الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إسرائيل بعد 30 عاماً على السلام مع الأردن

أمجد أحمد جبريل *

حلّت الذكرى الثلاثون لاتفاقية وادي عربة الأردنية الإسرائيلية (26/10/1994)، بعد مرور أكثر من عام على حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، التي عكست مجرياتها (ولا تزال) احتمال حصول تغيّر جذري في البيئة الاستراتيجية للصراع العربي الإسرائيلي، على نحو يطرح تساؤلاتٍ مشروعة عن معنى اتفاقيات التسوية العربية مع إسرائيل، في ضوء ما كشفته الحرب من رفض إسرائيل، دولةً وجيشاً ومؤسّساتٍ، التزام أيّ مضمون حقيقي للاتفاقات، أو لقرارات الشرعية الدولية، فضلاً عن أحكام القانون الدولي الإنساني، خصوصاً ما يتعلّق بحماية المدنيين والممتلكات والأعيان المدنية في زمن الحرب.

وفي سياق تحليل مآلات معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، في ضوء مشاهد حروب غزّة والضفة الغربية ولبنان، ومتغيّرات السياسة الإسرائيلية خصوصاً، ومستجدّات البيئة الاستراتيجية للصراع العربي عموماً، ثمّة ثلاث ملاحظات؛ أولاها نكوص/ارتداد الحكومات الإسرائيلية، عن جوهر فكرة التسوية مع الفلسطينيين والعرب، وانتهاء سياسات “التسوية”/ “التهدئة التكتيكية”، التي لجأت إليها حكومة حزب العمل الإسرائيلي، برئاسة إسحاق رابين (1992- 1995)، بغية الالتفاف على تداعيات الانتفاضة الفلسطينية 1987، وتوظيف نتائج التشرذم العربي بعد أزمة الغزو العراقي للكويت 1990 /1991، ثمّ انطلاق عملية مدريد 1991.

وعلى الرغم من توقيع حكومة رابين اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية (13/9/1993)، ثمّ اتفاقية وادي عربة مع الأردن (26/10/1994)، ثمّ الانخراط في مؤتمرات التطبيع الاقتصادي الشرق أوسطية (في الدار البيضاء 1994، ثمّ عمّان 1995… إلخ)، فإن ذلك لم يرقَ إلى مستوى تغيير “توجّهات” السياسة الخارجية (Foreign Policy Orientation)، نحو التسوية أو السلام مع العرب، بمقدار ما عكس “تكيّفاً”/”توظيفاً” براغماتياً، من أميركا وإسرائيل، لحالة الضعف العربي المزمن؛ إذ يعكس كتاب ثعلب السياسة الإسرائيلية، شيمون بيريز، عن “الشرق الأوسط الجديد”، الفكر الأميركي/ الإسرائيلي، والتصوّرات الاستراتيجية لشكل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بعد أزمة الغزو العراقي للكويت؛ إذ برزت آنذاك فِكَر “أحقية” إسرائيل بقيادة المنطقة بأدوات القوة الناعمة (التفوق التقني والتجارة والاقتصاد والدبلوماسية والتطبيع الدبلوماسي… إلخ) على حساب العرب وبأموالهم، تحت عنوان “ثقافة السلام”، (تقديم القيم المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والازدهار والتعاون المشترك، وتأخير قيم المقاومة واستعادة الحقوق، ليصبح التعاون السياسي والاقتصادي مع إسرائيل سبيلاً إلى التنمية، والتخلّي عن الثوابت السياسية العربية، نوعاً من “الواقعية السياسية”).

تتعلّق الملاحظة الثانية بتكرار أزمات العلاقات الأردنية الإسرائيلية، على نحو يكشف محدودية نجاح فكرة التسوية في المسارات الفلسطينية واللبنانية والسورية والأردنية، التي ترتبط بمطامع المشروع الصهيوني في الأرض والسيادة والثروات وموارد المياه، فضلاً عن سرقة التراث واختلاق التاريخ وتزييف هُويَّة المنطقة لإثبات “حقّ إسرائيل في فلسطين”، علماً أن “النجاح النسبي” في مسار “السلام البارد” بين مصر وإسرائيل، يشكّل “استثناءً مؤقّتاً” بالنسبة إلى مسار العلاقات الإسرائيلية الرسمية مع دول جوار فلسطين “دول الطوق”، وربّما يؤول في سنوات معدودات، إلى الصراع مجددّاً، بسبب تداعيات تصاعد عدوانية إسرائيل تجاه فلسطين وإقليم الشرق الأوسط إجمالاً.

