الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عُملات خرجت إلى التقاعد (1/2)

عاطف معتمد *

أشياء عديدة كثيرة تغيرت في مصر المحروسة، بل وخرج التصميم التصويري لبعضها إلى التقاعد ومن بينها العملات النقدية، لا سيما ورقة نصف الجنيه وورقة العشرة جنيهات.

كانت ورقة نصف الجنيه تحمل للبسطاء من الناس في بلادنا صفات ذلك الرجل الحاسم الواقف بملامح دقيقة شابة قابضاً على مقاليد الأمور بصولجان القرار الذي يضمه إلى صدره.

لا توجد أية معلومة على الورقة عن هذا الشاب دقيق الملامح. قبل ثلاثة أو أربعة عقود لم يكن أحد يعرف عنه شيئاً، ربما باستثناء مصمم العملة ورئيس البنك المركزي وحفنة من علماء الآثار.

مع انتشار المعرفة اليوم، صرنا نعرف أن الصورة لتمثال فريد عجيب لا نظير له في الأراضي المصرية وهو للملك «رمسيس الثاني» في مرحلة من شبابه يضع على رأسه خوذة للحرب بدلاً من تاج الملكية المدني، ويمسك صولجاناً يؤدي عدة وظائف منها الاستعداد ليضرب بيد من حديد المخالفين والأعداء.

تخفي ورقة نصف الجنيه بقية جسم التمثال الذي يُعد أعجوبة من أعاجيب الفن المصري القديم، ففيه يجلس رمسيس الثاني على كرسي الحكم بهيئة بالغة الإتقان وتجليات فنية عجيبة.

الصخر المنحوت فيه التمثال متفردٌ أيضاً، تتميز به أرض مصر عن كثير من بلاد العالم، يسميه الجيولوجيون «الجرانوديورايت» وهى كلمة مؤلفة من شقين يجمع فيها الصخر بعض صفات الـ«جرانيت» مع بعض من صفات الـ«ديورايت».

رمسيس الثاني الذي حكم قبل 3200 سنة مضت اختار أحد أقدم صخور القشرة الأرضية في مصر، صحيح أن الفنانين في عهده كانوا يعرفون أن الصخر قديم جداً لكنهم قطعاً لم يتخيلوا ما يقوله علماء التأريخ اليوم من أن متوسط عمر تكوين هذا الصخر في أرض مصر يقرب من 800 مليون سنة!.

بعد أكثر من ألف سنة من عهد رمسيس الثاني، حينما احتل الرومان مصر وضعوا أيديهم على ما هو أغلى من الذهب، كان صخر الجرانيت الديورايتي فريداً لا نظير له في كل مستعمرات روما في أوروبا وآسيا، ومن ثم اتخذوه مصدراً مثالياً لصناعة أعمدة القصور الملكية في روما، وجُند الرومان المصريين لقطع صخر الجرانوديورايت وسحبه من عمق صحراء مصر الشرقية إلى “قنا” على النيل ومن “قنا” عبر النهر إلى الإسكندرية ومن الأخيرة إلى روما حيث توجد إلى اليوم أزهى وأجمل الساحات والقصور من ذلك العهد.

من بين المناجم التي خلبت خيال أباطرة روما جبل شهير في صحراء مصر الشرقية إلى الغرب من ميناء “سفاجا” اليوم اهتم به إمبراطور روماني كبير هو الإمبراطور «كلاوديوس» الذي أطلق اسمه على الجبل الذي يضم أنواعاً من الجرانيت ومن بينها الجرانوديورايت فأسماه «مونس كلاوديانوس» أي «جبل الإمبراطور كلاوديوس» الذي ما زال اسمه على الخرائط المصرية إلى يومنا هذا.

ومن عجائب هذا الصخر الجرانيتي الديورايتي أيضاً انه هو نفسه الذي قُطع منه حجر رشيد الذي كان مفتاح فك رموز اللغة المصرية القديمة.

ولأن بلدنا العظيم وطن المفارقات والمفاجآت والتناقضات، فإنك إذا بحثت عن تمثال رمسيس الثاني الذي تراه هنا على ورقة نصف الجنيه فستجده في «المتحف المصري».

قد لا تنتبه إلى الخدعة لأن المتحف المصري المقصود ليس متحف القاهرة، بل المتحف المصري في تورينو بإيطاليا الذي أسميه على سبيل السخرية «مغارة علي بابا الذهبية» ففيه آلاف القطع المصرية المنهوبة والمسروقة التي وجدَت طريقها إلى إيطاليا منذ عهد محمد علي باشا الذي لم يكن يُعطِ أية اهتمام للآثار ولا يعتني بها بل سمح لـ «برناردينو دروفيتي» القنصل الفرنسي ذي الأصل الإيطالي والمحترف الكبير في نهب الآثار بنقل آلاف القطع التي تزيّن ثلاثة متاحف في أوروبا الآن، أكبرها وأضخمها وأعظمها «المتحف المصري» فى “تورين”.

