الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الضاحية قبل “حزب الله”… خوف مسيحي من الشيعة والفلسطينيين (2 من 4)

محمد أبي سمرا *

بعد سنة أو أكثر بقليل من “نكبة” فلسطين سنة 1948، أُنشئ مخيم اللاجئين الفلسطينيين بين قريتي برج البراجنة وحارة حريك. والأرجح ليس من تفسير واضح لإنشاء السلطات اللبنانية آنذاك المخيمَ في ذاك المكان، سوى الخيار القصدي أو العشوائي الذي عزل القريتين أو البلدتين المتجاورتين، الشيعية والمسيحية.

وفي منزلٍ بضاحية الحدث التي هُجّرت إليه عائلته من حارة حريك المجاورة في أواسط حروب الثمانينات بلبنان، روى “عبدو دكاش”- المولود سنة 1958، وابن أكبر عائلات حارة حريك المسيحية وأقدمها توطناً فيها- أنه في طفولته وفتوته بحارة حريك، مع كثرة من أطفالها وفتيانها (المسيحيين طبعاً)، كانوا قبل سنوات من بدء الحرب الأهلية بلبنان سنة 1975، على عداوة شبه غريزية موروثة مع أمثالهم الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة المجاور.

لقد وُلدنا ونشأنا- قال عبدو- على كراهية الأولاد الفلسطينيين، كأننا رضعناها مع حليب أمهاتنا. وبعدما تصلّب عودنا قليلاً، وصرنا نخرج من بيوتنا لنلعب على تلال رملية مقابلة لمخيمهم، رحنا نقذفهم بحصى النقيفات (قاذفة حصى من كاوتشوب وخشب) التي نحملها لنصيد بها العصافير. لكنه استدرك قائلاً: كان شبان ورجال ونساء كثيرون من آباء الأولاد الفلسطينيين وأمهاتهم وإخوتهم الكبار، يشتغلون في أرضنا وحدائقنا وبيوتنا، وتقوم علاقات يومية بينهم وبين أهلنا.

أما نسيب سعادة- ولد في حارة حريك سنة 1952، ونشأ في عائلة توطنت فيها منذ بدايات القرن العشرين، ووالده محازب شيوعي- نَسَبَ كراهية الفلسطينيين إلى حساسية أهلية مسيحية عامة لابست إقامة مخيمهم على حدود الضيعة. وروى أن أهالي الحارة كانوا يُحرّضون أبناءهم على ضرب أولادهم بالأحذية (كناية معنوية عن العنف الممزوج بالاحتقار)، كلما صادفوا ولداً منهم في مكان، ولو في بستان يقطف منه نبات “الحُميض البري” الداشر، ليأكله. وحين كانت سحنة ولد أو “خلقته” تنبئ بأنه قد لا يكون من الحارة، فكنا- تابع نسيب- نوقفه ونستنطقه صارخين في وجهه: شو (ما هو) اسمك ولاه؟ فإذا أوحى اسمه ولهجته بأنه فلسطيني، كنا نبادر فورا إلى الاعتداء عليه، فنضربه ونسحقه. ووحدهم أولاد أبو نادر الفلسطينيون (والدهم صاحب طنبر: عربة يجرها حصان لنقل الخضار) كنا نُصاحبهم، لأنهم مسيحيون”.

وتذكرَ نسيب مشهداً يعود إلى حوادث 1958الطائفية، يتصل بكراهية مسيحيي الحارة للفلسطينيين وعنفهم عليهم: كان والدي جالساً على كرسيّ صغير من قش أمام بيتنا في البستان. مسدسه ظاهر في جيب بنطلونه الخلفي. وظهر في طرف البستان رجل يركض نحوه صارخاً مستجيراً: “دخيلكم بدن يقتلوني” (يريدون قتلي). وظهر خلف الرجل شبان سبعة أو ثمانية يحملون بنادق صيد. ولمّا قال الرجل المطارد لاهثاً إن اسمه أبو محمد، ويعمل بائع مكانس جوّال، والشبان الراكضون خلفه يريدون قتله لأنهُ مسلم، شهر والد نسيب مسدسه في وجه شبان بنادق الصيد، فقال أحدهم: “عطينا ياه (إياه) بدنا نقتلو”. كانوا يعرفون الرجل وهو يعرفهم ويعرف أهلهم، فزجرهم وصرفهم.

