بشير عبد الفتاح *
بحكم دستورها، لا تغرد الولايات المتحدة خارج سرب الدول العلمانية. فبعبارة «نحن الشعب»، استهل الآباء المؤسسون، وثيقتهم الدستورية العلمانية، التي ضربت الذِكرَ صفحاً عن مصطلحات من قبيل «الرب» أو «الكتاب المقدس». أما الإشارة اليتيمة إلى كلمة «الدِّين»، فأتت ضمن سياق التأكيد على عدم التمييز بين المواطنين والمواطنات على أساس العقيدة. حيث تنص الفقرة السادسة من الوثيقة ذاتها على عدم إجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل وظيفة حكومية. كما منع أول تعديل دستوري، عام1791، الكونجرس من إصدار تشريع أو قانون، ينطلق من أساس ديني، يحظر أية معتقدات، أو يعيق حرية الاعتقاد.
واقعياً، يُجمع مراقبون كثُر على أن البعد الديني يمثل أبرز العوامل المؤثرة في المشهدين السياسي والمجتمعي داخل الولايات المتحدة. حيث يستعصي فهم التوازنات السياسية للدولة الأمريكية العميقة، دون الأخذ في الحسبان الدور المحوري للدِّين وجماعات الضغط المرتبطة بالجمعيات الدينية، في رسم معالم السياسة الأمريكية، بشقيها، الداخلي والخارجي. فمنذ تأسيس الجمهورية، ادعى عديد من القادة السياسيين، التفويض الإلهي، زاعمين أن الله هو من وجه بإقامة المؤسسات الديمقراطية في البلاد، إجراء الانتخابات، وإرساء توازن السلطات في الدستور.
رغم مزاعم القطيعة بين الحداثة الغربية والدِّين، يظل الأخير عنصراً أساسيًا فى بناء الدول، ونسج أيديولوجية الشعوب الغربية الآخذة بالبروتستانتية. فبينما تعلن الحداثة الأمريكية نفسها حضارة مسيحية بروتستانتية- يهودية، تُعتبر الولايات المتحدة أكبر دولة مسيحية، تضم أضخم تجمع للشتات اليهودي على مستوى العالم. وكشف استطلاع للرأي، أجراه مركز «بيو»، مؤخراً، عدم رغبة 51% من الأمريكيين انتخاب رئيس مُلحد. وضمن قسم الولاء للدولة، تبرز عبارة «أمة واحدة بأمر الرب». بينما نقشت على عملة الدولار عبارة «نثق في الرب». لذا، تشير دراسات أمريكية إلى أن تجربة الولايات المتحدة تمثل نقيضاً للحالة الأوروبية، بخصوص تديُن البشر، وفصل الدساتير بين الدولة والكنيسة.
- • •
تاريخياً، تأسست الهوية الأمريكية على مرجعيتين: أولاهما؛ سياسية تنبلج من الآباء المؤسسين، حرب الاستقلال، والدستور العلماني للدولة. وثانيتهما؛ دينية، بدأت تتبلور مع بداية القرن التاسع عشر، لتُعلي من شأن الأطهار، الذين وطأوا الأراضي الأمريكية في القرن السابع عشر، ليجعلوا منها رمزاً للالتزام بالأخلاق والقيم المسيحية. وهكذا، أضحى الوصول إلى سدة الحكم في أمريكا مرتبطاً، إلى حد بعيد، بتأكيد ولاء واحترام المرشح الرئاسي للرموز الدينية.
يظل الوازع الديني والانتماء الطائفي دوافع خفية في تشكيل الخريطة التصويتية للسباق الرئاسي. فمنذ ستينيات القرن العشرين، تداخلت الصلة بين الدين، العرق وأنماط التصويت الانتخابي. لدرجة أنه يمكن لاستطلاعات الرأي ومحللي الانتخابات، تحديد السلوك التصويتي بدقة هائلة، بناءً على هوية الشخص الدينية والعرقية. ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز «بيو»، العام الماضي، يُعرِّف 88% من أعضاء الكونجرس، أنفسهم كمسيحيين. وتهتم صحف ومراكز أبحاث أمريكية بعقيدة كل مرشح وطائفته الدينية، وموقف حملته الانتخابية من الدِّين. فيما يرى ثلث الأمريكيين أنّ السياسات الحكومية ينبغي أن تدعم القيم الدينية. وفي حزيران/ يونيو الماضي، أظهر استطلاع لذات المركز البحثي، أن أنصار، ترامب، أكثر ميلاً من أنصار، بايدن وهاريس، إلى تفضيل دور حكومي أوسع في دعم الدِّين، الذي يجب أن يتسع حضوره في السياسات العامة.
