محمد أبي سمرا *
من الصعب بعدُ التكهن الآن بمآل أهوال الحرب، وأثرها على المجتمع الشيعي اللبناني.
يعيش أهل المجتمع الشيعي اللبناني اليوم أهوالًا تفوق الوصف، وهم يعيشونها مروعين، مقتلعين ومشردين وفي صمت مهول، وسط الرعب والقتل والأنقاض، إنها نكبة كبرى من الصعب بعدُ التكهن بمآلها، طالما أنها لا تزال في طور الحدوث.
لكن بعد الذي حدث ولا يزال يحدث، هل يمكن الاكتفاء بالكلام على هول الوحشية الإسرائيلية في القتل والتدمير وارتكاب المجازر، من دون التفكير فيما فعله “حزب الله” طوال عقود في ضاحية بيروت الجنوبية، ومراجعته ووصفه، ولو جزئيا؟
في الحلقة الأخيرة من سلسلة هذه التحقيقات- الشهادات الوثائقية عن الأطوار والتحولات التي عرفتها الضاحية الجنوبية، نصفُ هنا وجهًا من وجوه العالم، الذي أنشأه وأرساه “حزب الله” في بعض أحيائها.
هادي نصرالله والحياة الشمولية:
مطالع تسعينات القرن العشرين، تكاثر العمران الجديد في “حي الأبيض” على مساحات من بقايا بساتين “حارة حريك”، قبل أن يخترقها الأوتوستراد الجديد الذي سمي بـ “أوتوستراد هادي نصرالله”، نجل حسن نصرالله، والذي قتل في عملية عسكرية إسرائيلية سنة 1997!. وفي النصف الثاني من التسعينات، ازدهر تشييد البنايات الجاهزة في الحي، فأقبلت فئات جديدة من الموظفين والمهنيين المتوسطي الحال الشيعة، على شراء شققها المتوسطة الجودة والأسعار، وغير الشعبية، بمعايير العمران في الضاحية الجنوبية. وقد يكون إنشاء الأوتوستراد الجديد من الأسباب التي عجّلت في تبدل نمط الحياة الخاص الهادئ و”المدني” في “حي الأبيض”، نحو تجانسه مع النمط العام السائد في ضاحية “حزب الله” وعاصمة سلطة “مربعه الأمني”. فالأوتوستراد شكل مساحة عامة واسعة جديدة لاحتفالات “الحزب” ومناسباته الكثيرة التي يحشد فيها جمهوره العريض المدرب تدريبا آليا على الاحتشاد والتعبئة في أيامه المشهودة.
وحسب شهادة شخص من سكان “حي الأبيض”، كانت بنايات الحي قد امتلأت شققها السكنية بمن اشتروها بالتقسيط، وتملكوها في بداية الألفية الثالثة. كان الساكنون في معظمهم تقريبًا أسرًا نواتية شيعية فتية وجنوبية المنبت، لكن هذا الانتساب الموروث الذي يشمل معظم سكان الحي الجديد، لم يكن ليتجاوز التسمية والتعريف العاديين، فلا يشكل هوية أهلية وعضوية، حية ويومية وجامعة، لا في فضاء الحي العام، ولا في حياة ساكنيه الخاصة، فهم لم يجعلوا شيعيتهم وجنوبيتهم علمًا على تعارفهم وعلاقاتهم، التي لم تكن لتقتصر على الحي والمنطقة، بل تمتد إلى خارجهما، فتتوزع شبكاتها وتتنوع في بيروت.
فبعض بنايات الحي لم تكن تخلو من بعض ملاك وساكنين من طوائف ومنابت غير شيعية، ومن زواجات مختلطة بين شيعة وسنة ودروز. وهذه حال أخت الراوي المتزوجة من سني، والمقيمة وأسرتها في البناية التي يسكنها، وهناك قريب له متزوج من درزية ومقيم في بناية قريبة. لكن قلة الاختلاط الطائفي في السكن والزواج في الحي، ما كانت لتحمل سكانه على الشعور، بأنهم متجانسون طائفياً، أو أن شيعيتهم تشكل حدّا جامعًا مانعًا في سلوكهم ونمط حياتهم اليومية.
