حسن النيفي *
لعله من غير المُستغرب أن تحظى انتخابات الرئاسة الأميركية بكل هذا الزخم الهائل من الاهتمام الإعلامي دولياً وإقليمياً، بل يمكن التأكيد على أن أخبار المنافسات الانتخابية كانت تطغى على أخبار الحروب القائمة، كما في غزة أو لبنان مثلاً، فالإدارة الأميركية بصراحة شديدة ما تزال الأقدر على التحكم ببوصلة المصالح العالمية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
إلّا أن ثمة تفاوتاً في طبيعة هذا الترقب والاهتمام؛ إذ هناك دول كثيرة وكيانات مختلفة من حيث القوة والضعف، أو الغنى والفقر، تتفاعل مع الحدث الأميركي بإيجابية، من جهة أنها تستعد للتعاطي مع المتغيرات، ولكنها في الوقت ذاته ليست مجردة من أوراق قوتها، وهي بهذا تراهن دوماً على قدرتها على استثمار ما هو طارئ وجديد في عالم السياسة، وبالتالي مهما واجهت من مصاعب، فهي تملك بعضاً من دروع الوقاية. ولكن بالمقابل، هناك فئة أخرى من الدول والشعوب تنظر إلى ما يمكن أن يصدر من البيت الأبيض من سياسات كمن يترقب حدثاً سماوياً أو شيئاً ينبثق من عمق الغيب ويصعب التكهّن بفحواه.
انزياح ثورة السوريين أمام تسلط قوى أخرى:
ربما كنا نحن السوريين في صدارة هذا الصنف الثاني من المتابعين والمترقبين لما سيفعله “المارد الأميركي” في مقبل الأيام، إذ إن لهفتنا الشديدة إلى قوة ضاربة تخترق الحالة الراكدة وتغير موازين القوى على الجغرافيا السورية وتقلب الطاولة على اللاعبين، هي حالة شبيهة جداً بحالة السجين الذي تدفعه حالات اليأس إلى ترقب معجزة ربانية تطيح بالسجن والسجانين وتقذف – بلمح البصر – بالسجين العاجز إلى فلوات الحرية. لا شك أنها حالة انفعالية تطغى على ملكة التفكير المنطقي، ولكن لها ما يبررها بطبيعة الحال، فالعطالة التي تطول أدوات التفكير السليم، وكذلك هيمنة حالة القنوط واستفحال التعويل على فعل خارجي، حتى لو كان مجهول الماهية، إنما تجسد في حقيقة الأمر حالة من الإفلاس أو التجرد الكلي ليس من أوراق القوة فحسب، بل حتى من وسائل الوقاية أو الردع. ولعل مرارة المفارقة تكمن في أن العدمية التي حلت بالسوريين لم تكن قدراً سماوياً باغتهم على حين غرّة، بل هي سيرورة من الأحداث التي شهدنا تراكماتها يوماً بعد يوم.
الأرض السورية اليوم هي ميدان صراع، نعم، هذا صحيح، ولكن يجب التأكيد على أن السوريين هم من دشنوا هذا الميدان حين كانوا أسياده، وهم من جعلوا المدن والبلدات والشوارع السورية ميداناً لانتفاضتهم بوجه الطغيان الأسدي، مطالبين بحقوقهم المشروعة في التغيير والعيش بكرامة، إلا أن تسيدهم لذلك الميدان لم يصمد أمام تدفق القوى والجيوش، التي سرعان ما أفضت إلى انزياح ثورة السوريين وتسيّد أشكال أخرى من القتال والصراعات، لم تؤدِّ إلا إلى تعزيز مأساة السوريين والتزود من نزيفهم. فمنذ بداية عام 2014، شهدت الجغرافيا السورية مواجهات عسكرية مختلفة: التحالف الدولي في مواجهة داعش، تركيا في مواجهة مشتقات حزب العمال الكردستاني، إسرائيل في مواجهة إيران وملحقاتها. وتلك المعارك بمجملها طارئة على حياة السوريين؛ أي لم تكن منبثقة من مشروع التغيير الذي يتطلعون إليه، بل هي عبء على مصيرهم، ومع ذلك فقد كانت- وما تزال- تُدار بوكلاء سوريين، ربما ارتبط دورهم الوظيفي بمصالح موكّليهم.
