محمد أبي سمرا *
مر دهر على اقتلاع المسيحيين اللبنانيين من ديارهم في حارة حريك ومحو أثرهم فيها وفي سواها من بلدات ما صار ضاحية بيروت الجنوبية، قبل سيطرة “حزب الله” عليها، واستكماله اقتلاعهم ومحو أثرهم محواً تاماً. وحين يستعيد مسيحيون قصص ذلك، غالباً ما تخالط كلماتهم غصات أليمة يشوبها حنين جارح ومرير إلى زمن لبنان ما قبل حروبه التي شتتتهم في ديار الصفاء السكاني المسيحي في كسروان وجبيل والمتن الأعلى.
في هذه الحلقة لدينا 3 شهادات تروي وقائع خراب حارة حريك والمريجة واجتثاث المسيحيين منهما وتحولهما مربعاً أمنياً لـ”حزب الله”.
في حقبة الحرب ما بين 1975 و1982، عاش أهالي حارة حريك المسيحيون، موجات هجرة ونزوح قصيرة أو طويلة أو دائمة لا تنتهي بعودة. وطال النزوح بوتائر أضعف العائلات والأسر المسيحية التي كان أبناؤها ينتمون إلى أحزاب ما سُمي “الحركة الوطنية” اليسارية اللبنانية، التي حالفت المنظمات الفلسطينية المسلحة ونَصَرتها ضد التيارات السياسية المسيحية التي امتشقت السلاح ضد انتشار سلاح المنظمات الفلسطينية.
كان لـ”الحزب الشيوعي اللبناني” المنضوي في تلك الحركة حضوره بين مسيحيي حارة حريك، حسب شهادة “ميخائيل عون” الذي ورث الشيوعية عن والده الشيوعي منذ مطلع الثلاثينات. والحقبة الأخيرة من موجات تلك الهجرة والتهجير، تمتد بين 1982 و1988 التي شهدت احتراباً أهلياً وتصفيات دموية داخل حارة حريك وفي محيطها، بين الشيوعيين وحركة “أمل” الشيعية أولاً، وبين “أمل” وبقايا المسلحين الفلسطينيين في مخيمات الضاحية ثانياً، وبين “أمل” و”حزب الله” ثالثاً.
والحروب هذه وتصفياتها الدموية طاولت ما تبقى من مسيحيي الحارة، شيوعيين وغير شيوعيين، فاقتلعتهم اقتلاعاً من أملاكهم التي أُرغموا على بيعها في خضم حملات تهديد وتخويف وترويع لم تكن عديمة الصلة بتجار العقارات والبناء الجاهز الشيعة من بطانة “أمل” التي انشقت عنها “أمل الإسلامية” وشكلت جناحاً أساسياً في “حزب الله”.
وكان خطف الشيوعي المسيحي ابن حارة حريك، “ميشال واكد”، طوال 60 يوماً وقتله ورمي جثته على شاطئ البحر في الجناح في 7 فبراير/ شباط 1986، على صلة حميمة بتلك الحملة من الترويع واقتلاع المسيحيين السكاني والعقاري. فـ”واكد” أمضى السنوات الأخيرة من حياته “النضالية” في تشجيع بقايا المسيحيين على البقاء في حارة حريك وسواها من أحيائهم.
الراوي الجوال والبيوت الخربة:
وكان ميخائيل عون (1935-2019) في خريف عمره لما روى وزوجته من آل تحومي، شهادتهما عن مأساة حارة حريك. وهما روياها في صالون بيتهما بمنصورية المتن على سفوح جبل صنين. ورغم مضي أكثر من 10 سنوات على رحيلهما من ديارهما في الحارة، بديا مستوحشين وحشة غامضة في محيطهما الاجتماعي الجديد، ووحيدين في منزل ببناية من عمران الصفاء الطائفي المسيحي.