قد يكون الوسط الاجتماعي الشيعي هذا، هو الذي عمل “حزب الله” في بدايات ظهوره أواسط ثمانينات القرن الماضي، على تطهير الطائفة الشيعية منه، فشن عليه حملات حصار وترويع، وقام بتصفية ناشطيه من القوميين واليساريين، واغتيالهم في الضاحية الجنوبية وبيروت والجنوب. هذا قبل أن يخنق لاحقًا بقايا فئات هذا الوسط الشيعي، يحطمها أو يستتبعها، طوال التسعينات، وبعد أعراسه التحريرية سنة 2000. والأرجح أن “حي الأبيض”، بسكانه واجتماعه على تخوم مربع “حزب الله” الأمني، كان من ضحايا سعي “الحزب” المحموم إلى احتلال أو ابتلاع الطائفة الشيعية أمنيًا وجغرافيًا وسياسيًا، وتحويلها جمهورَ حزب شمولي وجمهورية عسكرية شمولية للخوف والتخويف.
وروى صاحب هذه الشهادة الذي لم يشأ أن يُفصح عن اسمه لأسباب أمنية، أن سنتين كانت قد مضتا على امتلاء البناية التي يسكنها- مؤلفة من 6 طبقات و12 شقة- بمُلاّكها وساكنيها، شأن غيرها من بنايات “الحي الأبيض”، حين بدأ ينهار سريعًا نمط الحياة في الحي. أي النمط الذي كان مثاله إنشاء علاقات “مدنية” عادية، تنطوي على الاحترام المتبادل، ووئام التجاور بين الساكنين، وعلى تشاركهم في تدبير شؤون الخدمات في البناية الواحدة، بعيدا عن الانقياد إلى تشنجات العصبيات الأهلية والحزبية. فسكان الحي الجديد كانوا منصرفين إلى حياتهم وأعمالهم وعلاقاتهم المختلطة، والمنفتحة شبكاتها الخاصة للزيارات البيتية واللقاءات غير البيتية خارج الحي، من دون تجاوز الحدود المتعارفة بين الخاص والعام.
مَهَانة المسح الأمني:
في بدايات إقامة كل أسرة في شقتها الجديدة، لم تكن تتصور أن وجودها وحياتها اليومية العادية في بيتها وفي الحي، سوف يكونان مصدر ريبة أجهزة “المربع الأمني” التي تقوم بين كل 5 أشهر أو 7، بحملة “مسح أمني” شاملة للسكان. لكن قبل أن يتعود السكان على هذا المسح الدوري العام الشامل والمَهين، كان شبان “الحزب” يأتون إلى كل بناية في الحي، نزلت فيها أسرة جديدة.
ويتذكر الراوي نهار طرق أحدهم باب بيته، ففتحته، بعد مضي نحو أسبوع على إقامته وأسرته في البناية. بادره الشاب الملتحي بتحية “السلام عليكم”، وقال إنه يريد الحصول على معلومات عنه وعن أسرته. ولما سأل الراوي الشابَ من يكون وسبب إعطائه معلومات؟ لم يُجب وأمسك استمارة وقلمًا وتهيأ لتدوين ما يطلبه: اسمك، اسم والدك، أمك وزوجتك وأولادك…
كان من سبقه من سكان البناية أخبروه بتعرضهم إلى هذا الاختبار، واستجابوا له صاغرين مرغمين وخائفين. ومما قاله شاب “حزب الله” للراوي: “كلنا إخوان ومقاومة هنا. وما يطلبه إنما غايته حماية المقاومة من العدو الإسرائيلي”.