حين تم تصميم ورقة نصف الجنيه وكان لها هيبتها كانت تعويضاً على ما يبدو عن غياب التمثال الأصلي في تورين في إيطاليا. الآن غاب الاثنان: التمثال الحقيقي، ونفحة من صورته.. أو لمحة من هيئته.

يقولون إن ورقة العشرة جنيهات تطير بسرعة البرق حتى إننا لا نلحق رؤية ما عليها أو فهم دلالة صورها.

لورقة العشرة جنيهات وجهان: إسلامي مكتوب بالعربية وعليه صورة مسجد قاهري شهير، والوجه الآخر الذي نراه في هذا المقال مكتوب بالإنجليزية وعليه صورة تمثال أحد أشهر ملوك مصر القديمة وصاحب الهرم الثاني والذي حكم بلادنا قبل 4500 سنة مضت في الأسرة الرابعة: الملك «خفرع».

للتمثال الموجود حالياً في المتحف المصري تصميم فريد إذ نجد فيه المعبود “حورس” صقراً يحيط برأس خفرع من الخلف، يوجه خطاه بكل حزم وتصميم وكأنه يقود مسيرته في تجسيد مباشر لسلطة السماء (الرب) وسلطة الأرض (الحاكم).

تمثال خفرع الشهير منحوت في صخر ناري انبثق من صهير اللهيب من باطن الأرض، اختلف الجيولوجيون في تحليل عناصره ما بين «الديورايت» و«النايس».

الأمر غريب حقاً، خفرع ملك مصر في بواكير الأسرات الأولى أي مهد الدولة المصرية القديمة، وهذه الصخور هي الأقدم عمراً في الأراضي المصرية، فالديورايت يقدر عمره ما بين 800 و900 مليون سنة مضت، أما صخور «النايس gneiss» فهي الأقدم في الأراضي المصرية، ويذهب العلماء إلى أن هذه الصخور ظهرت في أرض مصر مع بداية تشكيل القشرة الأرضية في بلادنا، بل تشكيل القشرة الأرضية في كل عموم إفريقيا، والرقم المطروح يصعب تخيله لغير المتخصصين إذ يعود عمر هذه الصخور إلى 1700 مليون سنة في الحد الأدنى.

الأمر الغريب الثاني في صخور النايس أنها لا تنتشر في كل مكان في مصر، بل توجد في مناطق نفوذ بعينها وفي خطوط عرض الجنوب المصري دون سواه.

خفرع الذي بنى الهرم الثاني في الجيزة ومعه على الأرجح أبو الهول لم يكن لديه أية صخور ديورايت أو نايس في محيط الشمال المصري الغارق في الصخور الجيرية والرملية والطَفلية الهشة. من أين أتى بهذا الصخر الفريد؟

ذهب الجيولوجيون والجغرافيون المصريون قبل 4500 سنة إلى خرائطهم الجيولوجية ليعثروا على جبل نادر في إقليم بلاد النوبة في منطقة تقع اليوم إلى الغرب من “أبو سمبل”، وتُعرف اصطلاحاً باسم «جبل العصر».

في تلك المنطقة في أقصى الجنوب المصري اقتطع النحاتون صخوراً ضخمة أقاموا منها العديد من التماثيل لخفرع ومنها التمثال الذي يظهر على ورقة العشرة جنيهات.

الدهشة الثالثة التي تنتابك هي أن أكابر علماء الجيولوجيا البنيوية في العالم اليوم يعتقدون أن أرض مصر نمت فوق مجموعة من الأقواس البنيوية التي كانت أشبه بالعمود الفقري الذي تجمَّع حوله بقية «اللحم والدهن» للأراضي المصرية، ومن بين هذه الأقواس البنيوية في عمود مصر الفقري قوس شهير أعطوه اسم «Chephren» وهي الكلمة الإنجليزية لاسم «خفرع» ويقصدون بها المنطقة التي تم منها اقتلاع صخور تماثيله في غرب بلاد النوبة.

تخيل أنه كان بوسعنا أن نعرف كل هذه المعلومات، لو كانت ورقة العشرة جنيهات تتمهل قليلاً، كيف تتمهل، وقد غابت تماماً عن الأنظار منذ العام الماضي.

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.