الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بين العلن والظل: العلاقة الملتبسة بين تركيا وهيئة تحرير الشام

قافلة المساعدات دخلت الأراضي السورية عبر باب الهوى

أحمد طه

منذ سنوات، تحاول أنقرة أن تُقدِّم نفسها بوصفها الراعي الرئيسي للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في شمال البلاد، ولا سيما في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون التي تُدار شكلياً من قبل “الحكومة السورية المؤقتة”. غير أن الوقائع على الأرض تُظهر صورة أكثر تعقيداً، بل ومتناقضة أحياناً، تُثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة الحقيقية بين تركيا وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، المصنفة على قوائم الإرهاب.

 

المعابر الحدودية… شريان النفوذ والمال

من أبرز مؤشرات العلاقة غير المعلنة بين تركيا وهيئة تحرير الشام تبرز قضية المعابر الحدودية، وبخاصة باب السلامة وباب الهوى، كدليل حاسم على طبيعة التناقض في السياسات التركية شمال سوريا.

فبينما يخضع معبر باب السلامة، القريب من مدينة إعزاز، لسيطرة فصائل من الجيش الوطني السوري المدعوم من أنقرة ويعمل تحت الإشراف الاسمي لـ الحكومة السورية المؤقتة، إلا أن الإدارة المالية الفعلية تقع بيد الجانب التركي، الذي يتحكم بالعائدات ويوزع جزءاً يسيراً منها على الحكومة المؤقتة والفصائل التابعة له.

في المقابل، يُعد معبر باب الهوى الشريان الحيوي لشمال غرب سوريا، حيث تفرض هيئة تحرير الشام سيطرة كاملة عليه دون أي تدخل تركي مباشر أو محاولة لإخضاعه لسلطة بديلة. وتتحكم الهيئة من خلاله بحركة البضائع والمساعدات الإنسانية، وتجني إيرادات جمركية تُقدّر بملايين الدولارات شهرياً، وفق تقارير منظمات مثل المرصد السوري لحقوق الإنسان ومجموعة الأزمات الدولية.

هذه الإيرادات تمنح الهيئة استقلالية مالية وسياسية لا تتمتع بها باقي الفصائل الموالية لأنقرة، مما يعزز نفوذها في إدلب ويقلل اعتمادها على الدعم الخارجي.

ورغم إدراك تركيا لهذه المعادلة، إلا أنها تتغاضى عنها عمداً طالما أن الوضع الراهن يضمن لها استقراراً أمنياً على حدودها الجنوبية ويُبقي نفوذها قائماً بطريقة غير مباشرة عبر شبكة المصالح المشتركة.

المساعدات الإنسانية… بين السيطرة اللوجستية والمعضلة الأخلاقية

يتعزز نفوذ هيئة تحرير الشام في إدلب عبر بوابة المساعدات الإنسانية، إذ تمر معظم المساعدات الأممية إلى شمال غرب سوريا من خلال معبر باب الهوى، الخاضع لسيطرة الهيئة بالكامل. هذا الواقع يجعل من الهيئة الوسيط الإجباري بين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من جهة، والمجتمعات المحلية في إدلب من جهة أخرى، مانحاً إياها سلطة فعلية في التحكم بتوزيع الموارد وتوجيهها.

تستخدم الهيئة هذه السيطرة أحياناً كأداة لبسط نفوذها الاجتماعي والسياسي، في ظل صمت تركي أو حتى تنسيق غير معلن، حفاظاً على استقرار المنطقة وعدم تعريض خطوط الإمداد الإنسانية للخطر.

من جهة أخرى، يُعد معبر باب الهوى البوابة الوحيدة لوصول المساعدات إلى نحو أربعة ملايين شخص يعيشون في شمال غرب سوريا، بموجب التفويض الأممي الصادر بموجب القرار 2672. ورغم تصنيف الهيئة على قوائم الإرهاب، تضطر الأمم المتحدة إلى التعامل بشكل غير مباشر مع المؤسسات المدنية التابعة لها، نظراً لسيطرتها الكاملة على الأرض.

هنا تبرز المعضلة الأخلاقية والسياسية: فتركيا، من ناحية، تدعم استمرار تفويض الأمم المتحدة لإدخال المساعدات الإنسانية حفاظاً على استقرار حدودها الجنوبية ومنع انهيار إنساني واسع، لكنها من ناحية أخرى تغضّ الطرف عن تحكم الهيئة في هذه العملية، ما يمنحها شرعية ميدانية واقعية تتعارض مع التصنيفات الدولية.

اللعبة الصامتة وتناقضات المواقف الدولية

من الواضح أن هناك لعبة معقدة تُحاك في الظلام بين أنقرة وهيئة تحرير الشام، تقوم على تبادل المنفعة أكثر من أي توافق أيديولوجي.
فتركيا تغضّ الطرف عن سيطرة الهيئة على إدلب ومعابرها، مقابل التزام الأخيرة بضبط الأمن ومنع أي تهديد للقوات التركية المنتشرة في المنطقة. في المقابل، تستفيد الهيئة من هذا الغطاء غير المعلن لتكريس سلطتها وإدارة اقتصادٍ موازٍ يضمن استمرارها رغم الحصار والعزلة الدولية.

ورغم إصرار أنقرة في خطابها الرسمي على أنها “لا تتعامل مع التنظيمات الإرهابية”، تشير تقارير صادرة عن معهد دراسات الحرب والمنتدى السوري إلى وجود قنوات اتصال غير مباشرة بين الطرفين، تُدار غالباً عبر وسطاء محليين، لتجنب الصدام المباشر مع الهيئة، خصوصاً بعد اتفاق سوتشي عام 2018 مع روسيا الذي أسّس لتوازن هش في إدلب.

هذا الواقع يكشف عن تناقضٍ أخلاقي وسياسي يتجاوز تركيا نفسها، إذ يضع المجتمع الدولي أمام معضلة مماثلة. فحتى الولايات المتحدة، التي تصنف الهيئة تنظيماً إرهابياً، لم توقف مرور المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى، إدراكاً منها لضرورة التعامل مع “الجهات الفاعلة على الأرض”، كما صرّح مسؤولون أمميون عام 2023.

هكذا، تتحول إدلب إلى ساحة رمادية تُدار فيها شبكة مصالح إقليمية ودولية تتقاطع فيها ضرورات الأمن والسياسة والإنسانية، فيما يبقى سكان الشمال السوري رهائن لهذه التوازنات المتناقضة التي تُرسم في العلن بخطاب مثالي، وتُدار في الخفاء بحساباتٍ واقعية باردة.

الخلاصة

ما بين العلن الذي تتحدث فيه أنقرة عن دعم الحكومة السورية المؤقتة، والواقع الذي تُدير فيه هيئة تحرير الشام اقتصاد إدلب وسياساتها دون اعتراض حقيقي، تتكشف ملامح علاقةٍ وظيفية وبراغماتية أكثر من كونها أيديولوجية.

إنها علاقة مصلحية دقيقة تُدار خلف الكواليس، تجمع بين حسابات الأمن التركي وضرورات البقاء بالنسبة للهيئة، فيما يبقى المدنيون في شمال سوريا الحلقة الأضعف في معادلةٍ تتناوب فيها القوى على استثمار معاناتهم.

هذا المشهد يعكس جوهر المأساة السورية: حيث تتحول المبادئ إلى أدوات تفاوض، وتُختزل الإنسانية إلى ورقة في لعبة النفوذ والمصالح.

 

في النهاية، قد تكون الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن الشمال السوري بات ساحةً لـ “سياسات الظل”، حيث لا تُرسم الحدود بالخرائط، بل تُحددها حسابات البقاء والسلطة في عالمٍ يفضّل أن يغمض عينيه عن التناقضات… طالما ظلّ كل شيء تحت السيطرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.