وعُرف أن الرجل المسكين كان من ركاب بوسطة قادمة من صيدا، أوقفها مسلحون مسيحيون في الحدث القريبة. ولمّا علموا أن بائع المكانس مسلم، أرادوا إنزاله من البوسطة، فأبى خائفاً مرتاعاً، فهددوه ببنادقهم، ثم أطلق أحدهم النار عليه، فأصاب خطأ شخصاً مسيحياً. ذُعر الركاب وتدافعوا خارجين من البوسطة، ففرّ أبو محمد، وظل الشبان المُسلحون يطاردونه.

ولادة فتّوات شيعة:

كان النزاع الأهلي- الطائفي في ربيع 1958 قد أطلق طفرة قوية من توسع العمران العشوائي ومن إقبال أبناء عشيرة المقداد وسواهم عليه في حيّهم على تخوم حارة حريك. واستمر تمدد حي المقداد حتى صدر قانون مسح الأراضي وترتيبها سنة 1964 (في العهد الرئاسي الشهابي الإصلاحي) فنظم استعمالاتها والبناء عليها.

لم تقوَ المدارس وأنظمتها على حمل “رستم المقداد” وإخوته الـ18 على تجاوز المرحلة الابتدائية من التعليم. فقد ضرب مُدرساً وطُرد من مدرسته، فشغّله والده سنتين أو ثلاثاً في مَشّغل حدّاد سيارات في وادي أبو جميل بوسط بيروت. وحوادث 1958وأخبارها الطائفية والأهلية في أحياء بيروت، ألهبت مخيلته وغذّت ميوله إلى الفتوّة.

والمعروف أن الرئيس كميل شمعون كان في عهده الرئاسي (1952-1958) واسع النفوذ لدى وجوه من العائلات الشيعية المحلية والمفاتيح الانتخابية في برج البراجنة (آل عمار خصوصاً) والغبيري والشياح (آل الخليل والحاج). لكن حوادث 1958- وهي جيّشت الشارع الإسلامي (السني البيروتي خصوصاً) ضد العهد الشمعوني في نهاياته، على قاعدة العروبة الناصرية الجماهيرية- قد تكون لجمت ولاء العائلات الشيعية الشمعوني في الساحل وكتمته.

وعلاجاً لحوادث 1958 وذيولها، راح ضباط جهاز الشعبة الثانية (المخابرات العسكرية) لعهد فؤاد شهاب الرئاسي (1958-1964) يُهمشون التيار الشمعوني، ويستميلون المفاتيح الانتخابية وفُتوات الأحياء وقبضاياتها ويُجندونهم مع زمرهم المحلية في الشارع الإسلامي. وهذا إضافة إلى دعمهم وجوهاً من رجالات الصف الثاني في المدن السنية. ولمواجهة هذه “الخطة” الشهابية، عمدت الزعامة الشمعونية المحاصرة مسيحياً بـ”حزب الكتائب” وبـ”المد الناصري الشعبي” إلى اتباع الأسلوب الشهابي نفسه: الاعتماد على وجوه محلية وفتوات وقبضايات في الأحياء المسيحية وفي بلدات ساحل المتن الجنوبي، وخصوصاً وجوه العائلات الشيعية الموالية لها في تلك البلدات، لمجابهة نفوذ الفتوات والقبضايات في الشارع السني البيروتي.

أدى ذلك إلى ظهور فتوات وقبضايات شيعة وبروزهم في بلدات الساحل. وقال رستم المقداد إنه كان في عدادهم، ومنهم: عباس الحاج الشمعوني (قريب أمه). عكيف وحمزة السبع (الأرجح أنهما كانا مناوئيّن للشمعونية في حوادث 1958). حسن حرب، علي جواد الخليل، وسواهم من برج البراجنة.