وعلى الرغم من رغبة عمّان في تجنّب الانخراط في صراع عسكري مع إسرائيل، واختيار الأردن السير في ركاب سياسات الصف العربي تجاه إسرائيل (حرباً أو سلماً)، فإن جوهر الفكر الصهيوني، يكشف أن إسرائيل لا تريد السلام (أو الحلول الوسط)، ولا تلتزم بأيّ اتفاقات مع العرب، إلا في إطار تكتيكي؛ إذ وظّفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ثلاث أدوات في هذا الإطار؛ المماطلة والتسويف (تصريح رابين بأنه “لا مواعيد مقدّسة في التنفيذ”)؛ “تفريغ” الاتفاقات من مضمونها، وتجزئتها وإعادة التفاوض حول ما تمّ الاتفاق عليه (برتوكول الخليل 1997، واتفاق واي بلانتيشين 1998، مثالين)؛ إعادة تفسير الاتفاقيات وتغيير الحقائق وموازين القوى في الأرض، على نحو يؤكّد مسائل “محورية الأمن الإسرائيلي” في الاتفاقيات كلّها، على نحو يكاد يُلغي الطرف الفلسطيني وحقوقه عملياً (مثل حقّ إسرائيل في “المطاردة الحثيثة” للإرهابيين في أراضي الحكم الذاتي)، وكذلك قوة إسرائيل وتفوّقها الكاسح، وأخيراً توطيد التحالفات الإسرائيلية الدولية، لا سيّما مع الولايات المتحدة بوصفها “الضمانات الحقيقية” لاستمرار إسرائيل وأمنها، بغضّ النظر عن اتفاقيات السلام مع العرب.

ويلاحظ في هذا السياق أن بروز شخصية زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو (وصل السلطة المرّة الأولى في مايو/ أيّار 1996) هي علامة دالّة على تصاعد ثلاث أزمات في العلاقات الأردنية الإسرائيلية (أزمة افتتاح نفق البراق أسفل المسجد الأقصى 25/9/1996. مشروع مستوطنة هار حوما على جبل أبو غنيم في القدس ربيع 1997. تورّط الموساد الإسرائيلي في محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس الدائرة السياسية لحركة حماس في عمّان 25/9/1997).

وعلى الرغم من ذلك، فإن ثلاثة عوامل تلعب دوراً محورياً في تصعيد أزمات العلاقات الأردنية الإسرائيلية، أولها الأطماع الصهيونية القديمة/الجديدة في ابتلاع مدينة القدس بكاملها، واحتكارها السيادة اليهودية المطلقة، وإنكار أيّ وصاية هاشمية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية في القدس. وثانيها بنية المشروع الصهيوني الفكرية، وسياساته، وطبيعة المجتمع الإسرائيلي، التي تعكس جميعاً نظرة “استعلائية/عنصرية” تجاه العرب، وتشرعن “العنف” و”الإبادة” و”التهجير” وترحيل الشعب الفلسطيني، من أرضه إلى الأردن أو “الوطن البديل”. ثالثها مركزية “الأمن المطلق” في السياسات الإسرائيلية.

وفي هذا السياق، يرى عزمي بشارة، في كتابه “من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية” (دار الشروق، القاهرة، 2005)، أن “التوجّه الأمني الإسرائيلي يقوم على أن العرب لم يسلّموا بوجود إسرائيل، وبالتالي، فإن هناك حاجةً دائمةً لإقناعهم بالحرب، أو على الأقلّ للاستمرار في استخدام القوة؛ فلا خيار أمام إسرائيل سوى أن تكون في حالة تأهّب كامل للحرب، وأن تخوض الحربَ إذا لزم الأمر لإجهاض أيّ مخطّط عربي لشنِّ الحرب؛ فالنزعة الأمنية الإسرائيلية تعني هيمنة القيم العسكرية على الحياة السياسية والاقتصادية في إسرائيل، وهي تمثّل جزءاً من عملية بناء الأمّة”.

