إيمان أبو عساف *
ليس مستهجنًا أمر الطوائف والنِّحَل والأعراق على مستوى الشعوب في العالم، ولكن أغلب الدول وجدت صيغة للتعددية من خلال الدولة الوطنية، التي أحدثت فرقًا في ممارسة المواطنة والشعور بالمساواة. وهنا تأخذ التعددية كل صفاتها الإيجابية في التنوع الذي يثري ويغني المجتمع، ويظهر الجميع كيانًا اجتماعيًا موحدًا. وهذا لم يحدث في بلادنا لأسباب متعلقة بقيام دولة مذهبية مكفولة من البعث الذي فاض بالشعارات، ولعب دورًا كبيرًا في التدمير الاجتماعي الذي كان بدوره مغذيًا لكل أنواع التشرذم والتعاضد. ولا بد من القول هنا إن الطوائف ليست من صنع التاريخ بحد ذاته، بل إن الأمر منطلق للتوجه المنهجي في معالجة أمور الشقاق على مستوى المفاهيم الديمقراطية والهوية والوطن والمواطنة.
وفي العموم، لم تدخل بعدُ كل هذه المفاهيم في بنيتنا الذهنية لخلق حالة اندماج وطني تفضي إلى دولة المواطنة. وهنا نكتفي بالإشارة إلى أن هذا الأمر يحتاج إلى بحوث عميقة تتناول أسباب هذا التخلخل الاجتماعي، سواء المحلية أو الوافدة.
من الطبيعي بعد هذا أن تدرك الأقليات أن الوطن هو وحده جوهر وإطار المواطنة. ويدرك أبناء محافظة السويداء، أن مشاركة الأكثرية هو السبيل الوحيد لبناء مشروعها الوطني. ورغم أن السويداء، كمحافظة، تحتضن الأقلية الدرزية التي عمل النظام جاهدًا على عزلها ومحاولة جعلها أقلية وظيفية تخدم مشروعه السلطوي، مما عزلها ككتلة شعبية عن محيطها في المرحلة الأولى من الثورة، إلا أن نخبها كانت مبادرة ولها أسبقية في التمرد والرفض. وترجع النخب في الطائفة هذا إلى فتور الروح الوطنية عند الجميع من السوريين، وهي الروح التي غذّاها النظام الأمني والعقيدة البعثية.
ومع استمرار الثورة وحصارها عالميًا وإقليميًا، ومحاولة تغيير هدفها، أدركت نفس النخب أن عملية خلق وعي عام يبعث الروح الوطنية السورية أمر حاسم وفاصل إذا أردنا فعلًا الخلاص من الاستبداد والوصول إلى مرحلة إنتاج عقدنا الاجتماعي.
وبناءً عليه، خرج أهل السويداء، لكن الخروج كانت بداياته عفوية، وانتظر الجميع أن تبلور الساحة فكرًا وأدوات تعكس الروح الوطنية السورية العامة. واستمر الأمر مدة ستة أشهر بين صد ورد في المجالس والحوارات التي كانت تدور في أعقاب الحراك اليومي.
وكان على قادة الحراك أن يجدوا منطلقًا يقظًا بعيدًا عن المحلية لبناء وطن للجميع. وظهرت تباعًا المقاربات التي غذتها سنوات البعث والمرحلة الأسدية، والتي بيّنت أن تناول الموضوع بنفس الأدوات ونفس المرجعيات ما هو إلا مراوحة في المكان، وأن الحراك سيبقى بعيدًا عن هدفه. وكلما كان يلوح في الأفق رؤيةٌ ما، تسقط بحكم التداخلات العميقة في المفاهيم. وكثيرًا ما كانت هذه التداخلات غير منسجمة ولا يمكن أن ترسم طريقًا نحو سوريا الوطن.
وظهر ذلك عندما تدخلت المشيخة، ممثلة بشخص الشيخ حكمت الهجري في الحراك، وقد بدا هذا التدخل قضية لا بد منها إذا كان رجال الدين يبغون المواطنة. وأبرزت كثير من النخب الامتعاض والتخوف من أن يتحول رجل الدين إلى مهيمن بفرض أصولية ما، وبالتالي العودة إلى استبداد جديد غريب عن روح المواطنة العامة، التي تشكل قلب العقد الاجتماعي. واستمر هذا التخوف لفترة غير قصيرة، وكان مثار سجالات، رغم أن المشيخة طمأنت الجميع أن التدخل هو إعلان موقف عام رافض للنظام ومؤيد للحراك، وأنها ستقف عند هذا الحد. إذ من الواجب أن يكون رجل الدين في روح مجتمعه، لكنه سيبارك دائمًا الحراك وسيؤيد جمهوره مهما تعددت آراؤه السياسية، من أجل بناء سورية الوطن.