قد يشير ظهور الفتّوات وتفشي العمران العشوائي في حي المقداد ومخيم البرج الفلسطيني إلى بدايات تحول القرى الساحلية ضواحي لبيروت. فمسرح أولئك الفتوات الشيعة وعملهم كانا سوق الخضار، ومحطات النقل، ومواقف سيارات السرفيس، والمرفأ، في وسط بيروت. فبعدما كان “معلمو” سوق الخضار، أي فتواته وقبضاياته النافذون، من السنّة والمسيحيين، وفقا للمقداد، كرّست حوادث 1958وذيولها نفوذ “مُعلمين” شيعة، تصدّرهم عباس الحاج، الذي شق طريقهم في السوق ومواقف السيارات، ضد استفراد الفتوات والقبضايات السنّة المدعومين من صائب سلام، قبل أن يستميلهم جهاز الشعبة الثانية الشهابي.

وروى منح الصلح (1927-2014) أن من كان يسيطر على “معدة” بيروت (أي سوق الخضار ومعلّميها “الرياس”) كان يسيطر على بيروت كلها، ويُعطل الحياة العامة فيها. وكان لشبكات الفتوات والقبضايات التابعين للزعماء السياسيين دور أساسي في تلك السيطرة.

العنف ومتحف البراءة:

ومن روايات المقداد عن المناكفات الأهلية السابقة وشبه الفلكلورية بين السكان المحليين، أن المدعوة “حَسْنة عمّار- زوجة يوسف عمار”، الشيعي الشمعوني الهوى والولاء، وأحد أعيان آل عمار في قرى الساحل، وصاحب إسطبل للخيل في ميدان سباق بيروت- وقفتْ على شرفة منزلها في حارة حريك، مُزغردة فرِحة بفوز كميل شمعون برئاسة الجمهورية اللبنانية سنة 1952. حدث ذلك بُعيّدَ إجبار الرئيس بشارة الخوري على الاستقالة من الرئاسة، عقب ما سُمي “ثورة بيضاء” على عهده الرئاسي المُجدّد له، وانتخاب شمعون، أحد أقطاب تلك “الثورة”، رئيساً جديداً للجمهورية. وعندما سمعت الزغرودةَ الفرِحة شقيقةُ جريس الطيار- الثري المسيحي وصاحب الأملاك في حارة حريك، والمفتاح الانتخابي للشيخ الرئيس بشارة الخوري وكتلته النيابية الدستورية- خرجت إلى شرفة منزلها، على مدخل حي المقداد، وقالت لجارتها الشيعية: حسْنة، حسْنة، لشو (لماذا) عَمْ (شرعتِ) تزلغطي (تزغردين)، لشو يا حسنة؟! راح بشارة وإجا (جاء) كميل، مش (ليس) محمد أو محمود أو حسن أو حسين.

والعلاقة بين آل المقداد والسكان “الأصليين”، وخصوصاً المسيحيين، تنطوي على أحقاد وضغائن اجتماعية، نجمت عن تفاوت، بل عن اختلاف بين نمط العيش والعلاقات الداخلية في حي المقداد العشائري، ونمط عيش السكان “الأصليين”. هذا فيما الهويات العائلية والطائفية والمناطقية، ركن علني أساسي ومتأصل في تكوّن لبنان الاجتماعي والسياسي وصراعاته. والتجاور والاحتكاك بين أهل هذه الهويات يبعثان على العنف بين الجماعات اللبنانية المترجحة بين تعايشها وتنافرها.

وقبل حضور فلسطينيي مخيم برج البراجنة، كانت ريبة مسيحيي حارة حريك ونفورهم من نشأة حيّ المقداد ونظرتهم إليه نظرة خائفة مزورّة، وتنطوي على فوقيّة متعالية عليهم وعلى نمط حياتهم وعلاقاتهم، بوصفهم من مرتبة اجتماعية دونية.