وفيما كان الشاب يدون معلومات “المسح الأمني” التفصيلية عن الراوي، شعر الأخير أن حياته لم تعد ملكًا له: أسماء أبيه وأمه وزوجته وأولادهم، ومن أي منطقة وقرية هو؟ وأين كان يسكن، وماذا يعمل وتعمل زوجته، وأين وفي أي سنة ولدت، وأرقام سيارته وهاتفه وسجل قيد نفوسه، وإن كان انتمى إلى حزب ما، وهل عنده أصدقاء من طائفة أخرى، ومن يأتي من خارج الحي والمنطقة لزيارته، وإن كان يدخن ويشرب الخمر؟… إلخ.
وحين غادر الشاب، وألقى تحية “السلام عليكم”، لم أشعر بأي سلام- قال الراوي- بل شعرت بالتعب والإنهاك والضيق والانتهاك. لكن بالخلاص والراحة المشوبة بالخوَر والاستسلام، كمن أنهى محاكمة اتهامية. وبدأ شيء من الغموض والريبة يخالط إلفته في بيته.
أطفال الحشد السلطاني:
وتكاثرت العراضات والهرجات والتظاهرات والاحتفالات على أوتوستراد “المربع الأمني”. وهي مناسبات في مسلسل القهر/الزهو الشمولي الذي يتحول البشر في حشوده المرصوصة أطفالًا لاهين وممتلئين فرحًا طفليًا بلهوهم الجامع تحت أنظار القائد، وغضب كلماته التي تمتدح طفولتهم اللاهية وتزهو بها، فينتشون ملوحين بالأيدي والقبضات. وحين لا يأخذ اللهو هذا شخصًا ما من سكان “المربع الأمني” وجواره- فيبدي سلوكًا ينمُّ عن أنه شخص فرد/عام ومسؤول عن نفسه وأفعاله، وأن شؤون حياته الخاصة والبيتية وشواغله ومواقيتها، تتصل بإيقاع الحياة العامة ونظامها في المدينة- فسرعان ما يثير دهشة نظّار مهرجان اللهو الطفلي، فيقولون له معاتبين: “ليش مقاطعنا، ولو نحن كلنا إخوان، وأولاد منطقة واحدة، ومقاومة”. وهذا حسب شهادة ساكن “حي الأبيض”.
تحدث هذه المشاهد في الأيام التي جعلها “حزب الله” مجيدة في تقويمه الجهادي كـ”يوم القدس العالمي” ويوم “النصر والتحرير” و”النصر الإلهي” وسواها من أيام إطلالات صاحب “الوعد الصادق” الخطابية في “مجمع سيد الشهداء” و”ملعب الراية”.
السير ببال مغمض:
سكان “حي الأبيض” في ناحية من “المربع الأمني”، شاءت مساراتهم ومصائرهم الاجتماعية، الأسرية والمهنية والشخصية المستقلة، ألا تشملهم- حسب شهادة الراوي- التعبئة والتدريب على الاحتشاد الجماهيري الفوري والآلي. لكن هيهات لأي منهم أن يستطيع الوصول إلى سيارته وبيته في الأوقات التي تسبق مواعيد احتشاد الجموع، وفي أوقات احتشادها. فالأرصفة ومواقف السيارات تزنرها شرائط صفراء تعلن توقف دورة الحياة العادية.
وتغيّر الحشود وشعائرها معالم الأماكن والزمن، فيصير الناس يعيشون “ببال مغمض”، على ما كتب الشاعر اليمني نبيل سبيع، ووسم إحدى مجموعاته الشعرية، مستبقًا بهذه العبارة حال الحشود التي استلهمتها لاحقًا جماعة “أنصار الله” الحوثية من عالم “حزب الله” اللبناني، وراحت تحيي شعائرها في صنعاء.
ويصف راوي سيرة “الحي الأبيض” حال أمثاله من سكان ضاحية بيروت الجنوبية في تلك المناسبات الحاشدة: أسير في عالم افتراضي في اللامكان وخارج الزمن. والطرق التي ألفتها تصير غريبة لا أعرفها. وأشعر أنني لن أصل إلى بيتي، وإن تهيأ لي أنني وصلتُ أكاد لا أعرفه. ومرة لم أدرِ ما الذي نبهني، فجأة، أنني تجاوزت البناية التي فيها بيتي، فوقفت ورفعت رأسي محدّقًا في واجهات البنايات حولي. فإذا بها تدور دورات سريعة مقتربة مني، وشعرت أن الحاجيات التي أحملها تكاد تسقط من يديّ من دون أن تصل إلى الأرض.
