت تلك المحاكمات الميدانية عن إعدام اكثر من ثمانين ضابطاً وحدوياً؛ وسُرح المئات من الضباط الوحدويين (الناصريين)، وتم اعتقال العقيد “جاسم علوان” والدكتور “نهاد القاسم”، ونقلا إلى سجن المزة، وحكم عليهما بالإعدام؛ وتم أيقاف الحكم في اللحظة الأخيرة، بعد ضغوط مصرية وعربية عمل عليها وقادها الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أحمد بن بللا .

وبالفعل تم إطلاق سراحهما بعد ستة أشهر من اعتقالهما؛ ليتم نفي ’علوان‘ الى مصر، وليختار ’القاسم‘ الانتقال إلى بيروت، ليتابع نشاطه السياسي هناك قريباً من دمشق .

في بيروت قام بتأسيس الجبهة العربية المتحدة، التي استمرت في نشاطها السياسي إلى حين الدعوة لتأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية، والتي سبقتها مشاورات مع القيادة المصرية، بدأت أولاً بقدوم الأخ “صبري الخولي” مندوباً عن الزعيم جمال عبد الناصر، للتحضير للمؤتمر التأسيسي، وكذلك ذهاب الدكتور “نهاد القاسم” للقاء عبد الناصر استكمالاً للتحضيرات .

كانت العلاقة التي تربط الراحلين الكبيرين عبد الناصر و “نهاد القاسم” قائمة على إدراك كل منهما لأهمية مشروع الوحدة العربية كحل لما تعانيه أقطار الأمة العربية من ضعف وتشتت وتخلف، تتصادم وتتصارع أكثر مما تتفاعل وتتفاهم وتتكامل، وبتشتتها وتشرذمها- نقصد أنظمة الحكم العربية- تُحقق مصالح الدول الكبرى التي تتبع لها وتتحامى بها، رغبة منها في البقاء في السلطة، ولو على حساب مصالح شعوبها وأمتها ومستقبل الأجيال القادمة .

تلك التحضيرات والتفاهمات تمحورت على أن يكون الحزب المزمع تأسيسه حزباً وطنياً سورياً، يُعنى بمشاكل بلده أولاً، ويسعى لإعادة الوحدة، وليكون قاعدة شعبية للدعوة لها، تمثلاً وتحقيقاً لاستراتيجية جمال عبد الناصر في نظرية المحاور، وليس فرعاً لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، الذي تم  الإعلان عن تأسيسه في 4 تموز/ يوليو من عام 1962 كتتويج للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقد قبل شهرين .

وفي 18 يوليو/ تموز من  عام 1964، وفي الذكرى الأولى لحركة “جاسم علوان”، وتخليداً لذكرى شهداء تلك الحركة، وبعد استكمال التحضيرات، قام الدكتور “نهاد القاسم” بتوجيه الدعوات لعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد الاشتراكي العربي، ولبت دعوته العديد من الشخصيات الوطنية العروبية والتيارات التي تؤمن بالوحدة العربية نذكر منهم: القوميين العرب، الجبهة العربية المتحدة، الوحدويين الاشتراكيين، مجموعات صغيرة حملت اسم الاتحاد الاشتراكي العربي بالإضافة إلى مجموعة من المستقلين والمنشقين عن البعث السوري .

ومن أهم الشخصيات التي حضرت المؤتمر سواءٌ بشخوصها أو بأسمائها: نهاد القاسم،  جمال الأتاسي، عبد الكريم زهور، سامي الدروبي، عبد المجيد منجونة، سامي صوفان، راتب الحسامي، حسين حلاق، أديب النحوي، هاني الهندي، جادو عز الدين، محمد الجراح، أحمد اسماعيل عبد العظيم، علي بوظو، عبد الرحمن عطبة، أدهم مصطفى، عصمت هنانو، فايز اسماعيل، والكاتبة ليلى الصباغ، بالإضافة لشخصيات سورية ولبنانية حضرت بصفة مراقبين .

