الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

خصخصة الحروب

خصخصة الحروب – بشير عبدالفتاح

بشير عبد الفتاح *

قبل ما يربو على قرن خلا من الزمن، استلهم السوسيولوجي الألماني الشهير، ماكس فيبر، من ركائز النظام الدولي الوستفالي؛ أطروحته المتعلقة بأن الدولة، دون سواها، تبقى صاحبة الحق الحصري، والمطلق، في احتكار شرعية استخدام القوة، ومباشرة الإرغام، وممارسة العنف المُقنن.

واقعياً، تضرب ظاهرة المرتزقة، أو «المقاتلين الأُجراء»، بجذورها الممتدة، في عمق التاريخ البشرى. ففي غابر الأزمان، استخدم اليونانيون المقاتلين المأجورين، كما اعتمدت عليهم قرطاج في حروبها ضد روما، فيما استعان بهم الصليبيون في حملاتهم العسكرية ضد العرب والمسلمين، قبل ما ينيف على أحد عشر قرناً ميلادياً.

وفي حاضر أيامنا، يتصاعد دور المرتزقة، أو ما بات يعرف بـ«المتعاقدين العسكريين الخاصين»، الذين يقاتلون من أجل المال، غير مكترثين بمسببات الحروب، ولا أهدافها، أو عقائد المتقاتلين فيها. حتى امتلأت بهم ساحات الوغى، إما كمجندين مقاتلين، أو مكلفين بحماية الشخصيات العامة والأثرياء والأوليجارشيين، أو تأمين مراكز استراتيجية، كآبار النفط، والمناجم، والمجمعات الصناعية التابعة للشركات الكبرى، أو أمراء الحروب.

وأخيراً، يجري توظيف المرتزقة من قبل الحكومات لأداء بعض المهام، التي ظلت قروناً، من صميم اختصاص الأجهزة الأمنية والجيوش النظامية، مثل توفير الأمن للبعثات الدبلوماسية، ورؤساء الدول، وحسم النزاعات المسلحة والأزمات، وإجهاض محاولات التمرد، وقمع الحركات الاحتجاجية، وتدريب الجيوش الوليدة والأجهزة الأمنية الناشئة.

في مسارح العمليات، قد تلجأ بعض الجيوش النظامية، للاعتماد على المرتزقة، ابتغاء تحقيق ما يعرف بـ«التكامل القتالي». بحيث يتصدى المقاتلون المأجورون لمهام الحروب غير المتناظرة؛ كمواجهات المدن والشوارع وحروب العصابات، التي يستعصي على الجيوش النظامية حسمها بسرعة وسهولة، وبأقل كلفة مادية وبشرية ممكنة. فبينما تعكف روسيا على توظيفهم في حروب أوكرانيا منذ العام 2014؛ سبق للولايات المتحدة استخدامهم في حربى العراق وأفغانستان، قبل عقدين مضيا. وخلال السنة المالية 2017، وجه البنتاجون 71% من موازنة العقود الفيدرالية، للشركات العسكرية الخاصة. وتوخيا منها لتوفير الأمن لسكان المستوطنات بالأراضي الفلسطينية المحتلة، تعاقدت السلطات الإسرائيلية مع شركة «الخدمات الأمنية متعددة الجنسيات». وبدورها، تستعين الشركات العابرة للقوميات، بالمقاتلين الأجراء. إذ أبرمت شركة «ديفينس سيستمز ليمتد»، عقوداً مع شركات نفط كبرى مثل: «تكساكو»، و«شيفرون»، لحماية مشاريعها وبنيتها التحتية في البلدان المضطربة أمنياً مثل أنجولا، ونيجيريا. كذلك، تستعين منظمة الأمم المتحدة، في بعض مهامها وعملياتها الأمنية حول العالم، بالشركات العسكرية الخاصة، لاسيما شركة «الخدمات الأمنية متعددة الجنسيات».