في مقاله المعنون: «الدِّين في السياسة الخارجية الأمريكية»، يذهب الكاتب، والتر ميد، إلى أن أمريكا، رغم علمانيتها تظل مؤمنة ومتدينة حتى النخاع، إلى الدرجة التي تستوجب تسميتها «بلد الرب». ويُرجع ذلك إلى هجرة «البيوريتانيين»، الذين فروا من جحيم التعصب الدوغمائي في أوروبا القرون الوسطى، ليجدوا الملاذ الآمن في الأرض الجديدة، التي اعتبروها أرض الميعاد. أما أغلبية الأمريكيين، فتنظر إلى بلادها على أنها تمثل حصن المسيحية، التي تحمل رسالة سماوية يتوجب عليها إبلاغها لكل شعوب العالم. ويعتقد “ميد” أن المسيحية البروتستانتية، في نسختيها الصارمة والليبرالية، تمثل أهم أسس الهوية القومية، وتؤثر في التوجهات الكبرى للسياسية الأمريكية.
- • •
رصدت أستاذة اللاهوت الأخلاقي بجامعة سان أنطونيو، ميل ويب، تعاظم تأثير المسيحيين المحافظين في السياسة الأمريكية بشكل تدريجي خلال السنوات الخمسين الأخيرة. ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي، وضع القسيس، جيري فالويل، البذرة الأولى لتأثير اليمين المسيحي المتديّن في السياسة الأمريكية من خلال إنشاء مؤسسة باسم «الأكثرية الأخلاقية»، تتوسل إرساء القيم المسيحية بواسطة السبل القضائية والسياسية.
لطالما أظهرت الاستحقاقات الأمريكية المتعاقبة أهمية تأييد القساوسة لمرشحي الرئاسة. حيث يتهافت المرشحون الرئاسيون للحصول على مباركة رجال الدِّين، لإضفاء طابع أخلاقي وديني على حملاتهم، وإظهارهم مؤيدين للقيم والمبادئ، التي تهم المتدينين في أمريكا، لجذب أصواتهم. وفي مقال نشره بمجلة «ذا كونفرزيشن»، في كانون الثاني/ يناير الماضي، بعنوان: «اختلاط الدِّين والكنيسة بالانتخابات الأمريكية»، استعرض، توبين ميلر، أستاذ التاريخ بجامعة مونتانا، تأثير الكنيسة الحيوي في توجهات الناخبين. وبحسب مجلة «الإيكونوميست» البريطانية، يعتقد ثلاثة أخماس المؤمنين بالنبوة، أن الانتخابات الحالية قد تكون الفرصة الأخيرة لتخليص أمريكا من النفوذ الشيطاني.
دأب السياسيون الأمريكيون على صبغ الحملات الانتخابية بمسحة دينية. ومن هذا المنطلق، عكف مرشحو الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على توظيف الدِّين أداة خطابية لاستمالة الناخبين المتدينين. فرغم عدم تدينه حرص ترامب على تبني ذلك النهج. حيث أرجع نجاته من حادثة إطلاق النار عليه، في تموز/ يوليو الماضي، إلى العناية الإلهية. وإبان افتتاح مؤتمر ترشحه للرئاسة بولاية أيوا، مطلع العام الجاري تشرين الثاني/ نوفمبر، تفاخر بحصول حملته الانتخابية على تأييد القساوسة ورجال الدِّين بالمقاطعات الـ99 للولاية؛ علاوة على دعم أبرز قساوسة الكنيسة المعمدانية التاريخية في تكساس.
