محمد عبدالمنعم الشاذلي *
كلما استمعت إلى عبدالوهاب وهو يشدو «أخي جاوز الظالمون المدى» تأملت الكلمات وتسألت: من هم الظالمون؟ هل هم الصهاينة أم بريطانيا دولة الانتداب، أم الأمم المتحدة التي كلفتها بالانتداب، أم هو اللورد بلفور صاحب الوعد المشؤوم؟ لعل كلهم ظلموا فلسطين وشعبها ظلماً فاجراً، ولكن أضيف إلى قائمة الظلمة بعض العرب الذين- إلى يومنا هذا- يرمون بأن الشعب الفلسطيني فرّط فى حقه وباع أرضه وأنه سبب مصائب كثيرة حلت بالعرب.
ظلمٌ شديد ورؤية قاصرة مُشوهة. تمر علينا خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر هذا العام ذكرى مرور أكثر من مائة عام على صدور وعد بلفور الذي وصفه المؤرخون بأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. يؤرخ قطاع كبير من الناس بهذا الوعد المشؤوم كبداية للقضية الفلسطينية، وهو تاريخ مُضلل، فالقضية بدأت قبل ذلك بكثير في منتصف القرن الـ19 بهروب وهجرة أعداد كبيرة من يهود روسيا وأوروبا الشرقية في أربعينيات وخمسينيات القرن فراراً من بطش النظام القيصري الروسي.
- • •
لكن لماذا توجهت هذه الجموع المهاجرة إلى فلسطين؟ السبب أن تركيا كانت العدو التقليدي لروسيا ووجهت اليهود إلى فلسطين ليَخلقوا المتاعب لتركيا، فضلاً على أن تركيا في هذا الوقت كانت قد وصلت إلى درجة من الضعف تجعل فرض الأمر الواقع عليها سهلاً. ويكفي الرجوع إلى مذكرات الجنرال الألماني، “ليمان فون ساندرز” الذي جلبته تركيا لتنظيم جيشها التي توضح الدرك الذي وصلت له: إفلاس مالي، ورقابة إنجليزية فرنسية على ماليتها، وجنرال ألماني يدرب وينظم الجيش التركي، وضابط بحري بريطاني ينظم البحرية والأسطول، وضابط فرنسي ينظم الشرطة!
تزايدت نسبة اليهود في فلسطين بشكل كبير وقفزت نسبتهم من السكان من 2% في منتصف القرن الـ19 إلى 10% في بداية القرن الـ20. لكن قبل أن ينتهي القرن الـ19 حدث تطور هام وخطير وهو عقد المؤتمر الصهيوني الأول برئاسة “تيودور هرتزل” في مدينة بازل السويسرية في آب/ أغسطس من عام 1898، وهو المؤتمر الذي أفصحَ لأول مرة عن إقامة وطن لليهود في فلسطين بعد أن كانت الفكرة تُفاضل بين الأرجنتين وأوغندا وفلسطين. وبدأ مع هذا المؤتمر النشاط المؤسِس للحركة الصهيونية وتعبئة يهود العالم خلفها، ومن ثم بدأ النشاط التأسيسي للدولة اليهودية قبل صدور وعد بلفور.
- • •
جاءت الحرب العالمية الأولى وتشكل الفيلق اليهودي بمبادرة من غلاة الصهاينة “فلاديمير جابوتنسكي” و”بنحاس روتنيج” حتى يتلقى شباب اليهود التدريب العسكري والقتالي. وكانت كوادر الفيلق حيوية أثناء حرب فلسطين وفي أعمال الإرهاب الصهيونية بعدها.
كان وعد بلفور الذي صدر في عام 1917 في وقت كانت بريطانيا مُنهكة من الحرب وتُريد أن تتعلق بأي قشة لتخرج من أزمتها، فأعطت اليهود وعد بلفور للفوز بأموال “أل روتشيلد” وفي المقابل أعطت الشريف حسين وعداً بمملكة عربية لحثه على الانشقاق عن الدولة العثمانية وفتح جبهة جديدة تُخفف الضغوط عليها في المسرح الأوربي.