وأضاف الراوي أن من يريد مغادرة بيته في مثل تلك الأيام، يقول له رجال “حزب الله” إن عليه أن يعطيهم مفتاح بيته، لأن الخطة الأمنية تستوجب انتشار الأرصاد في البنايات كلها لمراقبة الشوارع، وخصوصاً في مناسبات العروض العسكرية للجيش الحزبي والأهلي الذي تتدلى فرقة منه على الحبال المشدودة إلى سطوح البنايات، ويسبح رجالها في فضاء الشارع. ومن يقلقه أن يسلم مفتاح بيته للـ”حزب” يقولون له: ولو ما بتأمنّا على بيتك؟ نحن مسؤولون عن كل شيء في المنطقة، وهل سيجيء إلى عندك أحد من خارج المنطقة؟
وحين يبدأ العرض العسكري، كان يجب على سكان البنايات ألا يجلسوا أو يقفوا على شرفات بيوتهم، بل يأوون إلى داخلها، ويغلقون ستائر الشرفات الخارجية حتى نهاية العرض. وفي مثل هذه الأوقات تضيق دواخل البيوت شبه المحاصرة، فيما شاشة تلفزيون “المنار” تبث وقائع العرض الذي يجري أمام البنايات وشرفاتها. إنه يوم كاليوم “الخاص” الذي صوّره أحد الأفلام الإيطالية في زمن الفاشية.
استبطان الهاجس الأمني:
الهاجس الأمني الدائم لـ”حزب الله”، ناء بثقله على السكان من غير جمهوره اللصيق، وراح يتراكم ويتضاعف مع مرور الوقت وتكاثر “الأيام الخاصة” و”المسح الأمني”. وسرعان ما بدأ يتسلل إلى حياة هؤلاء السكان وعلاقاتهم، فراحوا يتبادلونه في صمت، رغمًا عن إرادتهم، وعلى نحو لا شعوري، طالما كل شخص منهم صار يستبطن شعورًا بأنه مُراقب ومرصود، وهدف غير معلن للاستطلاع الخفي والمساءلة التي تتضاعف على كل من لا يبدي ترحيبًا وقبولًا بديهيًا بتلك الأيام. ويصير هذا الشخص معرضًا للشك والريبة والحذر. وهذه تتسلل إلى نفسه، فيفقد حسه العادي السليم، ويتحول بدوره شخصًا مستريبًا وحذرًا، ويشعر أن شيئًا ما ينقصه ليصير على الصورة التي يرغب “الحزب” أن يكون عليها.
وهذا يخرب العلاقة بين الشخص ونفسه وبينه وبين الآخرين. فالراوي لم ينتبه إلى انتماءات جيرانه ومعارفه في الحي، ولم يتساءل ولا سألهم مرة عنها، ولكثرة ما سُئل عن الأشخاص الذين يزورونه في بيته، صار يحسب ألف حساب لزياراتهم ويشعر بشيء من الضيق اللاإرادي في حضورهم، فيروح يفكر مسبقًا بالمعلومات التي عليه أن يقدمها عنهم لسائليه المرتقبين. ومن لا يستجيب لما يُسأل عنه، يروح السائلون يستطلعون من جيرانه أو من أولاد في الحي ما يريدونه من معلومات عن أحواله وأحوال زائريه. ويروح أولاد من الحي يتقربون من “حزب الله” بعدما يُسالون عن أخبار ساكنيه، فيزورون مكتب “الحزب” ويقدمون ما يحلو لهم من معلومات عن الناس. وعليك أن تتخيل في هذه الحال أي نوع من السموم تداخل حياة البشر وعلاقاتهم.