غير أن  الحصر الاجتماعي- النفسي الذي يتكبّده أهالي حي المقداد، جراء نظرة المسيحيين المتعالية عليهم، والتي تُنزلهم منزلة دونيَّة، لم يمنع رستم المقداد من الإفصاح عن افتتانه وسواه من أمثاله وأهله، بنمط العيش في حارة حريك، فقال إنه كان جميلاً، وتابع: كانت الحارة ضيعة نموذجية في نظام الحياة ورقة العيش ورغده ونعومته وأناقته فيها. كأنها كانت متنزها لمن يرغب في الترويح عن نفسه. ومن يريد أن يتمشى إلى جانب صبيّة في الهواء الطلق، كان يقصد شوارع الحارة ليتمشى بين البيوت المتباعدة وحدائقها وعلى دروبها بين البساتين. وكان سكان تلك البيوت يحبون هناء العيش وطيبه، على خلافنا نحن أبناء الشظف والقسوة في حيّ المقداد. فهم كانوا يعملون في أيام الأسبوع، من الاثنين إلى الجمعة، ويتركون السبت والأحد للعطلة والراحة والتزاور والمشاوير والذهاب إلى الكنيسة. وفي ظَهيرات العطل الأسبوعية يمدّون موائد في البيوت أو أمامها في الحدائق البيتية. ولم تكن الموائد تخلو من كؤوس العرق، فيما الرجال والنساء الجالسون حولها يلبسون ثياباً أنيقة زاهية.

أسلمة الضاحية:

كان الراوي خليل خالد الفغالي لا يزال في سلك الأمن العام، عندما جاء في نهار من عام 1962 في مهمة إلى مكتب مفوض عام الأمن العام ورئيس دائرة بيروت وجبل لبنان للاستقصاء والمداهمات، المفوض عمر النويري. وفجأة دخل النائب الجنوبي الشيعي سليمان الزين ووزير التربية لاحقاً (1965-1966) إلى مكتب المفوض العام، زائراً وطالباً خدمة ما على الأرجح. وكان الزين عضواً في المجلس الإسلامي التابع أو المُنبثق عن دار الإفتاء في بيروت، قبل إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

تلقى المفوض النويري مكالمة هاتفية من رئيسه المدير العام للأمن العام توفيق حلبوط، فاضطر إلى مغادرة مكتبه قائلا للنائب الزين إنه مضطر لتركه قليلاً من الوقت مع خليل (الراوي) لكي يُسلّيه، مضيفاً: خليل من أفضل مفتشي التحري عندي. ثم التفت المفوض إلى خليل قائلاً: اقعد هنا، سَلّيلي معالي النائب سليمان بيك، أنا راجع. وفور خروج المفوض من مكتبه، دار بين النائب ومفتش الأمن العام الحوار التالي:

النائب: منين أنت سيد خليل؟

المفتش: من برج البراجنة.

النائب: من بيت مين؟

المفتش: من بيت خالد.

النائب: في بيت خالد بالبرج؟!

المفتش: نعم.

النائب: أنتم سنة أم شيعة؟

المفتش: كوكتيل، معالي النائب.

وروى المفتش أنه تكتّمَ على طائفته المسيحية ما دام سؤال النائب ينطوي على أنه اعتبره مسلماً. واسمه (خليل) وكنيته العائلية (خالد)- التي لم يُضف إليها الفغالي- لا يكشفان عن مسيحيته. وهذا ما حمل النائب الزين على القول له: إن شاء الله سوف نؤسلم لكم الضاحية قريباً يا خليل.

