غازي دحمان *
بتواتر كثيف وغير مسبوق، تشنّ إسرائيل ضربات عديدة تكاد تشمل غالبية الجغرافيا السورية، ما يجعل الأمر يبدو شبه حرب، أو مقدّمةً لحرب أوسع نطاقاً وشمولاً، ما يطرح السؤال عن الهدف الإسرائيلي من ذلك.
في المُعلَن، تتذرّع إسرائيل بضرب طرق الإمداد اللوجستية لحزب الله. وضمن هذا السياق، تُضرَب المراكز والشخصيات المشغّلة لهذه العملية، أي ضرب بنية كاملة شُكِّلت في مدار سنوات طويلة، وتجذّرت بشكل كبير في الجغرافية السورية، وهي بالإضافة إلى ذلك تشمل مواقعَ لإنتاج الأسلحة ومواقعَ خلفيةً لحزب الله، في نطاق يمتد من منطقة القصير في ريف حمص الغربي الى كامل جنوب سورية، درعا والقنيطرة والسويداء.
لا تتوقّف الضربات الإسرائيلية عند هذا الحدّ، بل تشمل مناطق شرق حلب، حيث لإيران حضور قوي عبر وجود سلسلة من مصانع الذخيرة وتطوير الأسلحة، مثل تلك الموجودة في جبال الساحل، وكانت إيران تعتقد أنها بعيدة عن الاستهداف بسبب بعدها النسبي عن إسرائيل.
وتشمل أيضاً العاصمة دمشق، التي تقيم فيها قيادات حزب الله والحرس الثوري، المشغّلة لهذه البنية، وهي قيادات، ذات اختصاصات استخباراتية ومالية وإدارية، ويبدو أن بعضاً منها انتقل إلى سورية أخيراً بعد استهداف مناطق جنوب لبنان والضاحية، وباتت مسؤولةً بشكل كبير عن إدارة جوانب كثيرة من أنشطة حزب الله بالإضافة إلى تأمين سلاسل الإمداد اللوجستي العابر من إيران إلى العراق.
وفق ذلك، الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي من زيادة وتيرة الضربات على سورية تحطيم خطّ الدفاع الثاني، والاحتياط الاستراتيجي لحزب الله، وتفكيك الروابط بين الساحتين السورية واللبنانية، وصولاً إلى عزل حزب الله نهائياً عن مراكز الدعم في إيران وتدمير البنية الاحتياطية في سورية. وقد شملت الضربات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، التي ترتبط بإيران ارتباطا وثيقاً.
يتمثّل الهدف الثاني في ضرب خطوط الدفاع الإيرانية المتقدّمة، وتجريد إيران من أوراق قوتها في المنطقة؛ فالمعلوم أن جيش النظام السوري لا يعتبر فاعلاً ذا وزن مهمّ من دون الدعم الإيراني الدائم، وقد تحوّل في السنوات الماضية إلى مُجرَّد مليشيا بأدوات تصلح لمعارك داخلية أكثر منها لحروب من وزن الحرب مع إسرائيل، وبالتالي فإن ضرب المراكز الإيرانية سينهي أيّ خطر إسرائيلي قد يأتي من سورية لعقود قادمة.
لتحقيق هذه الاستراتيجية، تشتغل إسرائيل لتدمير جميع خطوط المواجهة الأمامية المحتملة، في جنوب سورية وغربها، لخلق مساحات آمنة في هذه المناطق، من دون الاضطرار إلى السيطرة العسكرية المباشرة عليها، وهي ذات الاستراتيجية التي تُنفّذ في غزّة وجنوب لبنان، وبذلك تقلّص إسرائيل إلى حدّ كبير مساحات الأمان للعاصمة دمشق والمراكز الحضرية في جنوب سورية ووسطها وغربها، وتنهي بذلك المعادلة التي صمّمتها إيران في العقد الماضي، التي قامت على أساس محاصرة إسرائيل بحلقات النار من أكثر من جهة.
تدفع هذه الاستراتيجية النظام السوري إلى الطلب من إيران التراجع عن تكتيكاتها في مواجهة إسرائيل وتغيير الأسلوب القديم، كما تدفع روسيا إلى الضغط على إيران للتوقف عن توظيف الجغرافية السورية في الصراع مع إسرائيل، بالنظر لما باتت تنطوي عليه من مخاطر على النظام السوري، قد تضع الاستثمارات الروسية والإيرانية في سورية ضمن دائرة الخطر، وتؤثّر بشكل كبير في مشاريعهما الجيوسياسية في المنطقة.
والواضح أن إسرائيل تستثمر اختلال ميزان القوى بدرجة كبيرة لمصلحتها في صراعها مع إيران، وانهيار ميزان الردع، الذي طالما أكّدت إيران وجوده في المرحلة الماضية، ويبدو أن الهدف الإسرائيلي من تكثيف ضرباتها في سورية تحطيم معادلة الردع السابقة بشكل نهائي، وجعل إمكانية إعادة بنائها مرّة جديدةً أمراً مستحيلاً، إذ تطمح إلى تثبيت هذا الواقع في وثائق إنهاء الحرب التي ستكون في الغالب بضمانات روسية وأميركية.
غير أن هذا السياق يؤشّر إلى أمر آخر، وهو أن إسرائيل تكثّف ضغوطاتها لفرض اتفاق سلام يضمن خضوعاً لما يسمّى “محور المقاومة” لشروط إسرائيل، إذ يبدو أن الحراك التفاوضي يتسارع، وثمّة خلاف على بعض القضايا، حيث ترغب إسرائيل بتعزيز موقفها التفاوضي، من خلال لعبة الحرب على حافة الهاوية، وهذا ما يتضح من كثافة ضرباتها على الضاحية الجنوبية، وتأتي ضرباتها المتسارعة على دمشق وكأنّها رسائل لروسيا وإيران بأنه لا توجد خطوط حمر أمام عملياتها، وأن إحدى ضرباتها قد تطاول القصر الجمهوري في دمشق، ما يضع موسكو وطهران في مأزق سياسي خطير في سورية.
المرجّح وفقاً لذلك استمرار الضربات الإسرائيلية، ولا سيّما في العاصمة دمشق، ما يجعل الأوضاع مفتوحةً على احتمالات عديدة، وطالما أن إيران تصّر على معادلة البقاء خارج الصراع ما لم تطاول الضربات الإسرائيلية أراضيها، وفي الوقت نفسه، استمرار الضغط على النظام السوري للحفاظ على الاحتياطي الاستراتيجي لحزب الله في سورية، على الأقلّ إلى حين التوصّل إلى صيغة تحافظ إيران عبرها على مكاسبها الجيوسياسية في المنطقة.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد