الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عُملات خرجت إلى التقاعد (2/2)

عاطف معتمد *

هذه ورقة العشرين جنيهاً، والرسم البطل فيها مأخوذ نقلاً حرفياً من الجدارية اليسرى لبهو المعبد الكبير لرمسيس الثاني في أبو سمبل على مشارف الحدود الحالية لبلادنا مع السودان الشقيق.

التصميم على ورقة العشرين جنيهاً يكاد يكون صورة طبقة الأصل من الحفر الغائر الممثل في معبد أبو سمبل.

أقول «يكاد» لأن هناك فروقاً طفيفة لكنها بالغة الأهمية في الفن المصري القديم، وإذا زرت معبد أبو سمبل بنفسك ستكتشف الفروقات التالية:

 أن الصورة على ورقة العشرين جنيها تنظر في اتجاه عكسي لوضعها الحقيقي في المعبد. لقد ذهب الفنان المصري القديم إلى تصميم رمسيس الثاني على عربته الحربية مندفعاً من الغرب للشرق أي من اليمين إلى اليسار على الجدارية وليس من اليسار إلى اليمين كما يبدو على هذه العملة الورقية.

لقد خرج جيش مصر بقيادة رمسيس الثاني من بلادنا مندفعاً عبر سيناء (من الغرب للشرق) بهدف محاربة من يهددون مصالحها الجيواستراتيجية من جهة مملكة آسيوية اتخذت من بلاد الشام معقلاً لشن هجومهم على مصر.

 إن تصميم ورقة العشرين جنيهاً وإن استطاع الحفاظ على أرجل الخيول فبدت وكأنها أربع أقدام بما يوحى بوجود فرسين يطيران بالعجلة الحربية السريعة وليس فرساً واحداً إلا أن الورقة أغفلت أن الذراع اليمنى الممشوقة لرمسيس مرسومة في الأصل وكأنها ذراعين وأن القوس المشدود مرسوم في المعبد وكأنه قوسان.

ويذهب بعض المفسرين إلى أن كلاً من الأقدام الأربع لفرسي العربة ليست إلا لفرس واحد، وأن القوسين ليسا إلا لقوسٍ واحد، والذراعان اليمنيان الممشوقان ليسا إلا لذراع واحدة، وقد جاء كل ذلك في الحفر الغائر عمداً ليعطي عمقاً للصورة ويمنحها «ديناميكية» فتبدو كأننا نشاهد فيلماً متحركاً لحدث تجاوز عمره 3200 سنة.

أما أسباب تخليد الفنان المصري القديم لهذا الحدث فيمكن إيجازه فيما يلي:

لم تكن الحدود الشرقية لسيناء مع فلسطين هي حدودنا كما اليوم، بل اخترع التاريخ المصري المصطلحات التي ستعرفها المدارس الأوروبية بعد آلاف السنين مثل: «الأرض العميقة» و«مناطق تكسُر القوى» و«النطاق العازل» والـ«عمق الاستراتيجي».

أما المصطلح الأهم الذي تتبناه “إسرائيلط اليوم فقد اخترعته مصر قبل آلاف السنين وهو «نقل المعركة إلى أرض الأعداء».

النقش الغائر الذي نراه في معبد رمسيس الثاني في «أبو سمبل» يجسد مشهداً من معركة «قادش» التي دارت رحاها بين مصر ومملكة «خيتا» التي تسميها الكتب المدرسية مملكة «الحيثيين».

تقع قادش اليوم في قلب الأراضي السورية قرب حدودها مع لبنان وبالتحديد على نهر «العاصي» وهو اسم له دلالة أيضا في العمل الجغرافي. فإذا كان من غير المعروف من أطلق اسم «العاصي» على ذلك النهر فإن التفسير معروف وهو أن هذا النهر خلافاً للأنهار العظمى المجاورة- مثل دجلة والفرات- يسير «عاصياً» الجغرافيا والجيولوجيا فيتجه من الجنوب للشمال.

لكن من عجبٍ أن هذا النهر العاصي الذي دارت عنده معركة قادش يُناظر نهر النيل فيسير مثله من الجنوب للشمال. ولعل في ذلك ما يذكرنا بما سجلته بعض المصادر من أن المصريين القدماء كانوا يتندرون- بدوافع المركزية المصرية المبالِغة في الذات- فيصفون نهري دجلة والفرات بأنهما نهران يسيران في الاتجاه الخطأ مخالفة للاتجاه «المقدس» الذى يسير فيه النيل من الجنوب للشمال.