وتكرر هذا التطمين عبر اللقاءات اليومية التي كانت مستمرة في دارة شيخ العقل، وبقي البعض ممتعضًا ومتخوفًا من فرض أصولية جديدة غريبة عن وطننا وثقافتنا وتاريخنا. واطمأن الأغلب إلى أن الدين لن يكون في محافظة السويداء بهذه الصورة، لأنه أصلًا يدعو إلى الزهد في الحياة وهو دين منغلق وغير تبشيري باعتباره دين صفوة معتزلة ليس لها طموحات أو مطامع في السياسة والحياة العامة. فقد كان الدين على الدوام في هذه الملة متماهيًا مع الثقافة إلى درجة الاندماج الكامل، بحيث لا يظهر الفرق الذي يفصل بين الثقافة والدين، ويتحول بهذا الاندماج إلى معلم ثقافي ووطني.
إلى حد كبير، تقبل الحراك هذه الحقيقة، وعاد للخوض في معارك التيارات والأحزاب التي كانت من قبل، والتي نشأت بعيد الثورة. ونظرًا لسنوات التغيير السياسي والحصار الأمني، لم يستطع الحراك الوصول إلى مشاركات فعلية، فقد تشبع الجميع بروح الشائعات والشك، ومارسوا نفس أساليب النظام دون وعي أو بوعي. ولكن مراجعات مستمرة كانت تعيد الحراك إلى الساحة، حيث ظلت كتلته بين مد وجزر طوال الفترة التي أعقبت عامًا على مروره.
في أثناء العمل الحثيث على بلورة هيكلية وخطة عبر انتخاب لجان مختصة، ظهر مؤتمر بروكسل الذي أطلقته مسار، وفي المؤتمر احتلت اللجنة السياسية المنتخبة مقعدها. ولم تمض ساعات حتى كان هذا الحدث عاصفًا وإشكاليًا، مما تطلب التحرك بعجالة تفاديًا لسيل الاتهامات التي كادت أن تودي بالثقة التي أُعطيت للجنة السياسية التي تم انتخابها بممارسة ديمقراطية.
دافع البعض عن اللقاء بأنه حوار، وأنه لا بد من الانفتاح والحوار مع الجميع، وأن هذه إحدى قواعد الانطلاق نحو دولة العقد الاجتماعي. بينما وصف آخرون حضور المؤتمر بأنه انتزع مضمون الحراك الذي يعمل من أجل سوريا وطن الجميع، وأنه يوافق ضمنًا على عملية التفتيت والانفصال. أخذ الأمر مدى واسعًا جدًا من الجدال والاصطفافات، وكان على اللجنة السياسية أن تبرر الذهاب للمؤتمر، لكن كل النوافذ أُغلقت أمام أي تبرير، وبدا كل تفسير مدانًا.
بات الحدث وكأنه وقفة للمراجعة؛ مراجعة تتناول كل ما اعتقدناه معرفة وأداة. واتضح بعد كل ذلك أننا في أزمة مفاهيم حقيقية، وفي أزمة انغلاق تحت دعوى التأثير على الأصالة، وأننا نتناول الرفض بأساليب النظام نفسها: تخوين، وشائعات، وانفصال عن الواقع، واتهام ووصم.
تظهر هنا عملية تقديس العقائد السابقة واللاحقة على حساب الحرية، وهذا يجعل إدخال مفهوم العقد الاجتماعي والحريات التي يضمنها ضمن الفهم الإنساني ضرورة لكرامة المواطن السوري مهما كانت خلفياته العرقية والدينية. المطلوب هو ثورة ترافق الثورة على كل المفاهيم التي ورثناها من مرحلة البعث والأسدية، تصنع فكرًا لا أيديولوجيات، ووطنًا حقيقيًا لا وهمًا منفصلًا عن الزمان والمكان.
لا شيء يعزز روح المواطنة بقدر التفهم والتفاهم، ولا منقذ لسوريا على الإطلاق إلا عبر هذا التعاون المنفصل عن المسبق والراسخ. وهذا ما استقر عليه الحراك ليستمر في مراكمة القدرة على إنتاج عقد اجتماعي، التطرف فيه غير مقبول مطلقًا، إلا في حالة الوطن الواحد للجميع. هذا هو محرك حراك السويداء الراهن، وعسى أن يكون الوطن السوري هو وحده تطرفنا الحميد.
* إعلامية وناشطة مدنية سورية
المصدر: تلفزيون سوريا