من هذه السموم- قال الراوي الشاهد- أنني صرت أحذر أن أنادي في الشارع شخصًا من معارفي باسمه الذي ينم عن دلالة طائفية محددة. أحذر وأضطرب وأخاف كأنني أرتكب فعلة شائنة. فأي حياة هي هذه، حينما تخشى أن تنادي شخصًا صديقًا باسمه في شارع الحي الذي تسكن فيه؟!
أهل وادي الذهب:
سنة 2004 بدأ الاضطراب والفوضى يتسللان بقوة إلى الحياة السكنية في بعض بنايات “الحي الأبيض” الذي شمله “مربع حزب الله الأمني”. البناية التي كان يسكنها الراوي من 6 طبقات و12 شقة. وكسائر بنايات الحي، انتدب سكانها لجنة منهم تدير شؤون الخدمات المشتركة في البناية.
بعدما سافر أحد سكانها مع أسرته إلى الولايات المتحدة الأميركية لمدة طويلة، أجّر بيته لـ”ناس أوادم مثلنا”، على ما قال عشية سفره. وبدأت الفوضى تدب في البناية، وتتفاقم مع مرور الوقت على إقامة المستأجر الجديد. فهو كان من سكان وادي أبو جميل بوسط بيروت في زمن التهجير والاحتلالات الحربية للأحياء وبيوتها التي بدأ إخلاؤها منذ مطالع تسعينات القرن الماضي، لقاء حصول المهجرين فيها، مبالغ مالية كانت أحد عوامل استنزاف المالية العامة لخزينة الدولة اللبنانية.
وكان قد تواطأ على هذا الاستنزاف في وادي أبو جميل، كل من “شركة إعمار وسط بيروت” المديني (سوليدير) “الحريرية”- مُرغمة على الأرجح- وميليشيات “المستضعفين” المسلحة والمتسلطة، وفي طليعتها حركة “أمل”
و”حزب الله” اللذان كانا يحميان مجتمعات المهجرين، ومحتلي الأحياء والبنايات والمتاجر والبيوت، ويقوّيان شوكتهم في عمليات ابتزاز الشركة الإعمارية في عمليات الإخلاء. وهذا ما أدى إلى أن تُطلَق على وادي أبو جميل تسمية “وادي الذهب”، كاستعارة تهكمية ساخرة لتصوير واقع حال المهجرين إليه، ومُحتليه الذين حصّلوا، من طريق الاحتيال والابتزاز، إتاوات مالية تعادل القوة والحظوة الميليشياويتين اللتين كان يستظهر بهما المهجّرون.
مهجّر “وادي الذهب” وأسرته الكثيرة العدد – 4 أبناء شبان وفتيان كبيرهم في بدايات العشرين- ظلوا يسلكون سلوك المهجرين والمحتلين المنتسبين إلى حركة “أمل” قبل انتقالهم إلى “حزب الله” الذي يسيطر على معظم أحياء الضاحية. راحوا يعترضون على النظام الآلي لإقفال بوابة البناية في التاسعة ليلًا، فراح بعضهم يقف أمام البوابة المقفلة، ويمسك بيديه قضبان حديدها، فيهزها عنيفًا ويرفسها بقدمه، فيما هو يصرخ ويشتم البناية وساكنيها ويهددون الناطور إذا لم يترك البوابة مفتوحة. أما المولد الكهربائي، الخاص والمشترك، والذي اتفق الساكنون ولجنة البناية على توقيفه في منتصف الليل، فصار كلما عاد أحدهم بعد هذا الوقت، ينادي الناطور كي يشغّل له المولد.
