الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ضرورة الانتقال الفلسطيني من “أبو عبيدة” إلى وطن مستقل

أسعد غانم *

حتى نستطيع أن نتجاوز المرحلة وآلامها، وخسائرها وتداعياتها، وأن نُعيد المبادرة إلى أيدينا، ولو جزئياً، نحن بحاجة أساسية الى القفز عن المقولات والمقالات الشعبوية وأشعار الغزل بالقيادات الكارثية، وإن ضحّت بحياتها.

 نحن بحاجة ألا نلتفت إلى الأصوات الشعبوية، يجب أن نتجاوز ذلك جوهرياً، وألا نقبل أن تقودنا وتهيمن علينا أصوات التغنّي بما أثبت أنه فاشل، أنه ساهم في توريطنا في أكثر انكساراتنا عمقاً ومرارةً وأشدّها إيلاماً. لم نكن دائماً بهذا السوء وضعف المبادرة وهذيان الاختراقات غير الممكنة وانعدام الحيلة، لم نكن وليس قدراً محتوماً أن نكون كذلك. بعد مرحلة مهمة، أنبأتنا بإمكانية مجابهة إسرائيل سياسياً وديبلوماسياً، دولياً ومحلياً، عاودنا التغنّي بشعارات الماضي وأحلامه النافقة.

كيف وصلنا إلى السكوت عن دعوات مبتورة عن الواقع ومؤذية وغير واقعية؟ كيف قبلنا دعوات “أبو عبيدة” للحرب المفتوحة، وسيطرة قيادة غير متزنة على اتخاذ القرار في غزة ورام الله وغيرهما؟ كيف قبلنا بإعادة تكرار فكرة “المليون شهيد”، كيف آمنّا بفكرة وحدة الساحات والتضحية بلبنان، أو انتظار الفرج من إيران لأمر غير منطقي وغير ممكن؟

ألهذا وصلنا في انعدام القدرة على التفكير المنطقي؟ كيف نقبل ولا نواجه من ينظر لنا بأن أي ثمن هو مقبول لأجل التحرير الموهوم والمعجون مع أفكار غيبية وينتظر مفاجآت تسوّقها له الفتاحة، قارئة الفنجان، اللبنانية ليلى عبد اللطيف؟ أهذا فعلاً ما يحتاجه الغزّيون والمقدسيون والمنفيون والقابعون تحت نير نظام التفوق العرقي والأبرتهايد؟

مصادرة الإرادة الفلسطينية:

في البدايات، عند الانطلاقة وبعدها، جلب الشعب الفلسطيني ونضالاته اهتمام العالم، كان فعله قليلاً ودويّه قوياً جداً، إلى درجة سماع العالم بصوته وبحاجته إلى الإنصاف، أسمعنا العالم الثالث كله، والمعسكر الشرقي وأجزاء مهمة من المعسكر المضاد، كوننا نحتاج شرعية في ظل انشداد إلى ما هو أكبر، الحرب الباردة وحروب ساخنة في أرجاء المعمورة وحروب عربية – إسرائيلية طاحنة، ونجحت ثلة من المناضلين في رفع سقفنا إلى سماء المعمورة. عبّر عن ذلك صوت أبو عمار في الجمعية العامة وهو يصدح “جئتكم بغصن الزيتون في يدي وبندقية الثائر في يدي الأخرى، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي”، وتراكمت على إثر ذلك الإنجازات الفلسطينية التي تكللت في تنظيم المجتمع الفلسطيني في غزة والضفة والقدس لتفجر أعظم ثورات البشرية، الانتفاضة الأولى وتداعياتها.

أذهل الشعب الفلسطيني العالم بانتفاضته الشعبية، وجعله لا يزيح عينيه عما تسببه إسرائيل من جرائم وأن ينصفه، ولو بمواقفه وبشكل نسبي، إلى أن أتت أوسلو ونسفت كل الإنجازات وأوصلتنا إلى سلطة فلسطينية هزيلة وخادمة لسلطة الاحتلال.

نعم وصلنا إلى هنا ليس فقط بفضل إخفاقات القيادة وفتك الآلة العسكرية الإسرائيلية وماكينتها الإعلامية، بل كذلك بسبب سكوت المثقفين والمؤثرين عن الدعوة الواضحة والشجاعة لتعلم الدروس وتغيير المسار، من حيث المشروع السياسي الاستراتيجي واستراتيجيات تحقيقه.

