أسامة أبو ارشيد *
يتأهب دونالد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض، لا ليقود الولايات المتحدة من جديد أربع سنوات فحسب، بل في نيته إعادة تشكيلها وصياغتها إن استطاع. قد تبدو مهمّةً صعبةً لرجل يبلغ 78 عاماً، وبدأت تظهر عليه أَمارات الشيخوخة ذهنياً وجسدياً، لكنّه لا يُخفي نواياه ولا مراراته وغضبه، ولا قائمة أعدائه وعزمه على تصفية الحساب مع من يعتبر أنهم استهدفوه أو خانوه، سياسيين كانوا أم مهنيين، مدنيين أم عسكريين. الأخطر أنه يعود إلى واشنطن مختلفة عن التي وصل إليها رئيساً قبل ثماني سنوات، حينها كان الجمهوريون أغلبية في مجلسَي الكونغرس (النواب والشيوخ) ولكنّ معظمهم لم يكونوا من أنصاره أو يشعرون بأنهم مُرتهَنون له. أمّا اليوم، فيقبع الحزب الجمهوري، الذي سيطر على أغلبية النواب والشيوخ مجدّداً، في عباءة ترامب، وأكثر أعضائه في الكونغرس يدينون له بالولاء، رغبةً أو رهبةً. أيضاً، عندما وصل ترامب إلى الرئاسة عام 2017 كان ثمَّة توازن (نوعاً ما) قوى في المحكمة العُليا، مع أفضلية للمحافظين (5 – 4)، وكثيراً ما لعب رئيس المحكمة المحافظ جون روبرتس دور بيضة القبّان للحفاظ على التوازنات في القضايا الكُبرى. غير أن الواقع مختلف اليوم، فخلال ولايته الرئاسية الأولى (2017 – 2021)، عيّن ترامب ثلاثة قضاة جدد شديدي التطرّف في المحكمة العُليا. يضاف إلى ذلك أن النسخة الثانية من ترامب، أو الرئيس الـ47، غير النسخة الأولى منه أو الرئيس الـ45، إذ إنه يفهم واشنطن أكثر اليوم، وكيف تعمل الحكومة وتوازنات القوى فيها.
إذا ما أخذنا ما سبق كلّه في الاعتبار، فإننا أمام نسخة ثانية أخطر وأشدّ تطرّفاً ونرجسيةً من ترامب (ترامب 2.0)، خصوصاً أنه يدرك أن هذه فرصته الأخيرة لإعادة تشكيل أميركا كما يتخيّلها، دولةً شعبويةً عنصريةً تعاقديةً، تضع مصالحها فوق مصالح الإنسانية جمعاء. حتى مسألة أن هذه الدورة الرئاسية هي الثانية والأخيرة لترامب دستورياً لا يبدو أنه يقرُّ بها، وسبق له أن طالب بتمكينه من البقاء أكثر من دورة، وأعاد تكرار هذا في لقاء جمعه مع النواب الجمهوريين، الأربعاء الماضي، ملمّحاً إلى ضرورة أن يفعلوا شيئاً لتمكينه من ولاية ثالثة. من ثمَّ، مقاربة التوجّس والقلق من ولاية ترامب الثانية، داخلياً وخارجياً، لها ما يسوّغها، بل هي الأمر الطبيعي، وعلى الولايات المتحدة والعالم أن يشدّا الأحزمة ويتأهبا لأربع سنوات من الاضطرابات والتقلّبات بناءً على مزاج الرئيس القادم وأجندته، وأجندة من حوله من مجانين الأيديولوجيين والشعبويين والعنصريين. إننا على موعد مع أربعٍ عجافٍ (على الأرجح) سنكون فيها كمن يخوض غمار قطار موت (أفعوانية: Rollercoaster) رهيبة. ولنكن صريحين، سنكون، نحن العرب الأكثر تعرّضاً للخطر، إذ إننا ركّاب أفعوانية من دون كوابح ومن دون إجراءات سلامة ومن دون أحزمة أمان، وفوق هذا وذاك لا أنصار ولا بواكي لنا.
نظرة فاحصة ومتأنية على بعض ترشيحات ترامب لأكثر المناصب حساسية وخطورة، داخلياً وخارجياً، تنبئنا بحقيقة المتاعب والتقلّبات التي تقف أميركا والعالم على حافتها. تعلّم ترامب من تجربة ولايته الرئاسية الأولى أن استعانته ببعض كبار المسؤولين من المهنيين كانت قيداً على نزواته وأجندته المبعثرة وغير المنسجمة. لذلك، اصطدم بعدد من وزرائه، كوزيرَي الخارجية والدفاع ريكس تيلرسون وجيمس ماتيس، كما اصطدم بمستشارين له للأمن القومي، ومن عيّنهم مسؤولين عن أجهزة المخابرات، وكان مصيرهم الطرد جميعاً. على هذا الأساس، معيار التعيينات اليوم عنده الولاء، والولاء فقط، لا الكفاءة.