لم يكن المفتش قد سمع بعدُ كلمة الضاحية، تُطلق على قرى ساحل المتن الجنوبي. أو أنه كان قد سمع بها، لكنه تجاهلها. وأتاحت له ندرةُ تداول هذه التسمية أن يسأل النائب مستغربا: الضاحية؟ شو يعني الضاحية؟ فقال النائب: ساحل المتن الجنوبي، سوف نؤسلمه، ونشيل المسيحيين منه. يا خيي بثورة 1958 هَلَكَنا كميل شمعون. لقد كان يأتيه السلاح من العراق وتركيا (أيام حلف بغداد) إلى مطار بيروت الذي ظل مسيطراً عليه، فلم يقدر الثوار على احتلاله، فيما كان الرئيس عبدالناصر يقول: احتلوا المطار، احتلوا المطار. وكمال جنبلاط حاول احتلاله. لكن هجومه عليه من الجبل فشل، بسبب الزنار السكاني المسيحي في ساحل المتن الجنوبي حول المطار.

دُهش المفتش ورغب في أن يسمع المزيد، فقال للنائب: كيف تؤسلمون الساحل يا معالي الوزير، كيف، قل لي كيف؟!

سوف نأتي بالمسلمين ونُسكّنهم في الساحل ليصير محيط مطار بيروت مسلماً، فسُّر النائب. فسأله المفتش مجدداً: أي إسلام، من أين تأتون بالإسلام، ما دام مسلم بيروت يحلف بغربته عندما يصل إلى حرج صنوبر بيروت، حسب عبارة شائعة؟!

أفصح النائب: الإسلام الشيعة من بعلبك والجنوب. وإمعاناً منه في التفسير والشرح، تابع: أيام كانت الريجي (شركة حصر التبغ والتنباك اللبنانية) في منطقة النبعة (في ساحل المتن الشمالي، أي الضاحية الشمالية لبيروت، لاحقاً)، قلّة من عمالها الشيعة أقاموا قربها في النبعة، ونقلوا إليها سجلات قيد نفوسهم.

واليوم، بعدما نقل كميل شمعون الريجي إلى الحدت، صار عمالها الشيعة مضطرين إلى التنقل يومياً بين الحدث والنبعة. لذا سوف نسهّل عليهم ونشجعهم على السكن والإقامة في مناطق قريبة من الريجي، وسوف يتكاثرون. ولذلك أنشأنا جمعية اسمها جمعية بناء المساجد، والرئيس جمال عبدالناصر دعمها. والجمعية هذه ستشجع الشيعة على شراء أملاك المسيحيين، وتتكفل ببناء مساجد لهم عندما يتكاثرون. ولأن المسيحي لا يطيق الإقامة قرب الشيعي، فسوف يهشل ويهرب. وبعد 10- 12 سنة يصير محيط المطار شيعياً.

هشاشة الصيغة اللبنانية:

لم يجرؤ المفتش الفغالي على كتابة تقرير عما سمعه من النائب الزين إلى جهاز الاستقصاء والتحري الذي يعمل فيه بسلك الأمن العام. لقد أخافته طائفية الموضوع. وخاف أكثر من أن يحمله المفوض النويري، رئيسه في السلك، على محمل طائفي، في حال كتابته ما سمعه من النائب في تقرير لا بد أن يجلب له المشاكل في وظيفته، وقد يؤدي إلى فصله من السلك. لذا قرر السكوت، رغم أن أقوال النائب أقلقته.

وتذكر الراوي الفغالي أن شخصاً من الشويفات يدعى “ميشال إسبر صعب”، وكان يقيم في تحويطة الغدير- برج البراجنة، أخذ يعمل أثناء حوادث 1958 وغداتها سمساراً في تجارة الأراضي، متعاوناً مع شخص شيعي يعمل على تشجيع بعلبكيين على شراء قطع أرض في كروم زيتون صحراء الشويفات، ويرغّب مُلاكها المسيحيين في بيعها. وتكاثرت الذكريات والهواجس في ذهن المفتش. وراحت تستفيق في ذاكرته صور تكاثر وفادة شيعة إلى قرى الساحل وتخوم بساتينها، فينزلون في “تخاشيب” (أكواخ خشبية) وغرف إسمنتية صغيرة مبنية على عجل، يقيم في الواحدة منها ما بين 5 و8 أشخاص من العمال. وأكبر تجمع وأقدمه من مثل هذه التخاشيب والغرف المتلاصقة، والمتحولة بناءً عشوائياً من طبقة أو اثنتين، نشأ في حي المصبغة ما بين الغبيري والشياح.

