وليد شقير *
توحي نتائج القمّة العربية- الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة.
صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة لاستعداد إيران للنزول عن الشجرة من خلال المجموعة الإسلامية، فاغتنمت المملكة العربية السعودية المناسبة لتشجيعها… لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الرياض، والمجموعة العربية الفاعلة، انتزعت في القمّة موقعاً يؤهّلها للاشتراك في أيّ تسوية في الإقليم. لم يعد باستطاعة الولايات المتحدة حصر ترتيبات المنطقة بالتفاوض مع طهران وحدها. وما يحتاج إلى الاختبار في المرحلة المقبلة هو أخذ دونالد ترامب في الاعتبار الموقف العربي بعد نتائج القمّة. بقدر ما يحتاج الأمر إلى تفاهمات مع طهران، سعت إليها الإدارات الأميركية المتعاقبة، بات على واشنطن أن تحسب حساب الموقف العربي.
خطت قمّة الرياض خطوة فعليّة على طريق استعادة الدور العربي في ما يخصّ أزمات الإقليم وحلولها. وترقّبُ هذا التوجّه يعود إلى عوامل عدّة، منها:
– لربّما يشكّل خروج الإدارة الديمقراطية من البيت الأبيض عاملاً مساعداً على التعاطي بجدّية مع الوزن العربي في معالجة قضايا الإقليم. فمنذ عهد باراك أوباما، الذي كان يطرَب لتنظيم الاتّفاقات مع إيران ويهمل المصالح العربية والخليجية، سادت نظريّة ترويض دول الخليج عبر “البعبع” الإيراني. استهزأ أوباما بحضارة العرب ودورهم. لكنّ ضمان أمن إسرائيل بعد طوفان الأقصى دفع إدارة جو بايدن إلى إضعاف أذرع إيران.
طهران تنظّم تراجعها:
– تحتاج طهران إلى تنظيم تراجعها عن مشروع التوسّع الإقليمي بعد الضربات التي تلقّتها من إسرائيل. وهي ضربات أميركية بالتعريف السياسي. لجأت القيادة الإيرانية إلى الحاضنة العربية الإسلامية لتغيير سياساتها. فهي قبل حرب غزة، ثمّ لبنان، اكتشفت مدى أضرار ذلك التوسّع على اقتصادها ومجتمعها، جرّاء العقوبات وأكلاف تصدير الثورة خارج الحدود.
– وافقت طهران للمرّة الثانية بعد القمّة الاستثنائية الأولى في 11/11/2023 على السقف العربي للقضيّة الفلسطينية، أي حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية بحدود 1967 في الضفّة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية.
الاستدراك العربيّ واستعصاء التّطبيع مع إسرائيل:
– بات الموقف العربي، ولا سيما السعودي، عصيّاً على المشروع الأميركي للتطبيع مع إسرائيل المحكومة باليمين المتطرّف وجموحه إلى القضاء على القضيّة الفلسطينية. مراجعة تفاصيل البنود الـ38 لقمّة الرياض العربية – الإسلامية تكفي للاستنتاج بأنّ هناك سقفاً عربياً جديداً للتعاطي مع الدولة العبرية. فالقمّة تستعجل إصدار مذكّرات توقيف عن المحكمة الجنائية الدولية في حقّ المسؤولين الإسرائيليين المتّهمين بارتكاب الإبادة الجماعية.
كما دعت لـ”حشد الدعم الدولي لتجميد مشاركة إسرائيل في الجمعية العامّة للأمم المتحدة والكيانات التابعة لها، تمهيداً لتقديم مشروع قرار مشترك للجمعية العامة”…
وإذ تستند هذه البنود إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، فإنّها تعاكس أيّ توجّه نحو التطبيع ومشروع الرئيس الأميركي المنتخب لاستئناف اتفاقات أبراهام. فكيف يمكن للرياض وغيرها من الدول أن تقبل التطبيع مع دولة تدعو المجتمع الدولي إلى محاكمة حكّامها، بل تطالب بطردها من الأمم المتحدة، وهو مشروع تعمل لأجله حكومة ماليزيا؟
تموضع عربيّ جديد بوجه أحلام توسّع إسرائيل:
تمهّد بنود قرارات القمّة لانتزاع القضية الفلسطينية من يد إيران، بعدما اتُّهمت الدول العربية بأنّها تركت لإيران أن تُمسك بخيوطها وتستغلّها في مدّ نفوذها الإقليمي. بهذا المعنى استدركت الدول العربية والخليجية سياسات الإهمال والتخلّي التي اتُّهمت بها على مدى العقدين الماضيين عن قضيّة فلسطين.
هو استدراك إذا اقترن مع تصميم على ملاحقة البنود الرئيسة في قرارات قمّة الرياض، يسمح بتموضع عربي- إسلامي جديد على الساحة الدولية يتيح مشاركة الدول العربية الرئيسة في رسم النظام الإقليمي الذي يجري التحضير لإرسائه في المنطقة، انطلاقاً من المحاولات لوقف حرب غزة ولبنان.
المتشائمون حيال الاندفاعة العسكرية الإسرائيلية يخشون من أن تقود أوهام وأحلام انتصار اليمين الإسرائيلي إلى ما هو أخطر من الهيمنة على الدول المحيطة بالدولة العبرية. هؤلاء يتحدّثون عن نبش مشاريع تقسيم المنطقة إلى دويلات تبقيها في حال عدم استقرار وتحافظ على تفوّق وسيطرة الدولة العبرية بعد توسّعها عبر الاحتلال والاستيطان.