زوجته من قدامى عائلات حارة حريك، وروت أن الدارة القديمة لوالدها المحامي “شربل تحومي”، استولت عليها جماعة مسلحة بإمرة “أبو علي مصطفى” التحقت بـ”حزب الله”. وبعدما نهبت المكتبة البيتية القديمة، أسكنت فيها عائلة شيعية جعل نساؤها يتذمرن من الراوية، كلما زارت دارة أهلها وطفولتها وشبابها زيارة استطلاعية عابرة.
وكانت الكلمات تختنق على لسان ميخائيل عون، فرغب أن نزور حارة حريك ونجول فيها ليستحث بصرُه ذاكرتَه على الرواية. حدث ذلك سنة 2012. استهل كلامه قائلاً: لم يبق شيء هنا قط يذكرني بأي شيء. كنا نجتاز معاً في السيارة شارعاً تحت جسر يعلو أوتوستراد هادي نصرالله (نجل حسن نصرالله) في حارة حريك. وفجأة انتفض حينما أبصر على جدار تحت الجسر في قلب ما كان يسمى سقي بساتين حارة حريك القديم، صورة عملاقة لمن روت زوجته أنه استولى على دارة أهلها. وقال عون إن صاحب الصورة أحد أبرز الضالعين في ترويع أهالي حارة حريك المسيحيين، وحملهم على الفرار من بيوتهم وبلدتهم في ثمانينات القرن العشرين، والاستيلاء على أملاكهم.
وفيما هو يحدق في الصورة العملاقة، أطلق واحدة من عباراته التهكمية: انظر، انظر كيف يتطاير شرر الغضب من عيني أبو علي… الذي لم يكتفِ بما فعله، بل نصب هنا صورته وكتب في أسفلها: الحمد لله، نحن دائما على حق.
وبعدما تجاوزنا الجسر، رأى الراوي الجوال دارة قديمة مهجورة تعلو جدرانها المتصدعة بقايا سقف عال من قرميد خرب، فقال: هذا بيت الدكتور “أنطوان حنين” الذي شيد في أربعينات القرن العشرين على تخوم البساتين، وحيث نشأ في التسعينات حي الأبيض ببناياته السكنية الحديثة العالية والكثيرة على بساتين آل الأبيض. لم تكن قد مضت دقائق قليلة على تجاوزنا دارة الدكتور “حنين” الخربة، حين قال الراوي الجوال: وهذه دارة آل المعلم، وهي من البيوت القديمة التي شيدت في ثلاثينات القرن الماضي، على طرف بستانهم العائلي. بدت الدارة خربة كسابقتها. وقال “عون” إن آل المعلم كانوا يملكون مساحات واسعة من البساتين. وفي مطلع ستينات القرن العشرين بدأت تُبنى على أملاكهم التي باعوها بنايات حديثة سكنتها أسر من فئات متوسطة جديدة وفدت من خارج المنطقة. وبعدما تكاثرت البنايات وساكنوها المختلطون طائفياً، نشأت ما سُميت محلة المعلم. ولما أقيمت على طرفها محطة وقود سميت “محطة المعلم”.
وتابع عون: “في بدايات الحرب سنة 1975 أقدم مسلحون بعلبكيون ينتمون إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، على خطف ابن صاحب البيت القديم الخرب اليوم، “جوزف المعلم”. وذلك ثأراً منهم لعملية خطف حدثت في منطقة مسيحية بعيدة، وكان ضحيتها قريب أحد من أقدموا على خطف ابن جوزف المعلم الذي عُثر على جثته، بعد أيام، في قناة مياه خربة من أقنية ري البساتين القديمة”.
حوار مع شيخ “مقاوم”:
في الستينات كان ميخائيل عون قد شارك إخوته في الحارة على تشييد بناية في قطعة أرض يملكونها وورثها والدهم عن أبيه، وسكن كل منهم وأسرته في شقة من البناية الجديدة. وبعدما نزح الإخوة وأسرهم من بيوتهم فيها عام 1985، مكث والداهم المُسنان وحدهما في البناية، لحمايتها من الاستيلاء عليها. وفيما كان مسلحون يرغمون الوالد وزوجته على المغادرة، أقدموا على كسر العصا التي يتوكأ عليها. وسرعان ما احتُلت شقق البناية الأربع.