برغم ما قد يتيحه لها من منافع ميدانية تكتيكية، ينطوي لجوء الدول والجيوش النظامية، إلى الاعتماد على المرتزقة، أو الشركات الأمنية الخاصة، على تداعيات استراتيجية بالغة الخطورة، لعل أبرزها:

تقويض المنظومات الأمنية الوطنية: فلقد أسهم انتشار المرتزقة والشركات الأمنية والدفاعية الخاصة، في إعاقة تطور المنظومات الأمنية لدول عديدة. فحينما يُمنح عناصر تلك الفواعل العنيفة دون الدول، حق استخدام السلاح، بغير رقيب ولا حسيب، تتعاظم احتمالات ارتكابهم جرائم حرب، بل وانقلابهم على الجهة، التي يقاتلون لحسابها، أياً كانت. وما تمرد قائد «فاجنر» الروسية، على الكرملين، إبان حرب أوكرانيا، ببعيد. ومن شأن هكذا ممارسات، إرباك المؤسسات السياسية، واستنزاف المنظومات الأمنية.

ولقد حال انتشار تلك الفواعل المزعجة في أفغانستان، على سبيل المثال، دون استكمال بناء منظومتها الأمنية، بعدما أفضى إلى تدهور القطاع الأمني. الأمر الذي اضطر الرئيس الأفغاني الأسبق، حامد كرزاي، عام 2010، إلى حظر نشاط ثماني شركات أمن خاصة، من أصل 54 شركة، كانت متعاقدة مع حكومة كابول، بينها «بلاك ووتر» الأمريكية. وفي القرن السادس عشر، ندد، ميكيافيللي، في مؤلفه الأشهر «الأمير»، بهذه الظاهرة المقيتة، محذراً من ولاء المرتزقة للمال، دون غيره.

قبل انسحابها المربك من أفغانستان سنة 2021، كانت الولايات المتحدة قد أشرفت على تشكيل وتدريب قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، بكلفة ناهزت تسعين مليار دولار. غير أن جل الجنود والضباط الأفغان، الذين تم تدريبهم، اضطروا إلى قبول عروض بالتجنيد والقتال لدى روسيا وإيران، بعدما تخلى عنهم الأمريكيون وتركوهم فريسة لحكومة طالبان. وبحسب تقارير غربية، منح الكرملين أولئك المقاتلين الجنسية الروسية، وأتاح لهم فرصا للعيش الأفضل، مقابل القتال إلى جانب الجيش الروسي وقوات «فاجنر» في أوكرانيا. فيما فر آلاف آخرون عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إلى إيران، خوفاً من بطش حكومة طالبان. وقد تلقفتهم طهران، وزجت بهم في صفوف ميليشياتها وأذرعها الولائية المسلحة، المنتشرة في ربوع الإقليم.

تشويه العقائد القتالية للجيوش: يتحلى كل جيش نظامي وطني محترف بعقيدة قتالية، تضم مجموعة الأفكار، والقيم، والمبادئ، التي تستهدف إرساء نظريات العلوم العسكرية وفن الحرب، لتحدد هياكل ومهام القوات المسلحة في زمني السلم والحرب، بما يكفل تحقيق الأهداف والمصالح الوطنية. بيد أن انتشار المرتزقة، والمتعاقدين العسكريين الخاصين، يطيح بهذه العقيدة العسكرية، مفسحاً المجال لوضعية «القتال من أجل المال». دونما مراعاة لأية مبادئ إنسانية، أو قواعد قانونية، أو قيم أخلاقية.

أما بخصوص معايير التجنيد، فلم تعد الدول والشركات الأمنية والدفاعية توليها أدنى اهتمام، طمعاً في حشد أكبر عدد ممكن من المرتزقة بميادين القتال. فعلى سبيل المثال، وتحت وطأة الحاجة المتنامية لمزيد من المقاتلين الداعمين لروسيا في الحرب الأوكرانية؛ تشير تقارير دولية إلى تقليص مجموعة «فاجنر»، معايير تجنيد مقاتليها الجدد، بغية تعويض الخسائر البشرية بين صفوف المقاتلين الموالين لروسيا. حتى أن المجموعة لم تتورع عن تجنيد عدد من نزلاء السجون الروسية، ممن أدينوا بارتكاب جرائم قتل واغتصاب وتطرف وإرهاب واتجار بالمخدرات، مع وعود بتخفيف محكومياتهم، أو العفو عنهم، عقب انتصارهم في الحرب ونجاتهم من ويلاتها.