تابعت المنظمة الصهيونية الوعد بعد أن نفَذتْ إلى أعلى مستويات السلطة البريطانية، إذ كان رئيس الوزراء “لويد جورج” محامياً للمنظمة واللورد “روتشيلد” بأمواله و”وايزمان” القريب من الجيش بسبب إسهاماته العلمية. أما الشريف حسين فظل يُمني نفسه بالمُلك حتى بعد افتضاح اتفاق “سايكس- بيكو” و”وعد بلفور”، واستمر ابنه فيصل بعد المعاملة المهينة التي لقيها بخلعه من عرش سوريا وإجلاسه على عرش العراق.
- • •
بنهاية الحرب وهزيمة الدولة العثمانية استمر العرب في سذاجتهم البلهاء ببناء الأمل على نقاط الرئيس الأمريكي “ويلسون” الأربع عشرة، حق الشعوب في تقرير المصير، وفي المنظمة الدولية الجديدة عصبة الأمم، فإذا بالمنظمة بدلاً من إلغاء الاستعمار تُجمل وجهه بمسمى جديد، هو الانتداب، ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني. ويتدفق على فلسطين، بتشجيع من دولة الانتداب، طوفان من المُهاجرين اليهود وساد في هذا الوقت القول الفاجر، الذي رددته الدوائر الصهيونية والإمبريالية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وينكشف زيف هذا القول إذا علمنا أن فلسطين التي تبلغ مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع ويسكنها 750 ألف مواطن تبلغ كثافة السكان بها 27 نسمة في الكيلومتر مربع، في حين أن كثافة السكان في كندا هي 4 في كل كم مربع.
ازداد شعور الشعب الفلسطيني بالخذلان من عصبة الأمم ومن الولايات المتحدة التي أطلقت نقاط “ويلسون” الأربعة عشر، خاصة بعد فشل لجنة “كينج- كراين” التي زارت البلاد في عام 1919 واتضح أنها استسلمت لقرارات (سايكس- بيكو ووعد بلفور). فكانت ثورتهم الأولى عام 1922 بعد صدمة الانتداب والحكم البريطاني، وأصدرت بريطانيا كتابها الأبيض الأول الذي حرره وزير المستعمرات، “ونستون تشرشل” الذي أكد فيه على التزام بلاده بوعد بلفور مع سطور لطمأنة غير اليهود في فلسطين على وضعهم. وكانت الهَبّة الكبيرة ثورة البُراق سنة 1929 لحماية المسجد الأقصى من اليهود المتوافدين على حائط البراق وأعمالهم الاستفزازية. وقاد الثورة “عزالدين القسام” الذي نشط في تدريب الكوادر المسلحة لحماية فلسطين حتى استُشهد في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1935 بعد أن حاصره الجنود الإنجليز في جنين.
أدى الغضب من مقتل القسام إلى تفجير ثورة 1936 وتشكيل اللجنة العربية العليا، فضلاً عن اللجنة الوطنية للجهاد لتوفير التمويل والدعم اللوجيستي الجماهيري، وجمعية الدفاع عن فلسطين. وضمت اللجان في عضويتها مسلمين ومسيحيين كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس، وسقط في الثورة، التي استمرت من عام 1936 حتى عام 1939، حوالي 5 آلاف قتيل و15 ألف جريح إضافة إلى إعدام 120 ثائراً ونفي عدد كبير من الفلسطينيين. واستخدمت بريطانيا سلاحها التقليدي فرق تسد، فتم اجتذاب الرجل الثاني في التنظيمات الفلسطينية راغب النشاشيبي، واستخدموا في ذلك الخلافات التقليدية بين عائلة النشاشيبي وأسرة مفتى القدس أمين الحسيني. وسلكَ راغب النشاشيبي مَسلكاً مُشيناً بتشكيله كتائب السلام أو عصابات السلام كما سماها الفلسطينيون، التي ضمت المنتفعين من الاستعمار البريطاني والمستوطنات اليهودية، لتحارب معهم ضد الفلسطينيين.
وبسبب ثورة 1936 وتخوف بريطانيا من استمرار الاضطرابات مع خطر اقتراب الحرب فأصدرت، في عام 1939، ورقة بيضاء جديدة في محاولة لإرضاء الفلسطينيين، أو بمعنى أدق التدليس عليهم، فحددت المهاجرين اليهود بـ 75 ألف خلال 5 سنوات! ثم كانت الحرب العالمية الثانية واستغلها الصهاينة في إعداد كوادر عسكرية مدربة عن طريق الفيالق اليهودية، كما استغلت أسطورة المحرقة لاستمرار التعاطف مع اليهود وإشعار العالم بالذنب تجاههم وضرورة إخراجهم من أوروبا إلى وطن لهم، فضلاً عن استغلال لقاء مفتي القدس أمين الحسيني مع هتلر لإدانة الفلسطينيين.