وحسب رواية عون، تعودت عائلات حارة حريك التي تركت بيوتها على زيارتها وتفقدها بين وقت وآخر، فتلتقي محتليها. امرأة من المُحتلين قالت له مرة في واحدة من زياراته بيته، إنها عثرت على كتب له في مكتبته، وهي تستمتع بقراءتها. لكن مُحتلاً آخر لبيت شقيقه، رفض أن يدعه يدخل إلى بيته. وحين أصر اقتاده مسلحون مع المحتل إلى مكتب حزبي في محلة “الغبيري”، حيث هددوا صاحب البيت. أما المحتل الثالث بيت شقيق عون الآخر، فكان شيعياً من الحي، ورضي أن يخلي البيت لقاء رشوة دفعها له صاحبه.
ولما زار الراوي منزله بعد مدة، وجد أن شيخاً شيعياً وشاباً عاد حديثاً من إيران، يحتله، فدار بينهما الحوار التالي:
لماذا وكيف تحتل بيتي؟!
– أنا مهجر من الجنوب، ولن أخلي البيت إلا بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب، أجاب الشيخ.
لكنني أعلم أنك تملك بيتاً في قريتك الجنوبية وتعود إليه في عطل نهايات الأسبوع.
– قريتي تحتلها إسرائيل، اذهب وأخرجها منها.
هكذا ختم الراوي حواره مع الشيخ وغادر. وهو روى أن مسلحي المقاومة الفلسطينية لم تكن لديهم نيات ومطامع “احتلال عقاري”. أما “المقاومون” الجدد بعد 1982، فاستعملوا أساليب شتى لتفريغ حارة حريك من بقايا مسيحييها: التهديد والخطف ووضع عبوات ناسفة وتفجيرها، ومن ثم الخطف والقتل. وهذا أرغم الناس على بيع أملاكهم كيفما اتفق وبأي ثمن، تحت الضغط والتهديد والترويع، طلباً للخلاص والرحيل.
الهروب الأخير من المريجة:
قبل الهروب المسيحي الكبير من المريجة في ليلة من ليالي سبتمبر/ أيلول 1983، كان أقل من نصف أهلها المسيحيين قد هُجروا منها خوفاً وترويعاً، حسب رواية “خليل خالد الفغالي” الذي وصف ليلة الهروب الأخير، حينما لم يحمل الهاربون شيئاً من بيوتهم، سوى ما يلبسونه من ثياب. ومنهم من هرب حافياً وفي ثياب النوم. أقوى ما أتذكره- قال الفغالي- تلك السجادة العجمية الأصفهانية الكبيرة المفروشة في أرض صالون بيتنا القديم منذ عام 1904، قبل أكثر من عقدين من ولادة أبي في المريجة. كان طولها 12 متراً. ومن دمشق اشتراها جدي، تاجر قوافل الجمال بين العاصمة السورية وبيروت وجبل لبنان.
شقيق الراوي عبدالله ترك المصابيح مضاءة في البيت، حين فر منه مع جموع الفارين في اتجاه بلدة الحدث المسيحية القريبة. مصابيح كثيرة في المريجة ظلت مضاءة في البيوت التي فرغت من أهلها، وأمست سبيةَ النهب والحرق والمصادرة. وحتى ضحى النهار التالي بقيت تلك المصابيح ترسل ذلك الضوء الخاوي المريض.
وروى الفغالي أنه قبل أيام قليلة من الهروب الكبير، جلب مسلحو “أمل” جرافة إلى الحي السفلي في المريجة، وحفروا خندقاً كبيراً وسط الأحياء، ثم وضعوا فيه عدداً من مدافعهم الرشاشة المضادة للدروع، وباشروا بإطلاق النار منها على وحدات الجيش والبيوت في الأحياء المقابلة في الأعلى. دعم الجيش اللبناني مواقع قواته، وأمر قائد الموقع جنوده بالرد على نيران المسلحين والتصدي لهم في حال قيامهم بهجوم. ومساء الهروب الجماعي كان المقدم القائد في مركز قيادته، لما دخل إلى مكتبه رقيب من قواته، وأطلق عليه رصاصات أردته فوراً. ولما شاع خبر اغتياله دب اضطراب وذعر في صفوف وحدات الجيش وبين الأهالي المسيحيين، الذين كان نحو 60 في المئة منهم لا يزالون مقيمين في بيوتهم.
