د.عبد الله تركماني
ما يجري أمام نظرنا اليوم هو مآل سياسي وثقافي حتمي لعقود من تهميش الإنسان العربي والعيش القسري وسط القمع الممنهج وأقبيته، إنه نهاية رهانات أخيرة لجيل من أتباع عروبة لم تنجز النهضة المنشودة، عبر الأنموذج العسكريتاري الانقلابي وما رافقه من جرائم بحق المجتمع وتحكيم أقلية بأكثرية وعسكرة وسجون وقدسية فرد وتركيب عصبيات ما قبل وطنية وترييف حواضر.
وبالرغم من ذلك فإنّ بعض المتكلمين ما زالوا يتصورون أنهم، بكلامهم وخُطبهم المنبرية، يستطيعون تغيير حقائق العصر والعالم، في عالم لا يعترف إلا بنور الحقيقة، وقوة الحضارة، والعمل المنتج القائم على العلم والتنظيم، والحريات السياسية الدستورية المتجاوزة لأي استبداد والكاشفة لكل فساد.
وعليه، فلا يظنن أحد أنّ هناك لحظة عربية حاسمة تحتاج منّا درجة عالية من الصدق مع النفس والوضوح في الرؤية مثل تلك التي نمر بها حالياً، لذلك لابدَّ من تشخيص الداء واكتشاف أسباب العلة قبل أن ندخل في جوهر المشكلة ونتحدث عن الحلول لها وكيفية الخروج منها.
إنّ المقاربة العقلانية النقدية التي نعتمدها بشجاعة، في كل كتاباتنا ومواقفنا، هي التي سترتفع- كما نعتقد- بالرابطة العربية من المستوى التبشيري العاطفي، إلى مستوى القاعدة السياسية الثابتة في الفكر السياسي العربي. ويخطئ من يعتقد أنّ المسألة تنحصر في خطاب أيديولوجي معين، فتيارات الأمة كلها معنية بصياغة خطاب عربي عصري يتضمن أصالة شعوبنا، ويستوعب مجمل التوجهات الحضارية والمدنية المعاصرة، ويستشرف مصالح وأهداف شعوب المنطقة. وإننا إذ نمارس النقد العلمي للوعي السائد نطمح إلى تصفية كل ما هو متأخر فيه لربطه بالكونية والتقدم والديمقراطية، لأنّ هذا المضمون يشكل النقطة المركزية لمستقلنا.
ولا شكَّ أنه في عالم عربي يعاني من التأخر التاريخي، ويعيش في ظل طلاق بين عالم السلطات الحاكمة وعالم المجتمعات العربية المُستَلبة، من الصعب جداً على أي باحث أو كاتب أن يزحزح المقولات و المفاهيم التي ترسخت عبر عقود من الزمن، لا سيما بعد أن أصبحت الدولة العربية، على اختلاف مسمياتها، قناعاً للاستئثار ولاحتكار السلطة.
إنّ أسوأ ما في الواقع العربي الراهن أنه لا يحمل في سياق سلبياته المتراكمة ما هو مبعث أمل حقيقي، ولو بعد حين. فالتداعيات الجارية في أكثر من بلد عربي تحمل مخاطر وهواجس أكثر مما هي انطلاقة واضحة نحو مستقبل أفضل، ولو أُمكن استطلاع رأي الشعوب العربية في أي مكان عن واقعها وعن رؤيتها للمستقبل لكان الجواب مزيجاً من نقد الواقع وخوف من المستقبل.
وفي ظل الحديث عن ضرورة التغيير وإحداث تحولات عميقة في العالم العربي، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ما زلنا نلاحظ شمول الخطاب العربي على لغة إنشائية خطابية لا تقدم حلولاً ملموسة ولا تتعامل مع الواقع، خطاباً هائماً يسبح في فضاء واسع وفضفاض ولا يتعامل مع قضايا محددة وفق رؤى نابعة من قضايا الواقع ومشكلات وطموحات شعوبنا.
فبينما يتجه التطور نحو آفاق مستجدة، طارحاً رؤى وقيماً وتحديات غير مسبوقة تمهد لواقع كوني جديد قد يقلب التوجه السائد حتى الآن لسيرورة الحضارة البشرية على الأرض، لا يزال الإنسان العربي محاصراً بأسئلة القرن التاسع عشر، يكررها ويستعيدها ويدور حولها في حلقة مفرغة. ففي فترة حركة النهضة التي بدأت في النصف الثاني من القرن، ونضجت في النصف الأول من القرن العشرين، كان العرب يتطلعون إلى التقدم وإلى الرقي ببلدانهم ومجتمعاتهم إلى مستوى حضارة العصر. بينما العرب في هذه المرحلة ” مخطوفون ” ومحاصرون بين عوامل داخلية متكلسة تمنع تدفق الدم الصحي في شرايين مجتمعاتهم، وبين تدخلات دولية مباشرة تؤثر بوطأة ثقيلة في التطورات العربية الجارية طبقاً لمصالحها.
إلا أنه من العبث والسخف الاستمرار في بكائيات لوم القوى الخارجية ذات المصالح ومحاولة إعطائها دروساً في الأخلاق، فهي ليست جمعيات خيرية تساعد الشعوب المغلوبة على أمرها، ولا بدَّ من الاعتماد على النفس في نهاية الأمر، وذلك بعد فهم آليات التعامل الدولي في هذا الزمن.
وفي الواقع يحار المرء وهو ينظر في لائحة فواتير التاريخ المؤجلة أمام العرب، كما ذكرها الدكتور محمد جابر الأنصاري:
– فاتورة الإصلاح الديني واستفحال العوائق المضادة لإنجازه بالارتداد إلى أصوليات الغلو والتطرف.
– فاتورة الإصلاح السياسي البطيء والمجمّد في صيغ التسويف الذي يأتي ولا يأتي، إلا في قليل من بلاد العرب.
– تعثر ولادة المجتمع المدني ومؤسساته تحت وطأة الطائفة والقبيلة وتقاليدهما البالية، واستباحته بطغيان الأحزاب التي لم تأخذ من التحديث إلا اسمه، أما في حقيقتها فهي الطائفة والقبيلة وقد تحزبت سياسياً واجتماعياً.
– التخبط بين النظم الاقتصادية القديمة والوافدة والتبعية السطحية للوافدة منها، دون الاستقرار على اقتصاد منتج وقابل للتجدد مع مستجدات العالم.
– أوهام شائعة تؤلف بنية ذهنية هي محصلة هذا الخليط المجتمعي المتعثر القائم على التلفيق الهجين بين مؤثرات الماضي والحاضر، دون الاقتدار على حسم فكري يفتح طريق التحديث في النظرية والتطبيق.
هذه الفواتير المؤجلة نسمع صدى اختناقها كل ساعة في الانفجارات الاجتماعية المتزايدة في العواصم والمدن العربية، وفي صراع الأخوة- الأعداء، وتقدم جيوش الأعداء الذين يدركون مغزى التاريخ ويعملون على وقف مسيرته المنطقية.
المصدر: الحوار المتمدن