وفي ختام المؤتمر اختير الدكتور “نهاد القاسم” كأول أمين عام للاتحاد الاشتراكي العربي في الإقليم السوري وكرئيس لمكتبه السياسي .

وفي عام 1966 قرر ’القاسم‘ اعتزال العمل السياسي، وقصد مصر لزيارة الزعيم جمال عبدالناصر مودعاً إياه، وليبلغه قراره اعتزال العمل السياسي والتنظيمي، فاسحاً بذلك المجال أمام  القيادة الجديدة متمثلة بالدكتور جمال الأتاسي للقيام بمهامها في استكمال بناء الحزب وقيادة مسيرته في ظروف غاية في الصعوبة، واستأذنه في العودة إلى دمشق، والتي سمحت حكومة الرئيس نور الدين الأتاسي بعودته إليها.

عاد إلى بلاده واستقبل استقبالاً شعبياً حافلاً، شاركت فيه العديد من الشخصيات والقيادات الوطنية، التي تعرف نزاهته وإخلاصه لوطنه الصغير سورية، ووطنه العربي الكبير.

وبعد اعتزاله العمل السياسي بأربع سنوات رحل المناضل والقائد السياسي الكبير (ابن دمشق والعروبة) “نهاد القاسم” إلى لقاء ربه عام 1970، وتم إعلان خبر رحيله عبر أثير إذاعة صوت العرب .

خرجت في وداعه الجماهير التي أحبته لنزاهته واستقامته وصلابة مواقفه وكان في مقدمة المودعين الدكتور جمال الأتاسي وقيادات وكوادر حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية .

لروح الراحل الكبير الرحمة والسلام، وستبقى ذكراه في قلوب أحرار سورية والعروبة كزعيم وقائد وطني وحزبي وناصري أصيل .

نُذكّر أن للراحل الكبير مجموعة شعرية غير مطبوعة ماتزال بحوزة أسرته في دمشق. رغم أنه نشر عدداً من القصائد في عدة دوريات عربية منها مجلة الحوادث اللبنانية والتي نشر فيها أكثر من قصيدة مطلع عام 1966. تنم هذه القصائد عن روح شاعر عاشق لوطنه وعروبته وأمته وتُعذبه الأوضاع التي تعيشها شعوب الأمة، وسنقدم من تلك القصائد ثلاث:

      1).   ● لا بارك الله في ذكرى حزيرانا

أَهاجَكَ الشّوقُ، أم هزّتْك بلوانا؟

فرحتَ تسكبُ دمعَ العين، هتّانا

أمِ النّوى- لا رعى اللهُ النوى عَصَفَتْ

بالقلب، فارفضّ، مثل الدمع أشجانا

أم أن «نكستنا الكبرى» وما حطَمَتْ

للعُرْب، قد فجّرت، في النفس، بركانا

فجاء شعرك، زلزالاً وعاصفةً

وكان عهدي به، روحاً وريحانا

أنتَ الأديبُ، وقد ضّل الألى زعموا

أنْ قد ضللت، لقد أبدعتَ تِبيانا

وما قريضك إلا ذوب عاطفةٍ

قد صاغها الله، أشواقاً وتحنانا

والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفةً

أو حكمةً، كان تقطيعاً وأوزانا

يا صاحبي في ظلام السجن! إن لنا

مما نكابده سجناً وسجّانا

فالظلمُ «زنزانة» للنفس، مُظلمةٌ

وإن فقدتَ بها، قيداً وقضبانا

إن أطلقونا، فقد غلّوا إرادتنا

وأرهقونا أذًى مُراً وأهوانا

وكيف نُحْسَبُ أحراراً، إذا رضيت

نفوسنا الهون؟ ليس الحرّ مَنْ هانا

ذكرى حزيران، كم أدمَتْ وكم فَجَعَتْ

لا بارك الله، في ذكرى حزيرانا

أقَومُ صهيونَ، أضحوا بعد ذلِّهمُ

يغزون قوميَ، بولوناً وألمانا؟

ونحن أضحوكة الدنيا، لفرّقتنا

لم نرْعَ، للجمعِ، إنجيلاً وقرآنا

هُنّا فهانت على الدنيا كرامتُنا

وأمعن الخصمُ عدواناً وطغيانا

والموت أكرمُ للأحرار، لو عقلوا

من أن يعيشوا أذلاءً وعبدانا

      2).   ● شوق وحنين

يا نائحَ الورْق من شرقيّ لبنانِ

رفقاً بقلبي فما أشجاك أشجاني

إن كان نوحكَ من حَرِّ النوى فلقد

فارقتُ أهلي وأحبابي وجيراني

أو كان نَوحك يطفي نار نأيهمُ

فالنوحُ يوري لظى شوقي وحرماني

أساهرُ النجمَ لا ليلي يُهدهِدني

ولا نهاري إذا أصبحتُ يرعاني

وأمسكُ الدمعَ كِبْراً حين يعصِف بي

شوقي إلى ساكني «الفيحا» وتحناني

نأيتُ عنهم على كرهٍ لفرقتهم

والله يعلم أني النازحُ الداني

لولا الطغاةُ وما عاثوا وما ظلموا

ما كنت أتركُ أولادي وخلاني

تركتهم لجهادٍ أرتجيهِ غداً

نصراً فأُرضيَ إيماني ووجداني

فارقتُهم ودموعُ العينِ قد نضبتْ

من بعد ما اصطبغت بالأحمرِ القاني

وخِلْتُ طائرتي للجوِّ إذ صعدت

تطيرُ بي منهمُ للعالم الثاني

فارقتُهم وهرقل الروم يهتف بي

أنْ «لا لقاء» ولو في حلم وسنان

لكن قلبيَ لم يحفلْ لهاتفه

ولاذ منه إلى عزمي وإيماني

ورحتُ أحملُ ذكرى الشامِ في كبدي

وأودِع الشام دوماً بين أجفاني

وللشآم، رعى الله الشآم هوىً

يدوم في القلب ما دام الجديدان

لا أرتضي جنة في الأرض لي بدلاً

منه ولو عشت في مصّْرٍ ولبنان

أرضُ العروبة أرضي لست أجحدها

وأهلها كلهم أهلي وإخواني

لكنْ دمشقُ وأهلوها وجيرتها

كانوا وما برحوا روحي وريحاني

في ظلها عشتُ عمري راضياً فإذا

ما متُّ ضموا لها نعشي وأكفاني

     3).   ● أدمشق عدنا

أدمشق عدنا بعد طول غيابِ

والشّوق يحدونا إلى الأحبابِ

ذكراك ما فتئت على حَرّ النوى

حرم القلوب وقِبْلةُ الألباب

والأكرمون بنوّكِ ما زالوا هُمُ

أهلي- وإن جاروا- وهم أصحابي

عاشوا أباةً لا تلين قناتُهم

للغاصبين، على مدى الأحقابِ

لم تخفضِ الأيامُ هامتَهم ولا

دانوا لغير الخالق الوهّابِ

ولوَ اْنني خيّرت ما اخترتُ النوى

لكنْ جرى قدرٌ بغير حسابٍ

أدمشقُ أنت مدينتي وحبيبتي

وعلى رباكِ طفولتي وشبابي

والسّهدُ أنت، وأنت لحدي في غدٍ

فإلى ترابكِ مرجعي ومآبي

«داء الحنين إليكِ» ذوَّبَ مهجتي

فذرفْتُها دمعاً على الأهداب

ما كان من خَوَرٍ بكائي وربما

دَمعَتْ من التّحنان أُسْدُ الغابِ

ولو أن عُذّالي أحسوا بالذي

أحسستُ ما نكروا عليّ مُصابي


عزت شيخ سعيد 
كاتب وناشط سوري

 

التعليقات مغلقة.