وانطلقت في نواحي الضيعة وأحيائها صرخات محمومة: هْربوا، هْربوا… وصْلوا، وصْلوا… رح تموتوا، رح يذبحوكم في بيوتكم… هْربوا، هْربوا. وقال كثيرون إن بعضاً من جنود الجيش شارك في إطلاق هذه الصرخات.
وتابع الفغالي شهادته عن سماعه صرخات تُحذر الهاربين من استعمال سياراتهم، فتركوها ومشوا هاربين في اتجاه بلدة الحدث. منهم من ترك فرن الغاز مشتعلاً في مطبخ بيته. آخرون مشوا غير منتبهين إلى أن أقدامهم حافية. كانوا عائلات وأسَراً، وبقايا عائلات وأسرٍ عددهم نحو ألفي شخص يتدافعون مسرعين في مسيرتهم الليلية في دروب زراعية. تركوا بيوتهم مشرعة الأبواب… وصلوا على دفعات متتالية إلى الحدث، فاستقبلهم أهلها منكسرين. تحلقوا في الشوارع والساحات والطرق والكنائس وبين البيوت. لم ينتبهوا إلى أن حرائق بدأت تشتعل في المريجة، إلا في غلس الفجر، فصعدوا إلى سطوح بيوت الحدث مع سكانها، لمشاهدة الحرائق ومواضعها في بلدتهم وبيوتهم.
وتوجه الفغالي إلى محطة محروقات على طرف الحدث القريبة من المريجة. رأيت- قال- أشخاصاً يدخلون إلى البيوت ويخرجون منها حاملين أثاثاتها. إنهم يحرقون بيوتنا بعدما ينهبونها، قلت لجمع من مسلحي القوات اللبنانية التابعين لجهازها الأمني بقيادة “إيلي حبيقة”. وهم كانوا يقفون مع المتفرجين قريباً من محطة المحروقات.
وفيما سمع الراوي بعض رجال يتساءلون إن كانوا يستطيعون الذهاب إلى بيوتهم لإحضار ثيابهم، رأى على الطريق سيارة شحن آتية من جهة المريجة، ومحملة قطعاً من أثاث بيتي، بينها غسالة وبرّاد وفرن غاز. ما إن توقفت الشاحنة قرب محطة المحروقات حتى صرخت امرأة: انظروا، انظروا، عفشْ بيتي في الشاحنة! فلم يجرؤ أحد على الاقتراب منها، بل انصرفوا إلى منعها من الاقتراب من الشاحنة وعدم الصراخ الهستيري.
واستمرت الحرائق مشتعلة في بيوت المريجة والليلكي وتحويطه الغدير، طوال اليومين التاليين بعد الهروب الأخير، حسب رواية الفغالي الذي تابع: في النهار الثاني وصل إلى الحدث “إدوار البير صعب”، وأمه تدعى “المس نور” التي كانت صاحبة مدرسة خاصة قديمة في تحويطة الغدير، فروى لي أن مسلحي “أمل” قبضوا عليه ليلة الهروب واقتادوه إلى مقرهم وسجنوه.
قبور الغرباء في ديار الخائفين:
وروى أنطوان يزبك المولود في حارة حريك سنة 1960، والمولود جده فيها، أن كثيرين من أهلها نزحوا أثناء حرب السنتين (1975-1977)، فأقاموا في بلدة الحدث، وانخرط شبانهم في حزبي “الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” هناك.