واستطراداً، أدّى صعود تيّار “الصهيونية الجديدة”، ذي الطابع القومي/ الديني، منذ مطلع الألفية الثالثة، إلى إعادة تعريف الصراع مع الفلسطينيين بأنه “صراع وجودي بلا حلّ”؛ على نحو ما تجلّى في عدة محطّات سابقة؛ بداية من قمع انتفاضة الأقصى 2000، ثمّ اجتياح الضفة الغربية ربيع 2002، ثمّ العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، وانتهاءً بسلسلة الحروب على قطاع غزة (2008-2009، 2012، 2014، 2021، 2023-2024)، التي كشفت جميعها استمرار المشروع الصهيوني في ممارسة “الحدّ الأقصى” من العنف ضدّ المدنيين الفلسطينيين، بغية تدمير المقوّمات المجتمعية الفلسطينية (القرى والمدن والبيوت والبنى التحتية والاقتصاد والثقافة)، فضلاً عن التدمير المنهجي للهُويَّة السياسية الفلسطينية، ما يؤكّد حاجة صانع القرار العربي لإدراك تأثير صعود تيّار “الصهيونية الجديدة” على سياسة إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني والعالم العربي عموماً؛ ما يعني بالتالي نهاية “حلّ الدولتين”، ونكوص إسرائيل عن فكرة التسوية (كما سلف القول)، وتصاعد احتمالات توسيع العدوان الإسرائيلي على لبنان وسورية، وربّما دول أخرى أبعد، وتصاعد نزعات الانتقام/ القَبَلية/اللاعقلانية في السياسة الإسرائيلية إجمالاً.

ويبدو في هذا السياق، كأنّ المشروع الصهيوني يعود سيرته العنيفة الأولى، ما يعني “انحسار” التيّار الصهيوني الوسطي، الذي حافظ على التوازن الداخلي في الحركة الصهيونية، وسمح لها بادّعاء “الاعتدال” على المستويات السياسية والدبلوماسية والأخلاقية، ما يؤدّي في المحصّلة إلى نتيجتَين؛ إحداهما استشراء ظواهر فكرية متطرّفة (مثل العنصرية الثقافية، وتصاعد التمييز ضدّ فلسطينيي 48، وتفاقم جرائم المستوطنين في الضفة الغربية). والأخرى إظهار المعالم الكولونيالية للواقع الإسرائيلي، وسحب أيّ شرعية منه في أعين بعض أوساط المجتمع الإسرائيلي، فضلاً عن الجهات الخارجية الداعمة لإسرائيل.

تتعلّق الملاحظة الثالثة بخيارات عمّان المتاحة، في ظلّ ضعف المواقف الرسمية العربية من حرب غزّة، واحتمال بروز أدوار مصر والإمارات والسعودية في مرحلة ترتيبات “اليوم التالي” في قطاع غزّة (على حساب عمّان). وعلى الرغم من تصاعد التحدّي الإسرائيلي باطراد، بسبب وجود جهات في اليمين الإسرائيلي، مثل روني مزراحي، رجل الأعمال وممثّل اتحادات النقابات في المقاولات، تعمل ليل نهار، على سياسة تصدير الأزمات الداخلية الإسرائيلية للأردن ولبنان والمحيط العربي إجمالاً، فإن بوسع عمّان موازنة الضغوط الخارجية عبر اللجوء إلى خيارين. أحدهما تكتيل الجبهة الداخلية وتعزيز تماسكها، عبر رفع سقف الحرّيات، وتعديل قانون الجرائم الإلكترونية، لا سيّما ما يتعلّق بتقييد الحرّيات والاعتقالات للصحافيين والناشطين، التي استهدفت مُنتقدي استمرار التطبيع مع إسرائيل والمُتضامنين مع غزّة وفلسطين، والآخر الانفتاح على تركيا وإيران والهند والصين وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل… إلخ، أقلّه لموازنة التهديدات الإسرائيلية، وتوسيع شبكة التحالفات الإقليمية والدولية للأردن، على نحو يُعزّز أمن البلاد واستقرارها.

وإلى ذلك، سيستفيد الأردن كلما عزّز علاقاته السياسية مع حركات المقاومة الفلسطينية، لا سيما “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، التي يصعب تجاهل دورها في الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصاً إذا نجحت في التأثير في المواقف المصرية والعربية والإقليمية الرسمية من تصاعد العدوانية الإسرائيلية تجاه المنطقة، كما تكشفه عودة سيناريوهات تهجير الفلسطينيين واللبنانيين إلى واجهة المشهد، بالتوازي مع إمكانية الاستفادة من وجود أصوات وقوى إقليمية ودولية تعارض السياسات الإسرائيلية، التي قد تدفع إقليم الشرق الأوسط إلى “هاوية سحيقة” من الصراعات والحروب والفوضى، خصوصاً إذا نجح المرشّح الجمهوري، دونالد ترامب، في العودة إلى سدّة البيت الأبيض، في الانتخابات الأميركية الوشيكة.

* كاتب وباحث فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.