ما أعلنه وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، بعد فوز ترامب بالرئاسة، من أنّ عام 2025 هو عام ضمّ الضفة الغربية، لم يأتِ من فراغ. تجري بموازاة هذا المشروع تحضيرات لإعادة المستوطنات اليهودية إلى شمال غزة. وهذا ما يفسّر التركيز على تهجير من بقي في الشمال الغزّيّ من خلال المجازر اليومية التي ترتكبها الطائرات الإسرائيلية هناك في حقّ النازحين والقاطنين تحت الخيم.
مشاريع التّقسيم وأمن الملاحة البحريّة:
دفعت المخاوف من إيقاظ مشاريع التقسيم في المنطقة إلى التساؤل عما إذا كان البند الثاني في قرارات قمّة الرياض مؤشّراً إلى تنبّه القيادات العربية لمشاريع التقسيم. فبالإضافة إلى تركيز قراراتها على غزّة ولبنان، نصّ ذلك البند على “التحذير من خطورة التصعيد الذي يعصف بالمنطقة ومن توسّعٍ رقعة العدوان ليشمل الجمهورية اللبنانية وانتهاك سيادة جمهورية العراق والجمهورية العربية السورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية”. يشير بعض الأوساط إلى أنّ هذه الدول هي التي تستهدفها مشاريع التقسيم، التي لا بدّ من أن تتأثّر بها الدول المحيطة بكلّ منها.
في سياق السعي العربي إلى مقاومة مشاريع من هذا النوع، من الطبيعي أن تشير الترتيبات التي يجري التداول بها في شأن وقف الحرب، سواء في غزة أو في لبنان، إلى أسس النظام الإقليمي الجديد. وهو تموضع يشمل إيران هذه المرّة من موقع تفاهماتها مع الدول العربية، وفي مقدَّمها السعودية.
تتقدّم العلاقات مع طهران وفق وتيرة تأخذ في الاعتبار مثلاً حفظ أمن الملاحة البحرية، الذي سبق لطهران أن طرحت تعاوناً مع الدول العربية في شأنه، بدلاً من أن يتولّاه الانتشار العسكري الأميركي الغربي في مياه الخليج. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى حضور السعودية مناورات بحرية إيرانية في مياه الخليج بصفة مراقب، تمهيداً لمشاركة فعليّة لاحقة.
وضوح أم غموض في توجّهات ترامب؟
بعثت القمّة برسائل إلى الرئيس ترامب، استباقاً لإرساء الأخير توجّهاته في المنطقة. ومع انفتاح معظم دولها على فوزه، يتطلّب اتّضاح سلوكه المرتقب المزيد من الوقت. فالمقدّمات تشي بصعوبة توقّع مقاربة أميركية تأخذ في الحسبان الهواجس العربية المدعومة إسلامياً.
أسماء الشخصيات الثلاث عشرة كافّة، التي أُعلِن اختيارها من قبل ترامب للمناصب الرفيعة، يوالون الحركة الصهيونية. ثمانٍ منهم على الأقلّ هم من المتشدّدين ضدّ إيران. معظمهم، فضلاً عن نشاطهم في اللوبي الصهيوني لمصلحة الدولة العبرية، يوالون المجموعات المسيحية الصهيونية المتطرّفة المؤيّدة لتوسيع إسرائيل. وبعض التعيينات لاقت استغراباً حتى من الجمهوريين في الكونغرس، مثل تعيين مات غاتز لوزارة العدل. فهل يكفي الاعتماد على براغماتيّته وعلى غلبة نهجه القائم على حبّ الصفقات ذات المردود المالي في العلاقة مع الدول العربية من أجل الرهان على تليين انحيازه لإسرائيل؟
ما حقيقة استعدادات إيران؟
تقوم فلسفة عودة الدور العربي إلى التأثير في ما يُرسم للمنطقة على أهميّة تعاون عربي إيراني بمواجهة ما يجري التخطيط له، انطلاقاً من ضرورة تخلّيها عن طموحات تصدير الثورة، فإضعاف قدرتها على التوسّع الإقليمي يفترض أن يقابله تقارب معها يحول دون أن تملأ إسرائيل الفراغ الذي أحدثته الضربات لنفوذها.
التساؤل عن استعداد ترامب لخفض انخراط بلاده في حروب المنطقة توفيراً لكلفتها يقابله تساؤل عن استعدادات طهران لاعتماد المرونة ولعقد التسويات مع جيرانها بما يحفظ مصالحهم بدلاً من الاكتفاء بالتفاهمات مع أميركا.
قال ترامب أثناء حملته الانتخابية: “لا أريد أن ألحق الضرر بإيران، لكن لا يمكنهم أن يمتلكوا أسلحة نووية”. لقاء إيلون ماسك، الذي عيّنه ترامب لوزارة الكفاءة الحكومية، مع السفير الإيراني في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني تناول حسب “نيويورك تايمز” خفض التوتّر بين إيران والولايات المتحدة.
حرص الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على القول بعد أيام على فوز ترامب: “سيتعيّن علينا التعامل مع الولايات المتحدة على الساحتين الإقليمية والدولية، ولذا من الأفضل أن ندير هذه العلاقة بأنفسنا”. وأضاف: “يتعين علينا أن نتعامل مع أصدقائنا بكرم وأن نتعامل مع أعدائنا بصبر”.
ما يُفترض رصده في المرحلة المقبلة هو: ألا تزال طهران تطمح إلى عقد تفاهمات مع واشنطن، كعادتها، بمعزل عن مصالح جيرانها العرب، وأحياناً ضدّهم، أم ستبقى تحت عباءة قمّة الرياض؟
* كاتب صحفي لبناني
المصدر: أساس ميديا