وفي حرب السنتين عرفتْ حارة حريك ظاهرة جديدة: دُفِن في مقبرتها كثيرون من القتلى المسيحيين الغرباء. وكان أولئك القتلى قد غادروا بلداتهم وديارهم المسيحية في جبل لبنان، أو نزحوا منها خائفين، لأنهم محازبون شيوعيون وسوريون قوميون، وطردت بعضهم الميليشيات المسيحية، فصاروا مقاتلين متفرغين في أحزابهم الحليفة للمنظمات الفلسطينية، وسقطوا على جبهات القتال في بيروت الغربية وفي جبل لبنان، ولا أهل لهم في المناطق التي حاربوا وقتلوا فيها ليتعهدوا مراسم دفنهم.
لقد قتل هؤلاء كما دفنوا مهجرين، لأن الميليشيات المسيحية تسيطر على ديار أهلهم المسيحية. وراح مسيحيو حارة حريك- الخائفون و”الصامدون” في ديارهم التي تسيطر عليها أحزاب أولئك القتلى- يستقبلون مرة كل أسبوع أو أسبوعين قتيلاً مسيحياً شيوعياً أو سورياً قومياً مهجراً من دياره ويستحيل دفنه فيها.
وليس من الصعب تخيل مقدار القسوة والوحشة اللتين شعر بهما بقايا أهالي الحارة، فيما هم يشيعون أولئك الغرباء إلى مقبرة بلدتهم. وكذلك القسوة والوحشة اللتين كابدهما أهل أولئك القتلى، فيما هم يتلقون أخبار مقتل أبنائهم الفارين من ديارهم، ودفنهم في مقبرة غريبة، بعد قتالهم وإطلاقهم نيران أسلحتهم على مناطق أهلهم. وربما كان على أهلهم هناك في ديارهم، أن يكتموا أخبار مقتل أبنائهم وحزنهم وحدادهم عليهم.
كالتوقيع على وثيقة إعدام:
بعد دخول القوات السورية إلى بيروت في خريف 1976، أقامت حواجزها العسكرية ومراكزها الأمنية في الحارة. وأخذ ضباط سوريون يزورون بقايا سكانها المسيحيين في بيوتهم، لـ”طمأنتهم” وحضهم على “البقاء في ديارهم”. وتذكر الراوي يزبك ضابطاً جالساً في صالون بيت أهله، ويتحدث إلى والده الصامت الشارد الذهن. ومما قاله الضابط: نحن وإياكم قلب واحد. ورئيسكم المنتخب “إلياس سركيس” سيوقع معاهدة دفاع مشترك مع الرئيس حافظ الأسد. وغداً يشترك ابنك في دورات تدريبية معنا.
ولم نعد نطيق الحياة في حارة حريك- قال الراوي يزبك. وحتى جيرانهم المسلمون أخذوا ينصحونهم بالمغادرة قائلين: إذا حصل شيء سيُنكلون بكم. ولأن والد يزبك كان يحدس ما يخبئه لهم القدر، في حال مغادرته دياره وبيته، كان يقول لناصحيه: ولو! نحن إخوة يا جيران، ونحن في حمايتكم. ولما قال مرة جارهم الشيعي الأقرب لوالده: العين بصيرة واليد قصيرة، يا جار، ونحن مثلكم لا نستطيع أن نفعل شيئاً؛ قررت العائلة الرحيل نهائياً إلى بيتها الصيفي المستأجر في “عشقوت” الكسروانية.