وبنهاية الحرب قُدمت الدولة اليهودية على أنها الإنصاف الإلهي لليهود والعقاب لمن ظلمهم. وتأسست الأمم المتحدة ولقي الفلسطينيون منها من الظلم ما لاقوهُ من عصبة الأمم، فصدر قرار تقسيم فلسطين في عام 1947 من الجمعية العامة. وكانت الأمم المتحدة في هذا الوقت تمثل الغرب الإمبريالي، باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي يقف معزولاً في المنظمة الدولية، وحتى العضو الآخر الدائم في مجلس الأمن كان الصين الوطنية صنيعة الولايات المتحدة، وفي وقت كان عدد الأعضاء 51 عضواً، ولم تستقل بعد الدول الإفريقية التي كانت خاضعة للاستعمار.
صوتت الجمعية العامة، في يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، على قرارها الظالم بتقسيم فلسطين الذي وافق عليه 33 دولة هي الدول الإمبريالية الأوروبية وجمهوريات الموز ودول أمريكا اللاتينية الدائرة في فلك الولايات المتحدة ورفضته الدول العربية وإثيوبيا وأفغانستان والهند وباكستان وإيران وامتنعت بريطانيا صاحبة الانتداب ووعد بلفور وتركيا التي أرادت تأكيد علمانيتها وولائها لحلف الناتو التي انضمت إليه.
إعراباً عن الرفض الفلسطيني للقرار تشكلَ جيش الإنقاذ من المتطوعين العرب والمسلمين بقيادة شخصية عسكرية وقومية وهو “فوزي القاوقجي” السوري، الذي تخرّجَ من الكلية العسكرية العثمانية، ثم درس في أكاديمية سان سير العسكرية الفرنسية، وشاركَ في حرب البلقان والحرب العالمية الأولى ضد الإنجليز في فلسطين والعراق، ثم مع فيصل في الثورة العربية. وتوافد المتطوعون وكان أشهرهم من مصر “أحمد عبدالعزيز” و”معروف الحضري” و”حسن فهمى عبدالمجيد” لكن رغم بسالتهم لم يكن لهم فرصة أمام جنود الفيالق اليهودية الذين تمرسوا في الحرب العالمية الثانية وأمام الأسلحة التي زودتهم بها بريطانيا.
- • •
لعل من المؤشرات على الدعم الذي لقيه الجانب الصهيوني أن من بين 607 طيار في الطيران الصهيوني كان 414 منهم متطوعين من أوروبا وأمريكا، وبعد أن فقد جيش الإنقاذ والمتطوعون السيطرة دخلت سبعة جيوش عربية إلى فلسطين، ولم يدخلوا للدفاع عن فلسطين بقدر دخولهم لتحقيق أطماعهم، فدخل الملك عبدالله ليحقق أطماعه في ضم الضفة الغربية ليحول إمارة شرق الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ودخل الملك فاروق الحرب لأحلام راودته بالخلافة ولغيرته من القيادة التي مُنحت للملك عبدالله.
انتهت الحرب النهاية الحتمية للعجز وعدم الاستعداد وارتكبت القوات الصهيونية العديد من المذابح وجرائم الحرب. ولعل اعتراف الكاتبين الصهيونيين “Benjamin Kessler” و”“Benny Morris بجريمة الحرب البيولوجية بتلويث آبار المياه العربية ببكتريا التيفويد مثال حي على ذلك.
كان الشعب الفلسطيني هو ضحية هذه الظروف، ولعل هذه السطور توضح للقارئ أن الشعب الفلسطيني كافحَ وناضلَ وضحى ضد هذه المؤامرة منذ البداية ولم يُقصر ولم يبع كما يروج بعض الشامتين لكنه تحرك وحيداً. لم يحظ الشعب الفلسطيني بدعم قوى عظمى مثل الصهاينة وخذلته بعض الدول العربية التي لم تُقدر الأمر قدر خطورته.
* كاتب مصري وعضو المجمع العلمي المصري
المصدر: الشروق