الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ابن بطوطة إلى البحر الأسود وبحر قزوين

عاطف معتمد *

قبل أكثر من 700 سنة وصل ابن بطوطة إلى شبه جزيرة القرم، لم تكن وقتها توجد أية مسميات لكل من أوكرانيا أو روسيا. كان للروس إمارة صغيرة حول مدينة موسكو تعيش بعيداً في الشمال متقوقعة على نفسها تابعة لحكم المغول وتدفع لها ضريبة سنوية ثقيلة جراء التسليم والاستسلام.

وكذلك كانت «كييف» جزءاً تابعاً للقبيلة الذهبية التي ورثت الإمبراطورية المغولية بعد صعود «أوزبك خان» الرجل الذي أحدث انقلاباً أيديولوجياً مدوياً غير خريطة العالم إلى يومنا هذا.

«أوزبك خان» هو بطل العصر الذي ارتحل فيه ابن بطوطة، لقد ظهر الرحالة المغربي الشهير في لحظة فارقة من الزمن حين تم انتشار الإسلام في هذا الفضاء الجغرافي بعد زمن من العبادات الوثنية.

منذ أن دخل إلى آسيا الصغرى (تركيا حالياً) كان ابن بطوطة محظوظاً لأنه تجول في أنحاء جغرافية لقي فيها ترحيباً باعتباره فقيهاً مسلماً ينزل بالبركة والعلم على المهتدين القدامى المخضرمين، والجدد الذين تحولوا للتو عن أديان سابقة، رغم أنه كان وقتها شاباً دون الثلاثين عاماً.

ورغم أن ابن بطوطة كان قليل المال أو شبه معدم في رحلته، ولا يعمل بالتجارة ولا يقوم بأي نشاط سوى السفر والارتحال وتقديم بعض الاستشارات الفقهية، إلا أن دولة أوزبك خان الإسلامية قدمت الحفاوة لأمثال ابن بطوطة وفتحت لهم قصور السلاطين ودُور الضيافة وأمدت ابن بطوطة بما اشتهت نفسه من الجواري والخدم والأموال.

في عام 2015 أخذت الصورة المرفقة من مدينة «أسترخان»، في مصب نهر الفولجا عند بحر قزوين، في جنوب روسيا.

وقفتُ في المكان الذي وصل إليه ابن بطوطة قبل نحو 700 سنة حين حظي بضيافة السلطان المُعظّم أوزبك خان (1313-1341) .

كان نهر الفولجا يحمل في عصر ابن بطوطة مسمى «أثل». وسيُعرف النهر أيضاً في بعض المصادر العربية السابقة واللاحقة باسم «إتل».

أسترخان هو الهجاء الروسي المحرف للاسم الأصلي للمدينة التي أسسها التتر الوافدون من العمق الآسيوي حين كانت لهم دولة عظيمة تسمى «القبيلة الذهبية».

الاسم مؤلف من مقطعين «أس» و«ترخان» وقد مر الاسم بمراحل من التحريف بأشكال مختلفة: حاچ ترخان- هاش ترخان – هاس ترخان- أس ترخان، ثم في النهاية أسترخان. وسنعرف المعنى الأصلي للاسم من ابن بطوطة بعد قليل.

ومدينة «أسترخان» كانت مقراً للملوك التتر في الدولة التي نشأت في العصور الوسطى، وحملت اسم دولة «القبيلة الذهبية».

والقبيلة الذهبية هي شطر من إمبراطورية مغولية كبرى امتدت من الصين وشملت إيران والهند وأوراسيا حتى شرق أوروبا.

فيما يلي سطور ابن بطوطة، أخذاً في الاعتبار أنني أخذتُ الصورة وفصل الشتاء يلملم ثلوجه، وفي الصورة بعض هواة الصيد يدقون حفراً وثغرات في الثلج لصيد ما يطيب لهم من خيرات النهر، بينما ابن بطوطة كان يكتب فى ذروة فصل الشتاء، حين كانت القوافل تستغل تجمد النهر لتتخذه طريقاً سريعاً ممهداً من الجنوب للشمال، فيما يشبه اليوم الطريق الإقليمي السريع.

يقول ابن بطوطة:

  • وصلنا إلى مدينة الحاج ترخان، ومعنى ترخان عندهم الموضع المحرر من المغارم (وهو بفتح المثناة وسكون الراء وفتح الخاء المعجم وآخره نون)، والمنسوب إليه هذه المدينة هو حاج من الصالحين، تركي نزل بموضعها وحرر له السلطان ذلك الموضع فصار قرية ثم عظمت وتمدنت.
  • وحجي ترخان من أحسن المدن، عظيمة الأسواق، مبنية على نهر أثل، وهو من أنهار الدنيا الكبار وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد، ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التين فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر، والتين هنالك لا تأكله الدواب؛ لأنه يضرها وكذلك ببلاد الهند وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد.
  • ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر، والمياه المتصلة بهذا النهر ثلاث مراحل وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء فيغرقون ويهلكون.
  • وقد سافرتُ معهم على نهر أتل وما يليه من المياه ثلاثًا وهي جامدة، وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعاً من الجليد وجعلناه في القدر حتى يصير ماء فنشرب منه ونطبخ به، ووصلنا إلى مدينة السرا (وضبط اسمها بسين مهملة وراء مفتوحة وألف)، وتُعْرَف بسرا بركة وهي حضرة السلطان أوزبك ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا وعن ملك الروم ومدينته فأعلمناه وأمر بإجراء النفقة علينا.
  • ومدينة السرا من أحسن المدن متناهية الكبر في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق متسعة الشوارع.

لقد أحسن ابن بطوطة اهتبال الفرصة، فصال وجال في أنحاء الإمبراطورية. لم يمر ابن بطوطة فقط بشبه جزيرة القرم، بل زار المدينة الشهيرة «سراي» التي انتقل إقليمها الجغرافي من الإمبراطورية اليهودية (الخزر) للإمبراطورية الإسلامية (القبيلة الذهبية).

ومن «سراي» ومشارف بحر قزوين وجد ابن بطوطة الطريق مفتوحاً للوصول إلى «البلغار» التي كانت درة المدن آنذاك، والتي كان قد وصلها السفير والرحالة العربي أحمد ابن فضلان سابقاً على ابن بطوطة بـنحو 400 سنة (922 م).

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.