لكن موكب تلك المغادرة ضم نحو 20 سيارة من بقايا عائلات حارة حريك المسيحية. كان الجميع موقنين أن خروجهم هو الأخير، ولا عودة بعده. ولما وصل موكب السيارات إلى محلة الطيونة ليجتاز حاجز مسلحين لتنظيم “المرابطين” على خط التماس، ويتجه إلى المناطق المسيحية، أمر مسؤول الحاجز سائقي السيارات بالنزول منها واللحاق به إلى مقره. وحين عاد والد الراوي يزبك إلى سيارته مطأطئ الرأس صامتاً، بكى فيما هو يروي لأسرته ماذا جرى في المقر. قال إن مسلحي الحاجز أخذوا يؤنبون الرجال المُزمعين على المغادرة، قائلين لهم: أنتم تتركون دياركم وبيوتكم بملء إرادتكم، وغدا يُقال وتقولون إننا نحن من يهجر أهالي حارة حريك المسيحيين ونطردهم ونحتل بيوتهم. لذا لن نسمح لكم بالمغادرة، إلا إذا وقّع كل منكم مستنداً يفيد بأنه غادر من تلقاء نفسه وبإرادته، من غير ضغوط ولا إكراه. وقال والد الراوي إنه بلا اكتراث وقع المستند، كمن يوقع قرار إعدامه. وبعد مدة قصيرة من وصول الأسرة إلى عشقوت حاملة بعض الثياب وكتباً وكل ما لديها من صور فوتوغرافية، علمت أن منزلها في حارة حريك احتلته عائلة شيعية من الجنوب.
مجتمع الحرب المسيحي:
وكان مريراً وقاسياً على الراوي وأسرته عقد الثمانينات. فأسرته الصغيرة المقتلعة من منزلها وبيئتها في حارة حريك، ولد فيها ونشأ وتوطن في الحارة أجيال ثلاثة. وكسروان التي هُجروا إليها، عاشوا في بعض قراها الجردية العالية سنوات سبع من الغربة والقطيعة والبؤس واليتم الاجتماعي والتشرد والفقر والمهانة المضاعفة. هناك، لم يكن في استقبالهم سوى قسوة الطبيعة الجردية وقسوة البشر في مجتمع الحرب الذي أخذ يجتاح لبنان كله.
والشراهة التي كانت تلابس نظرات الشبان الجرديين إلى شقيقة الراوي، كانت تكافئها شراهة مُلاك البيوت التي يؤجرونها للمهجرين الذين تكاثرت موجاتهم وتزايدت أعدادهم لما انفجرت الحروب الطاحنة في قلب المجتمع المسيحي بين 1985 و1989. فمع كل موجة جديدة من الحرب والتهجير كان يتضاعف الطلب على استئجار البيوت في تلك القرى، فيضاعف ملاكها بدلات إيجارها ويفرضون شروطهم القاسية على مستأجريها. وما إن علم مالك البيت الذي استأجرته أسرة الراوي يزبك في عشقوت أن بيتهم احتل في حارة حريك، حتى طلب مضاعفة بدل الإيجار، وأرغم الأسرة على ترك البيت إلى آخر. لكن طلبات المُلاك ما كانت لتتوقف عند حد. فبعضهم أخذ يلجأ إلى الاحتيال، فيوصل الأسلاك التي تنقل التيار الكهربائي إلى بيته بعدادات المستأجرين الذين على نفقتهم ومن دون علمهم فيستهلك الطاقة الكهربائية التي يحتاج إليها في بيته، من إنارة وتدفئة وتسخين مياه.
كان يعلم المهجرون ما يفعله الملاك، لكنهم يظلون ساكتين مستسلمين، كأنهم يتواطؤون معهم على أنفسهم التي تمتلئ بالقهر والكمد. فتزداد قوة بأس الملاك وخبثهم اللذين يبلغان حد التشفي بضعف المهجرين، إذا بدر منهم تململ مما هم فيه أو اعتراض كسير أو خجول.
وكلما شعر الملاك أن المهجرين ضاقوا ذرعا بضعفهم ومهانتهم، كان الملاك يبادرون فورا إلى تذكيرهم بعارهم قائلين لهم: هل تحسبون أنكم رجال؟! أنتم لستم رجالا. فلو كنتم كذلك لما استطاعوا طردكم من بيوتكم ودياركم وتهجيركم! وهكذا صارت أم الراوي، وكذلك والده يقولان: نتمنى لو متنا في بيتنا في حارة حريك، قبل أن تقذفنا الأقدار وترمينا هنا لنعيش حياة كلاب شريدة.
* كاتب وروائي لبناني
الصدر: موقع المجلة