وأوقف بكر أسرتهم عضوًا في لجنة البناية على الرصيف، وقال له إنه يفكر في حل اللجنة ليكون رئيسًا لها، ما دام عددهم، هم الثمانية في الأسرة، يسمح لهم بذلك. ثم استثمر أحد شبان الأسرة متجرًا في البناية تركه صاحبه وأخلاه، فجعله الشاب المستثمر صالة لألعاب البلياردو، رغمًا عن إرادة لجنة البناية. وسرعان ما بدأت زمر من فتيان الأحياء القريبة من راكبي الدراجات النارية، تتجمع في الصالة الصغيرة وعلى الرصيف، من الساعة العاشرة صباحًا حتى منتصف الليل. فأخذ ضجيج الفتيان وتصايحهم يسمّم حياة ساكني بنايات الشارع كلها. ثم صفّوا نراجيلهم على الرصيف، وراحوا يجلسون على صف من الكراسي يدخنون التبغ المضمخ بنكهات الفاكهة المختلفة. وأخذ أحدهم يصل بسيارته الـ(BMW) العتيقة، فيوقفها حذو الرصيف ويفتح أبوابها، ثم يشغّل آلة التسجيل فيها لتبث من شريط كاسيت أغاني “المقاومة” و”حزب الله” التي تنشدها فرقة “الولاية”. وتتخلل هذه الأناشيد الصادحة مقاطع من خطب حسن نصرالله النارية.
ومن يتجرأ من سكان بنايات الحي على التذمر من هذه الأناشيد والخطب؟! تساءل الراوي، وتابع: أخذوا يتحرشون بالعاملات المنزليات العابرات واللواتي راحت تتفاقم شكاوى بعضهن.
وأخذ شاب من أسرة الطبقة الرابعة يركن سيارته التي اشتراها حديثًا في موقف سيارة أحد الساكنين. ولما ناداه مرة الناطور ليحرر الموقف من سيارته، قال له: “حل عني، واللي مش عاجبوا يرحل من البناية… ما بدنا شيوعيين في الحي”.
كانت نغمة الشيوعيين هذه، قد صارت صفة لسكان البناية، بعدما أطلقها عليهم فتية النراجيل والأناشيد والدراجات النارية والبلياردو، لأن الساكنين أكثروا من اعتراضاتهم على الفوضى العارمة التي يحّدِثونها. وحين علم شاب السيارة الجديدة أن أحد السكان من الطائفة السنية، صار يواظب على إيقاف سيارته في موقفه. وهذا ما حمل الرجل على التفكير في بيع شقته والرحيل عن البناية. ولما زار مكتب “حزب الله” متظلمًا، قال له أحدهم إن “الحزب” لا يتدخل في مثل هذه الأمور، وعليه مراجعة رجال قوى الأمن الداخلي. وأخذ كل من سكان البناية يفكر بمفرده في سبيل خلاصه. وما هو السبيل إلى الخلاص بغير الرحيل عن البناية و”حي الأبيض” كله؟
وحين وصل مرة شاب من أسرة الطبقة الرابعة إلى مدخل البناية في ساعة متأخرة من الليل، ووجد المولد الكهربائي لا يعمل، نزع منه البطارية التي تشغّله وحملها إلى بيته. وفي الصباح راجعه ناطور البناية، فقال له الشاب إنه حطم البطارية، ولن يسمح بعد اليوم بتشغيل المولد.
حملت هذه الحادثة سكان البناية على التجرؤ، فتنادى بعضهم وقرروا الذهاب كلهم إلى مكتب “حزب الله” للاحتجاج. وبعدما عرضوا أحوالهم وقدم لهم مسؤول المكتب الشاي، قال لهم: يا إخوان بدكن تطولوا بالكم عليهم، استوعبوهم. ثم سأل: هل هم حقا من الحزب؟ وحين جاوبه أحد سكان البناية بأنهم طبعاً من الحزب، قال مسؤول المكتب مجدداً: تحملوهم إذًا، فداءً لأرواح الشهداء، واعتبروها فتوى شرعية.
بعد وقت من الصمت تبادل السكان في أثنائه نظرات مستهجنة، غادروا المكتب صامتين. وبعد أيام قليلة نشبت حرب 12 يوليو/ تموز 2006، فغادر سكان البناية والحي بيوتهم في حال من الخوف والفوضى والهلع.