وعلى إيقاع توسع السكن البعلبكي، وخصوصاً في تحويطة الغدير وحول المريجة والضيعة، تزايدت هواجس مسيحييها. وهذا ما حمل مفتش الأمن العام على رواية ما سمعه من النائب الزين لوالده المفتش العام في وزارة التربية الذي اصطحب ابنه، في واحدة من زياراته الصرح البطريركي في “حريصا”، لإخبار سيد بكركي، البطريرك الماروني مار بولس بطرس المعوشي (1894-1975) بما رواه النائب الشيعي.

حدثت الزيارة عام 1965 في مطلع عهد الرئيس شارل حلو (1913-2001) وكان النائب الزين قد عُين وزيراً للتربية. وفيما كان البطريرك يستمع إلى الحكاية، أخذ يفرك يديه مضطرباً، فأشار عليه والد الراوي أن يُطلع رئيس الجمهورية على قلق مسيحيي المريجة وحارة حريك، فقال البطريرك: وماذا يستطيع الرئيس أن يفعل؟ يجب على المسيحيين أن لا يبيعوا أرضهم.

حَمَلَ المفتش التربوي العام قول البطريرك رسالة، وجعل يبثها بين أهل المريجة. وفي نهاية قداس أحد من العام 1965 وقف في كنيسة مار إلياس في الليلكي، وطلب من الأهالي عدم مغادرتها، ثم أغلق بابها، وخاطبهم قائلاً: في الحرب العالمية الأولى تعرضنا للجوع، ولولا “عبد الهادي العرب” ابن برج البراجنة، لكان نصف أهل الضيعة ماتوا جوعاً، لكننا لم نغادر أرضنا. اليوم، يا جماعة الخير، يجب أن لا نبيع بساتيننا وبيوتنا. هنالك مخطط لإخلاء الضيعة من أهلها المسيحيين الذين يبيع بعضهم قسماً كبيراً من أرضهم وكروم زيتونهم في الليلكي وفي تحويطة الغدير. ومن الآن فصاعداً يجب أن نصمد ونمتنع عن بيع شبر واحد.

هلّل أهل الضيعة لكلام المفتش التربوي مرددين: يسلم تمك (فمك) يا أستاذ، والله الحق معك يا أستاذ. لكن كلام الأستاذ في الكنيسة، سرعان ما ذهب أدراج الرياح خارجها، ما إن كانت تُعرض على المُلاك أسعار مغرية لبيع أرضهم. وأكد الفغالي أن السماسرة كانوا في معظمهم من المسيحيين الذين يُرغّبون مُلاك الأراضي في البيع، ويتعاونون مع سماسرة من الشيعة يؤمنون زبائن لشرائها. وارتفاع الأسعار وإغراؤها تكفلاً بإدخال الشقاق بين أبناء العائلة الواحدة من الملاك.

فإذا صمد أحد ورفض بيع أرضه، كان كلٌ من زوجته أو ابنه هذا أو ذاك يرغبونه تارة، وتارة يندّمونه ويحرضونه بلا توقف، فيستسلم أخيراً دفعاً لتحريض أولاده الطامحين إلى تغيير نمط حياتهم الزراعي، والارتقاء بها وتجديدها في مكان ومنطقة آخرين. هذا فيما كان تزايد نزول المهاجرين البعلبكيين على أطراف الضيعة، وطبيعة عيشهم المختلفة من العوامل الإضافية المُرجِّحة لاستسلام الملاك لرغبات نسائهم وأولادهم في بيع أرضهم.

* كاتب وروائي لبناني

المصدر: موقع المجلة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.