رغم عدم تبنيه إيمان الإنجيليين والكاثوليك، وتناقض سيرته مع تعاليمهم، نجح ترامب في توظيف دعمهم، لانتزاع فوز صعب برئاسة 2016. ولم يتورع المرشح الجمهوري، الذي ترعرع بالكنيسة المشيخية البروتستانتية، عن التحالف السياسي معهم، ورفع الإنجيل أمام كنيسة القديس يوحنا بواشنطن عقب مقتل المواطن الأسود جورج فلويد. فضلاً عن تبني مطالبهم الانتخابية، كمثل: تجريم الإجهاض، منع زواج المثليين، وإدخال التعليم الديني إلى المناهج الدراسيّة. ويرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة «أوكلاهوما»، صموئيل بيري، أن الإنجيليين يناصرون ترامب، بوصفهم محاربين ثقافيين يتعرضون للملاحقة الثقافية والعرقية، ويرونه ملكهم المحارب والمخلص، الذي يتجاوز كونه مرشحاً رئاسياً، ليغدو رمزاً وطنياً ومُصلحاً دينياً. حتى وصل به الأمر حد تشبيه ما يلاقيه من محاكمات وملاحقات قانونية، بما جرى للمسيح من قبل اليهود.
مستجدياً دعم الناخبين اليهود أعلن ترامب أمام القمة الوطنية للمجلس الإسرائيلي- الأمريكي بواشنطن يوم 19 أيلول/ سبتمبر الماضي، أنه حالة خسارته الانتخابات الرئاسية، سيلقي باللائمة، جزئياً، على الناخبين اليهود، المُغرمين بالتصويت للديمقراطيين. محذراً من أنه إذا صوّت 40%، أو 60% منهم لهاريس، فإنَّ إسرائيل ستتلاشى في غضون عامين.
- • •
بدورها، أبت هاريس إلا مقارعة ترامب في ذات الميدان، عبر تسليط حملتها الرئاسية الضوء على وضعها الإيماني. حيث تحدثت، مؤخرًا، في كنيستين بولاية جورجيا المتأرجحة. وخلال فعالية أقيمت بولاية بنسلفانيا، المتأرجحة أيضاً أعلنت أنها، وبعدما انسحب الرئيس بايدن، في تموز/ يوليو الماضي من السباق الانتخابي، داعياً إياها لإكمال المسيرة بدلاً منه؛ قامت باستدعاء كاهنها من الكنيسة المعمدانية الثالثة بسان فرانسيسكو، طلباً لدعمه الروحي. وفي حوارها مع شبكة «سي إن إن» الإخبارية، أكدت أنها تصلي مرة أو مرتين كل يوم. مُستدركة: «نشأت لأؤمن بإله مُحب، وأن أؤمن بأن إيمانك هو فعل فأنت تعيش إيمانك».
توشك مساعي ترامب وهاريس لاستمالة الناخبين المتدينين، أن تصطدم بكتلة تصويتية كاثوليكية تشكل نحو 52 مليون نسمة، وتمثل نسبة 20% من سكان الولايات المتحدة؛ وغالباً ما تُعد حاسمة في ولايات متأرجحة، مثل بنسلفانيا وويسكونسن. ففي أواسط أيلول/ سبتمبر الماضي، انتقد، فرنسيس، بابا الفاتيكان، وزعيم نحو 1.4 مليار كاثوليكي حول العالم، المرشح الرئاسي الجمهوري؛ الذي اعتبره غير مسيحي في آرائه؛ بسبب خطته لترحيل ملايين المهاجرين، والتي نعتها البابا بالخطيئة العظمى. كما انتقد منافسته الديمقراطية بجريرة دعمها حق الإجهاض، الذي تُحرمه الكاثوليكية، ويراه البابا اغتيالاً. وبعدما حثهم على التصويت في الاقتراع الرئاسي الحالي، أشفق الحبر الأعظم على الكاثوليك الأمريكيين من اضطرارهم للمفاضلة بين أهون الضررين.
* كاتب أكاديمي وباحث مصري
المصدر: الشروق