اقتراف خروقات وانتهاكات لحقوق الإنسان: برغم قسوتها، نالت الحروب نصيبها من القوانين وقواعد القانون الدولي الإنساني، التي تنظم مجرياتها. بحيث يتم تحديد ما يمكن، وما لا يتعين فعله أثناء النزاع المسلح. وبينما تمثل اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية حجر الزاوية بهذا المضمار، يتضمن قانون الحرب، بوصفه أحد أفرع القانون الدولي العام، المبررات المعقولة لخوض الحروب؛ وحدود السلوك المقبول إبان المواجهات. ويوضح القانون الدولي الإنساني، المعايير المتعلقة بقبول استسلام الجيوش ، ومعاملة أسرى الحروب، والضرورات العسكرية، وقانون التمييز، وقانون التناسب، وحظر استخدام أسلحة معينة، قد يتسبب استخدامها في كوارث ومآسٍ إنسانية مزمنة. كما تراعي قوانين الحرب، وقواعد القانون الدولي، الفوارق ما بين المدني والعسكري، والصراع المسلح والحروب الدولية من جهة؛ وأحداث التمرد الداخلي، والحروب الأهلية، من جهة أخرى. وبناء عليه، يغدو حرياً بكل دولة مسؤولة، الاهتداء إلى التوصيف الدقيق للحالة الحربية؛ حتى يتسنى لها إدارتها، انطلاقا من القواعد والقوانين الدولية والمبادئ الإنسانية ذات الصلة.

ونظراً لعدم وجود قواعد قانونية ملزمة تحكم عملهم، لا يرعوي المرتزقة، عن ارتكاب الانتهاكات والتجاوزات أثناء الحروب. إما بحثاً عن تسجيل انتصارات ميدانية لاسترضاء ممولهم، أو طمعا في تحصيل مغانم شخصية، من خلال أعمال السلب والنهب. وإبان عهد الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، تعرضت شركة التعاقد العسكري الأمريكي، «بلاك ووتر»، لعاصفة من الانتقادات الدولية، على خلفية جرائم حرب ارتكبها بعض مقاتليها داخل العراق. كان من أبرزها، فتح النار عشوائياً وسط أحد شوارع بغداد، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.

تفرض هكذا خروفات، تحديات جمة أمام السلطات المعنية بإنفاذ القانون، عبر مباشرة التحقيق، والملاحقة، والعقاب. وذلك بخلاف القوات المسلحة النظامية، التي يخضع عناصرها للرقابة والمساءلة، استناداً إلى القوانين والقواعد العسكرية الحازمة. في ضوء ذلك، تفاقمت، خلال الآونة الأخيرة، ظاهرة لجوء بعض الدول والحكومات إلى توظيف المرتزقة والشركات العسكرية الخاصة، في الأعمال المسلحة؛ هرباً من تحمل أية مسئولية عن الانتهاكات أو جرائم الحرب، التي يتم ارتكابها خلال المواجهات.

انطلاقا مما ذكر آنفا، أيد وزير الخارجية البريطاني الأسبق، جاك سترو، طوفان المطالبات للمجتمع الدولي، بتحرك ناجز، لكبح جماح «تفاقم وحشية المرتزقة». وذلك من خلال التزام جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، التصديق على الاتفاقية، التي اعتمدتها جمعيتها العامة سنة 1989، بشأن حظر ومناهضة تجنيد، وتمويل، وتدريب، واستخدام المرتزقة. فبغض النظر عن آليات توظيفهم، أو طبيعة الأنشطة التي يمارسونها، أو ما يبتكرونه من حيل، بغية اكتساب بعض مظاهر الشرعية. يبقى المرتزقة مصدر تهديد مباشر وخطير، للسلم والأمن الدوليين، كما لسيادة الدول وتماسك منظوماتها الأمنية والعسكرية.

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.