على المستوى الداخلي، يكفي أن تنظر إلى مرشّح ترامب لمنصب وزير العدل، النائب الجمهوري من فلوريدا مات غيتس. هذا رجل مجنون يميني بكلّ ما تعني الكلمة من معنى، حتى أن ترامب يبدو معتدلاً في مقابله. غيتس مكروه حتى من داخل حزبه، وهو من قاد جهود إطاحة قائد حزبه والرئيس السابق لمجلس النواب كفين مكارثي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد أقلّ من عشرة شهور من انتخابه رئيساً للمجلس. المفارقة، أن غيتس هذا يتصدّر الجهود الجمهورية للتشكيك في صلاحيات وزارة العدل ويتهمها بأنها مسيّسة، وفوق هذا وذاك هو نفسه متّهم بعلاقة غير قانونية مع فتاة قاصر. وهكذا، يصبح المتّهم بجريمة مسؤولاً عن الوزارة المنوط بها حفظ القانون. ولا غرابة في ذلك، فالرجل المدان بـ34 تهمةً جنائيةً، وملاحق بمحاولة قلب نتائج انتخابات الرئاسة عام 2020، انتُخب رئيساً من جديد. هذه أميركا اليوم.
ينطبق الأمر على ترشيحات ترامب في السياسة الخارجية. خذ بيت هيغسيث، الضابط السابق في الحرس الوطني الأميركي ومقدّم البرامج في شبكة فوكس نيوز (اليمينية)، الذي رشّحه ترامب لتولّي منصب وزير الدفاع في إدارته المقبلة. سبب تعيين ترامب له أنه كان يتابع برنامجه على القناة اليمينية، وكان دائمَ وشديدَ التملق لترامب. ولو خضنا في أسماء أخرى كثيرة مرشّحة (قد يكون من أصحابها من عيّنوا رسمياً لحظة نشر هذه السطور)، مثل السيناتور ماركو روبيو، المرشّح لمنصب الخارجية، أو النائبة إليز ستيفانيك المرشّحة سفيرةً في الأمم المتحدة، أو مايك والتز مستشاراً للأمن القومي، أو النائبة الديمقراطية السابقة تولسي جابارد المرشّحة لقيادة الاستخبارات الوطنية، أو مايك هوكوبي المرشّح سفيراً في إسرائيل، فإننا نجد أن العوامل المشتركة بينهم اليمينية والشعبوية المفرطة، والولاء المطلق لترامب، والعداء للمؤسّسات والتحالفات الدولية (روبيو استثناء هنا ولكنّه يقدّم تماهيه مع ترامب وولاءه له على قناعاته)، والتعاطف غير المحدود مع إسرائيل. وتتضاعف خطورة الأربع سنوات المقبلة إذا ما أخذنا في الاعتبار أيضاً أن ترامب يأتي بأجندة يمينية شعبوية صارخة معدّة مسبقاً من مركزَي دراسات يمينَيين، هما Heritage Foundation، وAmerica First Institute. ولا يُخفي ترامب نياته بأنه يسعى إلى تطهير المؤسّسات الأمنية والعسكرية والسياسية ممّن يعدّهم خصوماً سياسيين وعوائق تحول دون تطبيق أجندته.
طبعاً، ما سبق لا يعني أن ترامب لن يواجه معارضةً داخليةً وخارجيةً، خصوصاً أن الديمقراطيين، وإن لم يكونوا في الأغلبية في الكونغرس الآن، سيجعلون من الانتخابات النصفية بعد عاميَن استفتاء عليه. كما أن كثيراً من وسائل الإعلام ومؤسّسات المجتمع المدني والحركات الشعبية، وبعض مستويات البيروقراطية والقضاء، في أميركا، ستعمل قدر المستطاع لكبح جماح الرئيس وإدارته عاميَن على الأقلّ. على المستوى الخارجي، فإن زيادة منسوب التوتّر مع دول وازنة مثل الصين، أو حتى مع الحلفاء، مثل الشركاء في حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي، قد تشكّل كوابحَ إضافية. لكن، كم ستكون فعّالية هذه الكوابح في لجم جماح دولة مثل أميركا وإدارة مثل إدارة ترامب القادمة؟
ثالثة الأثافي، ستكون من نصيبنا نحن العرب، وكذلك في فلسطين. من ثمَّ، لا يكفي شدّ الأحزمة في حالتنا، بل لا بدّ أن نبحث وسائل نجاتنا ونحدّدها. صحيح أن أميركا مؤذية لنا دائماً، سواء تحت حكم ديمقراطي أم جمهوري تقليدي، ولكنّها أكثر أذىً وخطورة تحت حكم شعبويٍّ يمينيٍّ متطرّف ومتصهين حتى النخاع. وليس من الدقّة والصواب قراءة واقع أميركا اليوم بالمقاربات السابقة، فأميركا تغيّرت وتتغيّر، وثمَّة صراع حقيقي على جوهرها وإمكانية اختطافها وإعادة تشكيلها، حتى وإن لم يكن ذلك مهمّةً سهلةً أبداً.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن
المصدر: العربي الجديد