نعم، بعد تبيان فشل مشروع الدولتين، كان علينا فتح الباب أوسع لمشروع استراتيجي بديل، يميط اللثام عن الاستعمار الاستيطاني وآثاره – والتشديد هنا على آثاره القابلة للتغيير- ويدعو إلى مشروع دولة مدنية تستوعب كل من يرغب بذلك، بدل ذلك تلكأنا في مجابهة مشاريع ليست لها أي صلة بالواقع، وكان واضحاً أنها توصلنا إلى الهاوية، خصوصاً بعد تبيان حدود هويتنا، معالم تفردنا، وقوفنا وحدنا، مع التقدير للدعم العربي والعالمي.

كان واضحاً أن إسرائيل التي تزداد توحشاً هي من تُدير المشهد، هي من تخطط وتنفذ، وأن الإرادة الفلسطينية المنظمة والشعبية وامتداداتها الإنسانية، هي الوحيدة القادرة على التصدي للوحش المنفلت في فلسطين، وفي المنطقة.

كيف فقدنا القدرة على التأثير؟ فكل ما يحدث بعد “السابع من أكتوبر” هو بمبادرة وسيطرة إسرائيليتين، نتانياهو تحديداً. وكل ما يحدث هو في سبيل ترتيبات السيطرة النهائية والكاملة على فلسطين “أرض إسرائيل” حسب نتانياهو.

اللغو عربي والواقع إسرائيلي:

نجاحات نتانياهو السياسية والأيديولوجية والشخصية كبيرة جداً، ولو في تمويه العالم عما يحدث، العالم الرسمي والإعلامي المركزي يركز على إيران وبيروت، ولا يلتفت إلى ما يحدث في غزة والضفة، بينما أهداف نتانياهو محددة في فلسطين وإخضاع الفلسطينيين هو مشروعه السياسي والأيديولوجي وإرثه الموعود. للأسف هو يحقق أهدافه، ولا يوجد حتى الآن رد فلسطيني مناسب، أو على الأقل تحرك في هذا الاتجاه. اللغو وتكرار النقاشات والأفكار هما سيدا الموقف عربياً وفلسطينياً ودولياً، والواقع هو إسرائيلي ولنتانياهو تحديداً.

إسرائيل تنفذ آلتها الانتقامية والعسكرية الفتاكة في الفلسطينيين، تُنهك قواهم، تشتتهم، تجعلهم قبائل متفرقة في الواقع، وعملاقاً مخيفاً ووحشاً يهدد الوجود الإسرائيلي واليهودي في فلسطين في الخطابات الرنانة وبيانات الوعيد. إسرائيل تعزف، وهناك من العرب والفلسطينيين من لا يزال ينشدنا أفكار تفتت إسرائيل من الداخل، وهي أفكار ما زالت تتردد في المقالات والمواقع، وتنشر الشعور بقرب انكسارها، وكله كلام مقطوع عن الواقع وليس له أي أساس مادي، ويعبر عن عدم فهم إسرائيل وسيرورتها حتى الآن.

إعادة المبادرة للفلسطينيين تبدو مهمة مستحيلة، لكنها في الواقع ممكنة وقابلة لإعادة التدوير، وأعني المبادرة إلى مشروع ديمقراطي وإنساني ومدني، وغير ذلك يقودنا نحن الفلسطينيين إلى التهلكة. الفلسطينيون يملكون الوجود المادي في فلسطين، وإرادة البقاء والمقارعة، ولهم ظهير شعبي عربي وعالمي مهم، لهم سياسات إسرائيلية فاشية وإبادية تجعل من إسرائيل عارية في زيف ادعاءات الدفاع عن النفس والجانب المظلوم.

فلسطين كوطن مدني:

نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لأفكار التحرر الإنساني، لإرادة المبادرة الذاتية، لرفض أفكار التحرير السريع والعسكري، والعودة الى أولوية النضال الشعبي، وتعضيد الصمود المادي، وتأصيل فكرة الحل العادل والإنساني والمبني على قيم إنسانية وديمقراطية، من حيث الأهداف والوسائل، نحن بحاجة إلى قيادة سياسية وثقافية ناجعة، والباقي سيأتي تباعاً.

إعادة الاعتبار إلى الإرادة الفلسطينية ممكنة وقريبة فعلاً، ليس وهماً ولا خيالاً أن نُعيد ترتيب أفكارنا، أن نرفض أفكار الحرب الكونية وأوهام التحرير السريع، أن نُعيد الاعتبار إلى الدعوة إلى فلسطين كوطن مدني لمن يريد ويرغب، أن نرشد غضبنا وحنقنا على ما لحق بنا ومن قام بذلك، في سبيل مشروع إنساني يحرك العالم، وسياسات دوله ومؤسساته؛ ولو لاحقاً، ويبعد عن الناس شرور الحرب المفتوحة والتدمير الكامل، بل يجعل للأمل بالمستقبل فسحة، ولو قليلة.

* كاتب وباحث فلسطيني

المصدر: موقع درج

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.