الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«فيالق السلام» وآداب الهيمنة

صبحي حديدي *

 

في ربيع 1961 كان الرئيس الأمريكي الأسبق جون ف. كنيدي قد أطلق المبادرة المعروفة باسم «فيالق السلام»، التي نهضت على تشكيل فرق من المتطوعين لنشر القِيَم والآداب الأمريكية في بلدان العالم الثالث. وبعد 45 سنة، كانت لورا بوش، زوجة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، قد استعادت مبادرة كنيدي تحت تسمية جديدة، هي «الدبلوماسية الثقافية»؛ فتركزت أولى الأنشطة على برنامج فوري مكثف لترجمة سلسلة من الآثار الأدبية والفكرية الأمريكية، وتسويقها على نطاق عالمي، بتمويل من وزارة الخارجية. وفي وثيقة بعنوان «الدبلوماسية الثقافية: ركيزة الدبلوماسية العامة»، جاء أنّ الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل ضدّ الفلسطينيين، واحتلال أفغانستان والعراق، وافتضاح وقائع معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب؛ كلها مشكلات تحتّم تعبئة الأدب في مهمة تعديل الصورة الأمريكية على النطاق العالمي.

ذلك لأنّ الأدب، حسب الوثيقة، يكشف «الحقيقة الراسخة عن التجربة الأمريكية، وأننا لسنا شعباً قادراً على إعلاء قِيَمنا النبيلة ونشرها والدفاع عنها فحسب، بل أيضاً على تصحيح عثراتنا». ويلفت الانتباه انّ الوثيقة اقترحت ترويج كتابات عدد من أعلام أمريكا، أمثال رالف ولدو إمرسون، هنري دافيد ثورو، إدغار ألن بو، هرمان ملفيل، والت ويتمان، وإميلي دكنسون؛ وبالتالي تعمدت اختيار بعض الأعمال المعروفة بانشقاقها عن السائد، بل تميزت أيضاً بهجاء أمريكا ذاتها.

وإذْ أقرتّ الوثيقة بأنّ «الترجمة تقع في قلب كلّ مبادرة للدبلوماسية الثقافية»، وأنّ «سوء التفاهم بين الشعوب يمكن حلّه من خلال انخراط كلّ شعب في أدب الشعب الآخر وتراثاته الفكرية»، فإنّ الاختلال الفاضح في موازين القوى بين ثقافة أمريكية وثقافات أفغانستانية أو عراقية أو فلسطينية، على سبيل الأمثلة المستمدة من مناطق «سوء التفاهم» التي تسميها الوثيقة؛ لا يسمح بأي مستوى من الحوار المتكافىء، بل يُبْطل أي مسعى لإقامة ذلك الحوار. هذا بصرف النظر عن حقيقة أنّ الولايات المتحدة ليست «منخرطة في حوار أدبي، أو فلسفي، أو سياسي أو روحي مع العالم»، كما تعترف الوثيقة.

في نظرة أخرى إلى الملفّ ذاته، لا تقوم سياسات التناقل الثقافي بين الإمبراطورية والأطراف على أيّ مقدار من التناسب مع مناقلة السياسات، بين فلسفة المحافظين الجدد التي كانت وراء قسط كبير من دوافع الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن في قرار غزو أفغانستان والعراق، وبين سياسات خَلَفه باراك أوباما في مسعى الخروج من مستنقع الاحتلال في البلدين. الرئيس السابق دونالد ترامب لم يزد الطين بلّة، وصبّ على اللهيب مزيداً من الزيوت الحارقة، فحسب؛ بل ذهب إلى سياسات منهجية تقلب أغراض كنيدي ولورا بوش رأساً على عقب، وتقتادها إلى النقائض القصوى.

وتلك حصيلة لم تنفرد بها الولايات المتحدة، كما يتوجب التشديد، بل كانت حال إمبراطورية استعمارية سابقة مثل بريطانيا العظمى مثلاً؛ ولم تكن مصادفة عشوائية أنّ رئيس وزرائها الأسبق غوردون براون أخذ زملاءه الساسة الأوروبيين على حين غرّة، في واحدة من قمم بروكسيل؛ فدعا إلى إعادة إحياء مبادرة كنيدي، وإيفاد رسل السلام الأوروبيين إلى أربع رياح الأرض. وإلى جانب المهامّ الثقافية التي توكل عادة إلى الآلاف منهم، توجّب أن يقوم هؤلاء بأعمال خيرية ونفعية تطوعية، بينها الترجمة وتعليم اللغات الأوروبية، على نحو يذكّر جيداً بالمهمة العتيقة ذاتها التي أوكلها المشروع الاستعماري إلى مندوبيه في المستعمرات، تحت توصيف المهمة التمدينية Mission civilisatrice!

تلك هي الحال التي يطلق عليها الأكاديمي الفرنسي جان – مارك غوانفيك تسمية «وهم الشرعية»، أي إحساس ابن الثقافة الغربية الأقوى بأنه قادر على ترجمة نفسه إلى موضوع مصالحة نفعية مع ابن الثقافة الأضعف، اعتماداً على نوع من نقل الذات إلى الآخر، أو مناقلته ونسخه ومشابهته؛ في محاكاة معاصرة لنموذج لورانس العرب في المشرق، وإيزابيلا إيبرهارت في الجزائر. وليست بجديدة تلك الأبحاث التي تربط مشروع «فيالق السلام»، والمشاريع ما بعد الاستعمارية التي تسير على منواله، بجملة الأسئلة الراديكالية الجديدة حول نظريات الترجمة؛ إنْ لم يكن لاعتبارات منهجية واضحة وطاغية، فعلى الأقل» لأن» الترجمة ركيزة كبرى معلَنة في نص» وروحية تلك المبادرات ذات الطابع الإمبراطوري.

وكانت ظاهرة طبيعية، ومفهومة تماماً، أن يتولى تلك الأبحاث نقّاد ومفكرون وأكاديميون أبناء المستعمرات السابقة (فلسطين، الهند، الباكستان، جنوب أفريقيا، غانا، كينيا…). وكان هؤلاء، أنفسهم، هم الذين أطلقوا – ثمّ طوّروا وعمّقوا، في سياقات من النقد والنقد الذاتي – ما سيُعرف باسم «نظريات ما بعد الاستعمار»، وفي طليعتهم أسماء إدوارد سعيد، غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، هومي بابا، عبد الرحمن جان محمد، إعجاز أحمد، كوامي أنطوني أبيا، قمقم سنغاري، عقيل بلغرامي، وسواهم.

ولم يكن استئناف براون لمبادرات كنيدي ولورا بوش، ومبادرات هذه الأيام في الولايات المتحدة مع ابتداء إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن وشعار «عودة أمريكا»؛ إلا أحدث المؤشرات على أنّ سيطرة الإمبراطورية ليست تحصيل حاصل ذاتيّ التأكيد وذاتيّ التسويغ، بل هي ملزَمة باللجوء إلى جملة معقدة من الإواليات، كي تؤكد ذاتها إثر كل ارتجاج في علاقتها بالآخر.

* كاتب وباحث سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.