خلدَ رمسيس الثاني انتصار معركة قادش في عديد من المعابد المصرية وكلف الأدباء بتدوين أشعار تًصور الانتصار عملاً إعجازياً سحق به رمسيس رؤوس الأعداء فأماتهم بضربة صاعقة ماحقة وقضى عليهم إلى الأبد.

في العصر الحديث ستكشف الدراسات الأثرية في قادش وغيرها أن ما تم لم يكن نصرا حاسما لمصر أو مملكة خيتا بل توازنا في القوى انتهى باتفاق ومعاهدة سلام بين الطرفين لأن أي منهما لم يستطع أن يحسم الأمر لصالحه.

وخلافاً لمن يقولون إن رمسيس الثاني بالغَ في تمجيد ذاته وصور الأمر انتصاراً ساحقاً إلا أننا بمعايير الجغرافيا السياسية والعسكرية يمكننا القول إنه كان مُحقاً، إذ إن «نقل المعركة إلى أرض الأعداء» هو نصر لا جدال فيه حتى لو كانت النتيجة وقف عدوانهم خارج تخومنا.

لكن حتى لا نبالغ في أمجاد رمسيس الثاني أكثر من اللازم ينبغي القول إن هذ الملك لم يخترع هذا المصطلح فقد سبقه ملوك آخرون أقربهم إليه والده الفرعون «سيتي الأول» (حكم مصر فيما بين 1290و1279 ق. م) الذي كان قد اتخذ من قادش تخماً شمالياً لمصر.

وكل هؤلاء ليسوا إلا مُقلدين للقائد الرائد الفريد «تحتمس الثالث» الذي كان سابقاً على رمسيس الثاني بقرنين من الزمان بالتمام والكمال (حكم مصر من 1479إلى1425ق.م).

يعود الفضل لتحتمس الثالث في بناء أكبر خريطة لإمبراطورية مصرية عبر التاريخ وصياغة مفهوم العمق الاستراتيجي ونقل المعارك إلى أرض الأعداء تماماً كما تفعل القوى العظمى اليوم في 2022.

 قبل مائتي عام من معركة قادش التي يُمجدها رمسيس الثاني تجاوز تحتمس الثالث أرض قادش إلى ما هو أبعد منها فقامت مصر في عهده بغزو ساحل الليفانت واخترقت بلاد الشام فوصلت إلى تخوم مملكة خيتا نفسها في الإقليم الذي نسميه اليوم جنوب غرب تركيا الحديثة.

كيف نجح رمسيس الثاني في أن يخطف أبصارنا ويشغل خيالنا بمعركته في قادش وانتصاره المسجل في نقش غائر خالد في أبو سمبل ونأخذ منه مشهده الأثير المثير فنضعه على ورقة العشرين جنيها؟

الحقيقة أن أبو سمبل موقع فريد في جغرافية وآثار مصر، يُخلد الموقع جهود الملك رمسيس الثانى سواء في الحرب أو السلم ويترك لنا ثبتاً في تماثيل ضخمة مروعة للآلهة الكبرى، بل ولم يتردد المهندسون آنئذٍ في تصوير رمسيس بأحجام ضخمة لا نظير لها بل ودسه بين الآلهة في دلالة على عبادة الذات التي وصلت إليها مصر في عهد رمسيس الثاني المفتون بانتصاراته وفتوحاته خلال حكمه الذي تجاوز 65 سنة (من 1279 وحتى 1213 ق.م).

يتألف الصرح التذكاري في أبي سمبل من معبدين: الكبير ومخصص لرمسيس وفتوحاته ومعركة قادش وقُدس الأقداس الذي تتعامد فيه الشمس على وجهه، والمعبد الثانى الأصغر نسبياً والمُهدى لزوجته «نفرتاري».

على جانبي المعبد الكبير لوحتان تحتويان مضمون أنشودة تمجيد رمسيس الثاني باعتباره محبوباً من جميع الآلهة (حور، ماعت، منثو، ست، أتوم، أمون رع، بتاح).

وقد عرضنا تفاصيل تلك الأنشودة في مقال سابق في الشروق عنوانه «النار العاتية في أبو سمبل».

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.