عرس في مقبرة:
أدت حرب تموز/ يوليو 2006 إلى تغير كبير في نمط الحياة في معظم أحياء الضاحية الجنوبية. وفي “المربع الأمني” وجواره دمر القصف الإسرائيلي مقار أجهزة “حزب الله” وبنايات سكنية كثيرة. وفي لحظات ذهول السكان العائدين إلى بيوتهم، لم يتعرف كثيرون منهم إلى معالم العمران السابقة. خلائط من أشلاء الباطون والمعدن والأثاث الذي كان حميمًا قبل شهر. وكثيرًا ما كان بعض السكان يتحدثون في تلك الأيام عن سنوات حياتهم التي تحولت حطامًا.
وكان علينا أن نبعث الحياة، حياتنا، مجددًا، لكن ثقيلة، رمادية وكئيبة ومن بين الركام والأشلاء الحميمة، بعد انحسار العاصفة، قال راوي سيرة “حي الأبيض”، وأضاف: ما فعله “حزب الله” في تلك الأيام المريرة، لبعض سكان الحي بهيئة عرس في مقبرة راح يغرس فيها “الحزب” أعلامه ولافتاته وشاراته وشعاراته، وصور أمينه العام الذي أعلن، فور انحسار العاصفة، عن برنامج مُذل لشراء غضب المنكوبين وخوفهم وآلامهم وتشردهم بـ”أثاث لائق” يدفع ثمنه من “المال الإيراني النظيف”!.
ووصف الراوي مشهد جاره حين خرج من بيته إلى الشارع، وراح يصرخ ويشتم، بعدما أتوه بخبر “استشهاد” ابنه الشاب الذي غاب طوال شهر الحرب من دون أن يعلم أهله عنه خبرًا. ظل الرجل يصرخ، فيما سكان البنايات القريبة، ينظرون إليه صامتين واجمين، فلم يجرأ أحد على الاقتراب منه لمؤساته. لم يكن أحد من عائلة “الشهيد” يعلم قط أنه منخرط في “حزب الله” وتلقى دورات تدريب في معسكراته قبل اختفائه.
توزيع “المال النظيف” واشتداد قبضة “حزب الله” الأمنية والإعلامية أضعافاً بعد تلك الحرب، كتمت كل صوت مستقل كان يمكن أن يطلع من ركام المأساة التي أصابت أحياء الضاحية.
سلاح الدراجات النارية:
ودخلت الدراجات النارية سلاحًا إعلاميا في عراضات “حزب الله” بعد حرب تموز/ يوليو 2006. مئات من الصبية والفتيان الهائجين يمتطونها في الشوارع، ملوحين بالصور والأعلام وصارخين هازجين في مناسبات الحزب التي تضاعف عددها، وأصبحت أشد ضراوة وصخباً بعدما نصب الحزب وأتباعه مخيمهم في وسط مدينة بيروت طوال أقل من سنتين لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة.
“هذه الليلة قواص”- قال الراوي- صرنا نسمع الفتيان والشبان من رواد النراجيل على الأرصفة والدرجات النارية يقولون. وصرنا نرى أسلحتهم مركونة في ناحية من مدخل البناية كأنها في معرض، انتظارًا لموعد إطلاق النار المرتقب، فنعلم أن “الليلة قواص” في بدايات إلقاء حسن نصرالله خطبه المتلفزة، وفي نهاياتها. وغالبًا ما كنا نسمع شبان الهرجات النارية هذه يتساءلون في نهاياتها: “شو كيف كانت، قوية، ما هيك؟”. وغالبًا ما يسألون سكان بعد توقف إطلاق النار: “شو خفتوا؟! لازم ما تخافوا، هذا شي طبيعي. ليش خيفانين، ما دُمنا انتصرنا في حرب تموز؟”.
وختم صاحب هذه الشهادة بقوله: “إن الأسر الـ12 كلها في البناية باعت بيوتها وانتقلت للسكن إما في الطيونة وإما بطرف عين الرمانة. لقد باعوا بيوتهم بأسعار أقل من أسعار شرائها قبل نحو عقد من السنوات. والذين اشتروا بيوت البناية وسواها من البنايات المجاورة، كثرة منهم من “عوائل (شهداء) حزب الله” أو من جمهوره اللصيق”.
* كاتب وروائي لبناني
المصدر: موقع المجلة