بين الطموح المشروع والرغبوية العقيمة:
مع وصول الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترمب، إلى رأس السلطة، يتطلع جميع المتقاتلين على الأرض السورية إلى ما سيؤول إليه الموقف الأميركي للرئيس الجديد حيال الصراع في سوريا. فتركيا ربما تتطلع إلى انسحاب أميركي من شرقي سوريا يتزامن مع نزع المظلة الأميركية عن قوات سوريا الديمقراطية، أو ربما تتطلع أنقرة أيضاً إلى حيادٍ عسكري أميركي حيال عملية عسكرية تركية يتوعد بها المسؤولون الأتراك خصومهم منذ سنوات لتبديد حلم حزب الاتحاد الديمقراطي بإقامة كيان سياسي على حدودهم الجنوبية. وأنقرة إذ تتطلع إلى ذلك فهي ليست فارغة اليدين، بل تبسط نفوذها على الشطر السوري المحاذي لحدودها الجنوبية مع سوريا، فضلاً عن نفوذها على الفصائل العسكرية في الشمال السوري واحتوائها للمؤسسات الرسمية للمعارضة السورية، وهذه كلها تُعدّ من أوراق القوة التي يمكن لها استثمارها.
أما إيران، فعلى الرغم من حربها القائمة مع إسرائيل على الأرض السورية، فهي لا تخفي رغبتها في الوصول إلى صفقة مع الإدارة الأميركية الجديدة تفضي إلى كبح أذرعها في سوريا ولبنان مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والإفراج عن الودائع المالية لطهران. وربما تطلعت أيضاً إلى استمرار التفاوض حول ملفها النووي، وما يرجح هذا المسعى هو أن معظم المعطيات على الأرض تؤكد أن الاستراتيجية الأميركية حيال طهران ما تزال تميل إلى الاحتواء بدلاً من الصدام، بل ربما لا يتحفظ الأميركيون عن الاعتراف بمصالح إيران الإقليمية، شريطة ألا تتحول إلى خطر يهدد أمن إسرائيل.
حتى إن نظام بشار الأسد- رغم ضعفه- ربما يحاول الإمساك بما يمكنه المساومة عليه، فما الذي يمنعه مثلاً من أن يحاول استبعاداً جزئياً أو شكلياً لميليشيات إيران من سوريا، أملاً برفع العقوبات المفروضة على نظامه. وفي النتيجة، ربما تكون المعارضة السورية وحدها- من بين القوى الموجودة على الجغرافيا السورية- التي تتطلع إلى دور أميركي نوعي يقلب موازين القوى، ولكن دون أن تمتلك، بموازاة ذلك، أوراق قوة من شأنها إقناع الطرف الآخر. فلا شك أن السوريين يرغبون في تشديد الضغوط الأميركية على نظام الأسد، سواء من جهة إجباره على التعاطي الإيجابي مع العملية السياسية وفقاً للمرجعيات الأممية، أو من جهة قناعة واشنطن بإزالة نظام الأسد كحل جذري لكثير من مشكلات المنطقة. وربما تطلعت المعارضة السورية إلى كثير من ذلك، إلا أن جميع تلك التطلعات تبقى في حيز التفكير الرغبوي ما لم تقترن بحوامل مادية داعمة لها على الأرض.
والحق أن السوريين ما يزال لديهم من إرث الثورة ما يمكن أن يتحول إلى أوراق قوة، ولكن هذا الإرث هو عند السوريين أنفسهم، وليس المعارضة التي لم تتمكن طوال السنوات الماضية وحتى الوقت الراهن من التخلي عن مسارها الوظيفي لتتماهى مع الشعب السوري وقضاياه الراهنة والمستقبلية، وبهذا كانت على الدوام قرينة عزلتها عن محيطها الشعبي. أما ما يمكن أن يكون أوراق قوة للسوريين، داعمة لمطالبهم ومشروعية نضالاتهم، فهو الحراك الشعبي السلمي في جنوبي البلاد وشمالها، ولئن كان هذا الحراك لا يجسد ضغوطاً مادية وكذلك لا يجسد خطراً مباشراً على نظام دمشق، ولكنه يبقى حالة عامة من الرفض الشعبي تحول دون القبول بحكم الأسد أو إعادة تدويره، كما تجسد رسالة واضحة للمجتمع الدولي بإصرار السوريين على مطالبهم بالتغيير.
الملفات الحقوقية والقضائية الهائلة التي تطول جرائم وفظائع نظام الأسد، بما في ذلك ملف المعتقلين والمختفين قسرياً، فضلاً عن القرارات الأممية التي تؤكد جميعها على أحقية السوريين بالتغيير وتجاوز دولة الاستبداد وحكم الطاغية. ولكن عوامل القوة هذه، المتبقية من إرث الثورة، تبقى بلا جدوى ما لم تجد الأطر التي تنقلها من حيزها الثوري إلى المجال السياسي.
* كاتب وشاعر سوري
المصدر: تلفزيون سوريا