فايز سارة *
كانت حروب إسرائيل وحروب إيران، أبرز ما تعرّض إليه العرب في ربع القرن الماضي، وكان لكل واحدة منها مسارات وأدوات وأسباب ونتائج، تقاربت في بعض محتوياتها وتفاصليها وتشابهت احيانًا، لكن بعض ملامحها، حملت دلالات الاختلاف بينهما، لكن ما سبق كله، لم يبدل الطبيعة العدوانية لأهداف تلك الحروب.
الصفة الأساسية في حروب إسرائيل، أنها كانت تسعى إلى تثبيت كيان إسرائيل في المنطقة وتطبيع علاقاتها، والقضاء على أي تهديدات تواجهها راهنة كانت او مستقبلية، وتكريس إسرائيل دولة مقررة في المنطقة وشؤونها، وسعت إسرائيل لإخفاء طبيعة حروبها، أن جعلتها ردات فعل على “أعمال عدائية” قامت بها قوى فلسطينية أو لبنانية، في الضفة وغزّة وعبر خط الحدود في جنوب لبنان، وباستثناء الحرب الحالية، فقد كانت حروب إسرائيل قصيرة ومحصورة في مكان محدد، ورافقتها في الغالب استجابات لتدخلات إقليمية ودولية، أدت إلى وقفها عند حدود معينة.
وسجلت الحرب، التي انطلقت على غزّة في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تحولًا عميقًا في مجريات الحرب، كان بينها أنها تجاوزت ميادين المعارك التقليدية في الضفة وغزّة وجنوب لبنان، لتشمل كل قطاع غزّة ومعظم الضفة وغالبية الأراضي اللبنانية، وتجاوزتها إلى سوريا، التي ضرب فيها الاسرائيليون أهدافًا سورية وإيرانية، وهاجموا ميليشيات موالية لإيران بينها “حزب الله” اللبناني وفصائل من “الحشد الشعبي” العراقي، كما شهدت هجمات على الداخل الإيراني.
وأضاف الإسرائيليون تمايزات أخرى لحربهم الحالية بينها إضافات جديدة لأدوات الحرب التقليدية، فاستخدموا أسلحة إلكترونية للمرة الاولى، كما ظهر في تفجيرات أجهزة “البيجر”، وظهر في تمايزات الحرب عن سابقاتها مراوغة إسرائيلية غير مسبوقة في عدم الوصول إلى اتفاق على وقف الحرب، بل رفض التوصل إلى هدنة تفتح بابًا إلى معالجات وحلول، وهذا لا يعكس حقيقة أنّ إسرائيل تخوض الحرب الحالية بأعلى قدر من تأييد دولي فقط، بل تدل على مستوى تطرف وعنجهية إسرائيلية، لا تقتصر على حكومة نتنياهو، إنما تشمل الشارع الإسرائيلي الذي أعطى نقاط دعم متزايد لسياسات نتنياهو الذي كانت أسهمه في انخفاض قبيل الحرب وفي بداياتها.
وتتفق حروب إيران في جوهرها مع حروب إسرائيل، أنها تسعى إلى توسيع السيطرة على المحيط العربي، وذات ارتباط عميق مع حمولات تاريخية بعضها يتصل بالصراع العربي -الفارسي القديم، وآخر له بُعد أيديولوجي متصل بالخلاف الشيعي – السنّي، حيث الأغلبية في إيران من الشيعة، وأغلبية الإقليم من العرب السنّة، وأدى صعود حكم الملالي بعد ثورة إيران 1979 إلى تفاقم الخلاف المذهبي نتيجة سعي الملالي تصدير ثورتهم إلى المحيط العربي، مما سبب أول حروب إيران في عهد الملالي، حيث خاض العراق وإيران ما بين عامي 1980 – 1988 حربًا مدمرة، خلفت حتى تاريخها أفدح الخسائر البشرية والمادية في المنطقة، وليس في العراق وإيران فقط.
وسجلت نتائج الحرب وتفاعلاتها تحولًا عميقًا في حروب إيران التالية، حيث لجأت إيران إلى تدخلات ناعمة للتمدد الإقليمي، استخدمت فيها القوى والأدوات غير المسلحة للدولة والمرجعية الشيعية الإيرانية، أما استخدام القوة المسلحة، فقد أنيط بأدوات محلية أنشأتها أو سيطرت عليها إيران في عدد من الدول العربية، أبرزها “حزب الله” اللبناني الذي نشأ تحت مظلة إيرانية على أرضية الحرب ضد إسرائيل، وحركتا “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين، وقد صار لإيران نفوذ كبير عليهما عبر دعم الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وحافظ “حزب الله” اللبناني و”حماس” و”الجهاد” على دورهم باعتبارهم أدواتها فيما تعتبره إيران صراعًا مع اسرائيل، وهذا ما تبنته لاحقًا ميليشيات، تشكلت في العراق، انضم أكثرها إلى “الحشد الشعبي” العراقي، وعلى الخط نفسه كانت جماعة “أنصار الله” الحوثيين في اليمن، لكن الأهم في دور تلك الجماعات انخراطها في الحروب العربية سواء كانت حروبًا داخلية أو حروبًا في دول وبينها، فكانت في كل الأحوال الممثل المحلي لإيران في تلك الحروب.
ويبقى الدور الأبرز للمليشيات في حروب إيران العربية، هو دور “حزب الله” الذي كان يتزعمه حسن نصر الله حتى مقتله مؤخرًا في قصف إسرائيلي، وكان يصف نفسه أنه ممثل “الولي الفقيه” في لبنان، وكرر مرارًا ارتباط حزبه بإيران في كل متعلقاته من سلاح وذخائر ورواتب وصولًا إلى الروابط الإيديولوجية والسياسية، مما يؤكد ارتباط كل سياساته ومواقفه بإيران، وكان أبرزها على الصعيد الداخلي حربه على الأكثرية اللبنانية، التي انفجرت عند مقتل الرئيس رفيق الحريري عام 2005، والتي تكرّست بالقوة في اجتياحه بيروت في أيار (مايو) 2008.
ولعل أخطر أعمال “حزب الله” في المحيط العربي أمران، أولهما دوره المبكر في إنشاء وتأهيل جماعات شيعية باعتبارها أدوات ايرانية، كما حصل في بعض دول الخليج، والعراق وسوريا، والثاني تدخله المباشر في الأحداث الداخلية في العديد من الدول العربية، كما حدث في العراق وسوريا، حيث لعب دور “رأس الحربة” الإيرانية في التأثير على مجريات الحرب وتجييرها لصالح إيران.
لقد كررت أدوات إيران في البلدان العربية بصورة وأخرى بعضًا من أعمال وسياسات “حزب الله” في بلدانها على نحو ما فعل “الحشد الشعبي” مع خصومه في العراق، وفي التعامل مع المحيط العربي، حيث دفع “الحشد الشعبي” بعضًا من مليشياته للذهاب إلى سوريا للقتال إلى جانب نظام الأسد ضد السوريين، وقام “أنصار الله” الحوثيين بقتال خصومهم في اليمن، وشن هجمات صاروخية ضد دول الجوار اليمني، وكل هذه العمليات جزء من حروب إيران العربية تنفذها أدوات محلية، مدعومة وممولة من طهران.
الخلاصة في حروب إسرائيل وإيران ضد العرب، توافق كبير في أهدافها ومقدماتها، واختلاف في بعض مجرياتها ونتائجها، غير أنها في كل الأحوال، وضعت عددًا من البلدان العربية بين “السندان والمطرقة”، في توافق ضمني أدى إلى دمار البلاد، وقتل وتشريد السكان، وخلف أعباء ثقيلة، يصعب التخلص منها في القريب، وكلها خلاصات تكرر أسئلة تنتظر أجوبة، ولعل الأهم في الأسئلة سؤال: وماذا بعد؟.
* كاتب وسياسي سوري
المصدر: “عروبة 22“